شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    علماء يكشفون سبب فيضانات الإمارات وسلطنة عمان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تفكيك السلطة القضائية السودانية: (4) الرشوة والقضاة .. بقلم: عشاري أحمد محمود خليل
نشر في سودانيل يوم 22 - 07 - 2014


(1)
أناقش في هذا المقال عدم أهمية الرشوة وعدم جدوى متابعتها أو إثباتها عند التصدي للفساد القضائي.
وكنت عرَّفت الفساد القضائي بأنه الكتابة الاحتيالية المتدبرة لنص القرار القضائي. حين ينسج القاضي نص قراره بتعمد اقتراف الأخطاء القانونية، وبتزييف الوقائع عن طريق الفبركة والكذب والتزييف وإقصاء الوقائع الجوهرية، وبالتدليس على ذلك كله بنشر الهراء وبتصنع عدم العلم بالقانون. كله باللغة، في النَّص.
فالقضاة الفاسدون في السودان طوروا فنيات في غاية الشيطانية لإنتاج الفساد. بواسطة نص القرار القضائي ذاته. القرار الذي لا يكتبه شخص غير القاضي. فيبدو القرار القضائي الصادر بريئا وكأنه صحيح. لكنه عند التفكيك يتضح حزمة من الأفعال الاحتيالية نسجها القاضي الفاسد بحبال الخداع والتدليس.
.
سمعنا رئيس الجمهورية ووزرائه والإنقاذيين يرددون: إذا كانت عندك بينات لإثبات الفساد فقدِّمها! وبشأن القضاة،يقصد ناس الإنقاذ أن يقولوا لنا: إذا شاهدت قاضيا يستلم رشوة، وصورته بالفيديو صوتا وصورة، وكان عندك شهود، فتكلم، وإلا فاسكت!
إن الإنقاذيين على علم أن إثبات الرشوة، خاصة رشوة القاضي، مستحيل. إلا في حالات نادرة لا يعتد بها. ونحن ندرك أن رئيس الجمهورية ووزرائه ليسوا جادين في محاربة الفساد القضائي. وإلا لكانوا من تلقاء أنفسهم وجهوا جهاز الأمن والمخابرات الوطني والمباحث الجنائية المركزية بمراقبة عصابات القضاة والمحامين المعروفة. وباتخاذ نوع التدابير التي كنت اقترحتها في مقالي السابق في سودانايل عن كيفية ملاحقة القضاة الفاسدين في الدرجات الأربع للمحاكم، وأعوانهم من المحامين والموظفين ومن قيادات السلطة القضائية المتسترين على الجرائم.
وتشمل تلك التدابير إخضاع القضاة والمحامين المعروفين بفسادهم للمراقبة اللصيقة، والتجسس على حساباتهم البنكية وعلى ممتلكاتهم المخفية.وأيضا على حياتهم الخاصة. حياتهمالخاصة لها علاقة وثيقة بفسادهم القضائي في المحاكم. وتشمل التدابير التنصت على مكالمات القضاة المعروفة للجهات الأمنية شركاتهم الإجرامية. والتنصت على رسائلهم البريدية. وزرع أشخاص بينهم ينقلون أخبار فسادهم. ونصب الكمائن لهم في عمليات ذكية. وكله في إطار القانون.
فلا فرق بين عصابات القضاة الإجرامية من جهة، وعصابات الجريمة المنظمة الأخرى. وإذا كانت المخدرات والأسلحة والبشر بضاعة العصابات الإجرامية الأخيرة، فالقرار القضائي الملفق هو البضاعة الرئيسة التي تتاجر فيها شبكات الجريمة المنظمة برئاسة قضاة همباتة قابعين في المحاكم. لابد من القبض عليهم، ومحاكمتهم، وتجريدهم من الأموال والممتلكات التي تحصلوا عليها ببيع قراراتهم القضائية.
(2)
لا يمكن أن نربع أيدينا ننتظر جهاز الأمن ليضطلع بتفكيك عصابات الجريمة المنظمة في المؤسسة القضائية. بل لابد من العمل الشعبي الدؤوب من قبل المتخصصين ومن الشباب المهمومين للاندراج في مقاومة يومية شاملة ضد الفساد في المؤسسة القضائية. لا يغير من ذلك حتى إذا فاجأنا جهاز الأمن جاءته ليلة القدر في هذه الأيام الأخيرة من رمضان وقرر أن يخضع العصابات القضائية الفسادية للتدابير المقترحة.
لهذا السبب أرى أن يكون إثبات فساد القاضي تحديدا في ذلك الذي يريد القاضي حمايته من أي نقاش أو انتقاد. نص القرار القضائي الصادر. مسرح جريمة القاضي الفاسد وسلاحه للنهب المسلح. القرار المحمي بالاستقلالية القضائية الاحتيالية، وبالحصانة القضائية المستلبة من الشعب في غفوة من غفوات مثقفيه العارفين. وباعتماد السرية. فالقضائية السودانية تكاد تكون الوحيدة في العالم التي لا تنشر جميع قرارات المحكمة القومية العليا. تحديدا لعلمها الثابت أن الفساد القضائي مسرحه القرارات القضائية. وهم بالطبع سيحاولون المغالطة بالقول المرائي إنهم نشروا قرارات من المحكمة العليا. صحيح. لكن ليست هذه هي نقطتي. يجب نشر جميع القرارات القضائية من المحكمة العلي ومن محاكم الاستئناف. وكلها مطبوعة أصلا بالحاسوب فلا تتطلب إلا نقرة وحيدة لتكون في الأنترنيت.
(3)
ارتبطت الرشوة بالفساد القضائي، بصورة لصيقة. لكني سأحاج أن الرشوة لا تعرِّف الفساد القضائي، ولا هي مهمة لتعريف الفساد القضائي. وأنها خارجية على طبيعة الفساد القضائي.
الرشوة في لسان العرب «معروفة». ومنها «المراشاة» بمعنى «المحاباة». هي «الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرشاء الذي يتوصل به إلى الماء، فالراشي هو من يعطي الذي يعينه على الباطل. والمرتشي هو الآخذ. والرائش هو الذي يسعى بينهما، يستزيد لهذا، ويستنقص لهذا». وجاء في اللسان: «استرشى [القاضي] في حكمه، ... طلب الرشوة عليه».
ومن تعقيداتها فقه الرشوة المعروف في الإسلام جاء فيه «أن ما يُعطي توصلا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل في [الرشوة]. وأن «ابن مسعود كان أُخذ بأرض الحبشة في شيء، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله». وأنه رُوي عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: «لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم». وكله يبين الطبيعة المتأرجحة في فكرة الرشوة وفي ممارستها.
أما في الثقافة القانونية الإنجليزية والأمريكية فكلمة الرشوة، bribe «برايب»، يتم تعريفها على أنها «الشيء بالشيء»، ومما نجده في التعبير الساري المأنجلز من اللاتينية (quid pro quo). ويتم تعريفها على أنها «التبادل غير المقبول أخلاقيا مع شاغل المنصب الرسمي لأجل عمل قصد له المجتمع أن يكون مجانا». فالفعل غير مقبول، وبدون مبرر.
.
إن القضاة الفاسدين في السلطة القضائية السودانية يتلقون الرشوة مقابل أفعالهم الفسادية الإجرامية. قضائية أكانت تلك أفعالهم أم إجرائية أم إدارية في محاكمهم. أو هي كانت أفعالا خبيثة يقترفونها. أو سلوكيات أخلاقية شخصية يأتونها، خارج مجالس القضاء في المحاكم، في مساحات القضائية وما بعدها في مجالات الحياة العامة والخاصة. فيتحصلون على مكاسب عديدة. هي الرشوة. بأشكالها المتعددة. كالمبالغ المالية الصغيرة أو المقدرة. أو البضائع مثل السكر والدقيق وبقية المؤن تنقل إليهم في بيوتهم، وكأنها هدايا عادية بسبب مولود أو وفاة أو مناسبة اجتماعية. ويتحصلون على الخدمات من نوع آخر تعرض عليهم من المتقاضين عديمي الأخلاق من الذين ليس لهم من حق أو قضية. ويستلم القضاة مرحبين المساعدات ذات العائد المالي، المقدمة كهدايا غلولية مغلفة.
ويتلقى القضاة الفاسدون الرشوة مقابل أفعالهم الإجرامية في شكل «الرضا» من قبل زملائهم القضاة، وفي شكل «الارتياح» إزاءهم. هذه المشاعر تتم ترجمتها في الواقع إلى مردود مادي. ويتحصلون على هذا العائد العاطفي ذي المردود المادي عند إبداء همتهم لإنقاذ قاض زميل لهم تم القبض عليه متلبسا بجريمة التأثير على سير العدالة، أو بجرائم التزوير والتحشير والاتفاق الجنائي. أو عند مساعدتهم لإنقاذ موظفة في المحكمة تم القبض عليها متلبسة كذلك بجريمة «المعاونة» للقاضي الفاسد، فتكون مدينة بخدمة فسادية مستقبلا. فالتستر الداخلي على الفساد يظل ثقافة ثابتة في السلطة القضائية.
والقضاة الفاسدون تتم ترقيتهم من قبل رؤسائهم المفيدين من ريع عائد الإفساد في محاكم الأولين. وكثير من القضاة الفاسدين يتم اختيارهم، بالمحاباة، دون استحقاق، للإعارة إلى دولة خليجية غنية. بسبب الاستثمار السبقي في الأفعال الفسادية الصغيرة والكبيرة التي كانوا قدموها يوما رشوة لرؤسائهم يتوقعون منهم أن يردوها كالشيء بالشيء.
.
ولأن الفساد القضائي ارتبط في المخيلة الجمعية في الثقافة السودانية بالرشوة، ولأنيلا أعتمد الرشوة جزءا من تعريف الفساد القضائي، ألتفت الآن إلى هذا البعد في موضوع الرشوة لمناقشته في إطار مفهمتي للفساد القضائي في السودان. غرضي عدم تضييع الوقت والجهد في ملاحقة إثبات الرشوة بالطرق المستحيلة التي يقترحها علينا الإنقاذيون الماكرون.
(4)
عدم أهمية الرشوة في فك طلاسم شفرة الفساد القضائي
إن الرشوة ليست جزءا من تعريف الفساد القضائي. ولا هي مجدية في تعريفه. وأرى أن مذكرة الحكم القضائي النهائي كافية، في ذاتها كأساس، لإثبات فساد القاضي. دون حاجة لإثبات الرشوة. لأن الفساد القضائي نوع متفرد بين أنواع الفساد المختلفة التي تدور في فضاء السلطة القضائية. فأُعرِّف «الفساد القضائي» على أن مساحته وموضوعه متمحوران في «نص مذكرة الحكم القضائي». وبالرغم من تعتيم السلطة القضائية على القرارات القضائية الصادرة إلا أن الساحة تضج بالقرارات القضائية بالمئات والآلاف. تنتظر التفكيك لبيان أي فساد قضائي فيها.
ليس في الرشوة شيء محدد يعرِّف طبيعة الفساد القضائي. لأن الرشوة فعل خارجي على عمليات الفساد القضائي الدقيقة. فنحننريد في مشروعنا لمقاومة الفساد القضائي أن ننفذ إلى دماغ القاضي الفاسد، بحثا عن «شفرة البرنامج الإفسادي القضائي». هذا البرنامج المشفر هو الذي يتم به إنتاج الفساد القضائي في أشكاله الداخلية المخصوصة. أي، إن الهم يدور حول حركيات الفساد القضائي وفنياته وبروتوكولاته ولغته السرية التي طورها قضاة السودان. تتلخص في الكتابة الاحتيالية المتدبرة لنص القرار القضائي. وتشمل الحركيات: الكذب والغش والانحراف والتصنع والهراء والمغالطة والثرثرة والتزييف والتزوير والإقصاء والفبركة وغيرها.
ومن هنا تصبح الرشوة كفعل خارجي على الحركيات النصية الداخلية في القرار القضائي غير متعلقة بطبيعة الفساد القضائي ذاته. فهي ليست سوى فعل تسهيلي خارجي لا يمت بصلة لطبيعة الفساد القضائي أو لجوهره أو للكيفية التي يتم بها إنتاجه. وهذا تحدي كبير أمامنا لمقاومة الفساد القضائي. لكنه خطوة استراتيجية مهمة لتخريب معامير الفساد في السلطة القضائية السودانية. بتقويضها من الداخل. بأدواتها. بنتاج صنعتها. بقرارتها القضائية. فلن تتمكن السلطة القضائية وحلفاؤها في الإنقاذ من الرد علينا بمثل المغالطات المعهودة. إذا عندكم دليل فقدموه، يقصدون دليل الرشوة للقضاة. وهدفي هو أن لا نتركهم يختارون لنا أسلحتنا لمقاومة الفساد القضائي.
(5)
إن الرشوة مجرَّمة في أغلب الثقافات القانونية إن لم نقل كلها، بصرف النظر عن أن المرتشي هنا هو القاضي. وكل ما هنالك بشأن القاضي المرتشي هو أنه يتبين لنا أن ذلك القاضي مستلم الرشوة لا يعدو كونه سرَّاقا وقاطع طريق متربصا في محكمة، وحدث أن كان تم تعيينه قاضيا في تلك المحكمة. فليس ضروريا ولا كافيا أن ذلك القاضي قاطع الطريق السرَّاق استلم رشوة، لنقفز مشيرين أن انظروا «الفساد القضائي»! فكل ما في الأمر هو أننا هنا أمام «مجرم عادي»، هو المستخدَم في محكمة، وقد تم ضبطه يمارس فعل الرشوة المجرم في القانون. وأنه تبين لنا، عند التحقيق، أنه المجرم وُجِد موظفا في الخدمة العامة، في النظام القضائي، في تلك المحكمة، وبتفصيل هامشي أنه كذلك قاض.
فالفساد بالرشوة في مثل هذه الحالة ليس فسادا «قضائيا»، بالمعنى المصطلحي القوي الذي أريده كالأساس في مشروع المقاومة الشعبية للفساد القضائي. أو في إثبات الفساد القضائي ضد قضاة محددين يمارسون ذلك الإفساد. ويمكن له فقط ذلك «الفساد بالرشوة» أن يكون هو فساد القاضي كموظف حكومي وكمجرم عادي قد يطبق عليه القانون الساري، بعد رفع الحصانة القضائية عنه. ولا يغير من ذلك أن رفع الحصانة، وتطبيق القانون بشأن القاضي الفاسد المقبوض عليه متلبسا بجريمة في مجال الفساد العام، أمران يظلان مستحيلين في السلطة القضائية السودانية الفاسدة تتم فيها حماية للقضاة الفاسدين من قبل زملائهم القضاة الآخرين، فاسدين وغير فاسدين. فالقانون، في الواقع السياسي التجريبي الملموس، لا يطال الأغلبية العظمى من القضاة الفاسدين آكلي الرشوة بإجرام.
أما الحصانة القضائية، فتتحول، بتعقيداتها في الواقع المعاش لتكون لتحصين فساد القاضي. ولا يعتد بالحالات الفردية لنصب الكمين لقاض عرف عنه أنه لص يستلم الرشاوى، وعثر في حوزته ذلك القاضي على الأوراق المالية المعلَّمة. وكذا لا يعتد بمثل المواد في قانون المعاملات المدنية السوداني بشأن المسؤولية التقصيرية للشخص المستخدَم لدى آخر، هنا القاضي، عند تسبيبه الضرر للغير. فالواقع هو أن مثل هذه المواد القانونية لا يتم التعامل معها بالجدية اللازمة حين يتعلق الأمر بالقضاة الفاسدين. ولرأي مخالف، انظر الدراسة الوحيدة المنشورة في الموقع الشبكي للقضائية السودانية عن «مسؤولية القاضي التقصيرية عن أخطائه المبدئية». للكاتب القاضي-المحامي محمد صالح علي. ولا يكتب عن الفساد القضائي بمثل كتابته إلا قاض نزيه حقا.
ويشير الكاتب محمد صالح علي إلى الفصل الخامس من الباب الثالث من قانون المعاملات المدنيةالسوداني بشأن المسؤولية التقصيرية للشخص المستخدَم لدى آخر، هنا القاضي، عند تسبيبه الضرر للغير. تحت عنوان «الإضرار الشخصي الوظيفي والمهني». فالمادة 160 تقرأ: «كل شخص يكون مستخدما لدى آخر يتولى عملا لآخر يسبب أضرارا بالآخر أو بالغير استغلالا لوظيفته أو استهتارا بواجباتها أو إهمالا غير مبرر في أدائها يلزم شخصيا بتعويض الضرر الذي سببه للغير». ويشرح الكاتب كيف أن نص المادة 160 ونص المادة 162 من ذات القانون قد «حسما مسألة مسئولية القاضي وهما متمشيان تماما مع تعريف المسؤولية التقصيرية الوارد بالمادة 138 من القانون نفسه إذ ينص على أن "كل فعل سبب ضررا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض ولو كان غير مميز"».
(6)
فلأن الرشوة، بأشكالها، تقع خارج تعريفي المصطلحي للفساد القضائي، لا يكون مطلوبا أن أثبت بالدليل المادي أن ذلك القاضي استلم رشوة مالية أو جنسية. وإن كان استنباط استلام القاضي لرشوته المالية أو الجنسية متيسرا. بمجرد النظر في نص القرار القضائي في المذكرة التي صاغها هذا القاضي. وبالنظر المدقق في الوقائع الظرفية، وبالنظر في مجمل أفعاله الأخرى غير القضائية، خارج ذلك نص مذكرته بذلك القرار القضائي. دائما في وضعية القضية المستهدفة.
فالذي يحدث لإثبات فساد القاضي، وفق مقترحي،هو تفكيك نص حكمه القضائي الملفق، وتحليل ذلك النص في سياقه، وتبيين الانحراف عن القانون، وأفعال الغش والكذب والاختلاق والتزييف والتصنع والتدليس. عندئذ، سيتبين لنا أن القاضي الذي كتب قراره هكذا لابد حتما كان استلم، سرا، رشوته. في مكتبه في المحكمة، بعد انتهاء الدوام. أو في غرفة مغلقة في بيته أو في بيت المحامي أو في شقة مؤجرة. أو في أحد أزقة المدينة. أو في الحديقة العامة أو في شارع النيل القريب من مبنى الحقانية. في مأمن. بعيدا عن احتمال إلقاء القبض عليه متلبسا. وكذا يثبت عندنا أن هذا القاضي الفاسد كان وافق على الاضطلاع بتنفيذ الإجراء القضائي المرغوب من قبل الراشي.
عليه، لا جدوى من البحث عن ما إذا كان ذلك القاضي، الثابت فساده في نص قراره القضائي، استلم رشوة، أم هو كان قاضيا يغلب على طبعه «التصدُّق»، من الصدقة، بالقرارات الفاسدة للأطراف المستفيدة.
والقول إن القاضي أخذ رشوة لقاء حكم أصدره ليس مهما، ولا هو مجدي، لإثبات الفساد القضائي بشأن ذلك القاضي. لأنه لا يمكن الربط التسبيبي المباشر بين استلام الرشوة كالمقدمة الوقائعية، من جهة، والحكم القضائي الصادر كالنتيجة المنطقية، من جهة أخرى. والتاريخ زاخر بالأمثلة للقضاة الذين يحكمون بالحكم الصحيح قانونا، لكن فقط لقاء الرشوة المالية أو الجنسية أو كليهما. أي، بالابتزاز. رئيس القضاء الإنجليزي، السير فرانسيز بيكون، في القرن السابع عشر، مثالا. الذي حين تم القبض عليه متلبسا باستلام الرشوة، لم ينكِر؛ لكنه ادعى أن الرشاوى لم تؤثر قط على صحة قراراته القضائية. ففصله البرلمان من الخدمة العامة، بإطلاق، إلى يوم يموت. بسبب أنه ميؤوس من صلاحه بعد أن ثبت استلامه للرشوة، لا يغير من ذلك أن حكمه كان صحيحا قانونا.
كذا قد يستلم القاضي الرشوة، ومن بعد ذلك يخون الراشي. فيحكم بما هو صحيح قانونا، أو بما هو غير صحيح قانونا، حسب الأحوال. وكل ذلك لا يعلمنا أي شيء عن طبيعة الفساد القضائي أو جوهره. بل يحدثنا عن حركيات فساد خارجي يقترفه القاضي كشخص، وليس كقاض يضطلع بفعل قضائي هو كتابة نص قراره القضائي. وهذا هو الجوهري في تكنولوجيا الفساد في السلطة القضائية السودانية. الكتابة الاحتيالية المتدبرة لنص القرار القضائي. فيها بينات فساد القضاة. الفساد ذو الشأن. الفساد الذي يسرق الأطفال ويبيعهم، ويجلد، ويسرق، ويفسد في الأرض.
وهنالك الرشوة بطريقة إجرامية خلاقة من إبداعات العصابات من القضاة والمحامين. يجلس القاضي ومحاميا الطرفين ليحددوا، ثلاثتهم، الطرف المتقاضي الذي يكمن لديه العائد المالي الأكبر المحتمل لفائدتهم ثلاثتهم. ثلاثتهم فسدة. ومن ثم، يتم الاتفاق الثلاثي، بعيدا عن طرفي النزاع، أو بتغييب أحدهما، على سوء التمثيل من قبل محامي الطرف المستهدَف حيث العائد المالي الأقل، وعلى تلفيق القاضي للحكم لصالح الطرف محل العائد المادي الأكبر. فهذه الخدعة تتطلب عمليات محسوبة خبيثة ومنسقة بين الأطراف الثلاثة: القاضي والمحاميين. ويطلق على هذا الشكل من أفعال الفساد في مجال القضاء السوداني تعبير «التَّكْتَكة»، في العامية السودانية. وهو التعبير أصله في المصطلح الإنجليزي المعرَّب ب «تكتيك» في الخطاب العسكري.
(7)
إن الأشكال الفسادية أعلاه، تجعل الرشوة غير مهمة لدراسة الفساد القضائي أو لكشفه. والتركيز على الرشوة التي تحدث في السر عديم الجدوى في السعي لكشف الفساد القضائي أو في محاربته. خاصة حين نعلم أن القاضي الفاسد الفرد يحكم في مئات القضايا في العام الواحد. وفي كل واحدة منها حكم فيها بالفساد يكون استلم رشوته عنها. بينما المعروف هو أنه لا يتم القبض على القاضي مستلم الرشوة إلا نادرا وفي حالة واحدة على الأكثر من بين مئات حالات استلامه الرشوة. وقد يكون فيها هذه الحالة الوحيدة أصدر قرارا صحيحا وعادلا، لكن بالابتزاز لصاحب الحق والذي استجاب فدفع ما يمكن تسميته بالرشوة، لكنه في واقع الأمر اغتصاب واستعصار من نوع الابتزاز. وفي هذه الحالة لا تُلقي الرشوة الثابتة على القاضي أي ضوء ينير الطريق للتعرف على طبيعة الفساد القضائي، لأن الفساد ليس موجودا في ذلك نص القرار القضائي الصحيح تم الحصول عليه بالابتزاز.
إن وجود قضاة فاسدين، وتكثر القضايا التي يحكم فيها القاضي الفاسد، والسرية اللصيقة بعملية الرشوة، وقلة الحالات التي يكون فيها ممكنا ضبط هذا القاضي مستلما رشوته، كله يدعونا إلى التخلي عن ملاحقة الرشوة. تلك الملاحقة المتحدرة من فهم خاطئ للرشوة وللفساد القضائي وكأنهما صنوان متلازمان في جميع الأحوال.
وكذا تدعونا هذه الوضعية إلى التفكر في ابتداع طرق أخرى، غير تقفي أثر الرشوة، تكون أكثر نجاعة وإفضاء إلى القبض على القضاة الفاسدين متلبسين بالجريمة. وهذه «الطرق الأخرى» للقبض على القاضي الفاسد متلبسا مدارها «تعريف الفساد القضائي» بأن مكانه «نص القرار القضائي». مسرح جريمة القاضي الفسادية. النص المتروكة فيه آثار جريمة القاضي. النص المتمتع بالحماية وبالحصانة أكثر مما يتمتع به أي عمل قضائي أو غير قضائي آخر. مما كذلك يُفعِّل العزيمة لاستهدافه بالتفكيك في سياق المقاومة الشعبية ضد العصابات القضائية في المحاكم.
إضافة إلى أن الفساد القضائي، في أشكاله الحداثية في المؤسسة القضائية، لم يعد متعلقا ب «الرشوة». والقضاة الجدد الفاسدون في السودان لا ينتظرون «الرشوة» التقليدية، بخصائصها الخجولة في تباين مقاديرها، وفي اعتمادها المرائي على أنها غير ما هي. لأنهم هؤلاء القضاة الجدد، في وقاحهم القضائي، أنشأوا «علنا» شركاتهم الخاصة في داخل محاكمهم العلنية. لبيع القرارات القضائية. الصحيحة قانونا، وتلك المنسوجة بالأخطاء القانونية المتعمدة. أحيانا مجاهرين بذلك. في وضح النهار.
هؤلاء القضاة الجدد الفاسدون يفاوضون، عبر سماسرة المحامين، أو عبر الموظفين في المحكمة، وأحيانا مباشرة مع المتقاضي الزبون الراغب، بشأن الدفعيات المالية وغير المالية. لبضاعتهم المُسعَّرة وفق نوع قضيتها. ووفق مدى خطرها وأثرها وأهميتها. ووفق ضمان عدم إتلافها في مسار الطعن عبر درجات المحاكم. ذلك بالنسبة للمتقاضي الذي ليس له من حق ولا من قضية. أو بالنسبة للمتقاضي الآخر صاحب الحق الذي يسمع عن قلة أدب القضاة وعن عصاباتهم الإجرامية في المحكمة، فيريد بالرشوة أن يأمن شرهم. شراء لاستحقاقه في القرار القضائي الصحيح قانونا.
(8)
فأخلص إلى اعتماد موقفي المخالف إزاء الرشوة التي ظل يتم تعريف الفساد القضائي بها. وأرى أن الرشوة لا علاقة لها مهمة بالفساد القضائي أو بمقاومته. وأن ملاحقة الرشوة بشأن القضاة مضيعة للجهد والوقت وبقية الموارد التي ينبغي تكريسها للتحقيق في الفساد القضائي في مكانه في مسرح الجريمة، في نص القرار القضائي.
علما أنه توجد علاقة غير متوقعة بين الرشوة، من جهة، وإثبات الفساد القضائي في نص القرار القضائي، من جهة أخرى. فإثبات الفساد القضائي في نص القرار القضائي، على استقلال، كذلك يثبت، بالقرائن والاستنباط، استلام القاضي للرشوة. فليست الرشوة هي التي تُثبت الفساد القضائي. على العكس، الفساد القضائي، الثابت في نص القرار القضائي، هو الذي يُثبت، بمقتضيات العقل والمنطق، أن القاضي صاحب ذلك القرار القضائي الثابت فساده قد استلم الرشوة، حتما.
فيأتي مقالي هذا في سياق تطوير أدوات مقاومة الفساد القضائي. مؤداه أن لا ننشغل بمغالطات الإنقاذيين يتحدونا أن نأتي ببينة الرشوة. بينما هم، في مكرهم، يريدون أن يصرفوا نظرنا عن موقع إثبات الفساد القضائي وموقع مقاومة الفساد القضائي. في نص القرار القضائي.
عشاري أحمد محمود خليل
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.