[email protected] طبعًا نحن مختلفون في توليد وتصريف الأفكار كبشر ومنظومات ومجتمعات، وتحميلها المعنى الملائم لنا، ولنا تفاسيرنا الخاصة وتصوراتنا المختلفة للوجود. هذه البديهيات المعلومة، صارت أزمة خانقة. وتعميمًا: أنتجت، إشكالات في تفاسير المباديء، والمسافة التي نقف فيها، ومنها ننطلق ونبدأ في تركيب ذواتنا في (الآخر والأنا)، ونقدم دفوعنا الإشكالية والمنطقية من وجهة نظرنا، حيث نستمريء أن تتقاطع آراء الغير معنا، لجهة خذلانها لما تنتجه أقانيمنا الفكرية من قداسة وحصانة لذواتنا، ذات المبدأ المتعارض مع موقف انغلاقنا/ المنفتح من وجهة نظرنا. هذه السجون الفكرية آنفة الذكر، الآن تنتج تعقيدًا بالغًا في الممارسة الحياتية والثقافية والسياسية، وتدفع بحق وحرية التعبير، إلى هاوية بربرية وغوغائية وسوفسطائية. إذ يتبارى الخصوم على اختلافهم، للقول صراحةً؛ إنهم يقفون إلى جانب الحقيقة، غافلين أو متعمدين أن الحقيقية ذاتها لا تتعدى سوى أن تكون وجهة نظر ورؤية ذاتية، انبنت نتيجة للخبرات والتراكمات والموقف الشخصي والأخلاقي للوجود، وكونها تتشكل من جزئيات، إذا ما أقصينا التأطير المسبق للفظة حقيقة بمعناها المتعالي. يقف حق وحرية حرية التعبير، في مأزق كبير، بعد مواجهات ثقافية وآيدلوجية وفكرية، وتوسع فرص التعليم والإطلاع، وصيران العالم وانتهاؤه إلى فزاعة كبيرة من الشعارات المعممة والمؤدلجة. يتبادر إلى الذهن، وأنت تخوض في هذا -الوحل الفكري- الذي يعيشه الكل، ما يسميه السياسيون السودانيون، معارضين وحاكمين، (المشهد السياسي السوداني)، وما يلي ذلك من اصطفافات آيدلوجية وسياسية، وللأسف عرقية وإثنية تشكل مشهدا متعالياً على ما يُسمى المشهد السياسي ذاته، وقد أعيى المنظرون والمفكرون السودانيون، من دون أن يكون بالضرورة هؤلاء من النخبة المثقفة، إذ يجب أن نتحدث عن سياسيين عسكريون كان لهم النصيب الأوفر، في صناعة الفعل السياسي الواقعي. ومن ثم، فإننا مضطرون لأن نقول إن النخبة لم تعش إلا في الهامش السلطوي سواء كان تأييدا وتطبيلا للسلطة أو نقمًا وهجيًا لها. تواجه هذه النخبة الآن نفسها قبل أن تقوى على إنتاج فعّاليتها الخاصة بها من موقع عملها، من تنظير وتفكير وتدبير للحل، إذ يجب عليها أن تعيد بناء خطابها ومنطقها الداخلي، و قراءة واقعها الخاص وتكف عن القول إنها ناطقة بالمعاني الأسمى والمطالبات المجتمعية الملحة، وأن الملايين يجب أن يصيخوها السمع فوراً، حتى وإن سمعوها فهي لا تقول إلا المعلوم بالضرورة، حرية ، عدالة ، ديموقراطية، وتظل هذه أقوال طوباوية من دون قدرة وفاعلية على فصل المجتمع من تابوهاته المبررة بنظره من أوجه نظر عديدة. ففي وقت تعيش فيه النخبة من دون قدرة على الفعل وهي تزهو بتصوراتها للواقع البديل، إذ هي تفكر بذلك، تتخطى الوقائع وأن القطاعات المختلفة قد حققت الكثير من التقدم وهي تعلم تمام العلم أن الحلول التي يصدرها المثقفون ليس فيها جديد. لم يتم بناء أفق للتفكير أو اجتراح اختراقات في الأفكار يكون لها القدرة بالخصوص في فلق هذا الانغلاق العظيم الذي يواجه الدولة السودانية، فتفجع المثقفين وتفطر قلوبهم على الوطن لن يمنعنا من التلاشي ولن يجعل ضمير الحاكمين يرشد ويبدأ في التراجع عن قبضته شديدة الإحكام على الفعل وقياد التاريخ الوطني إلى سوح التقسيم ومحارق التشظي. لذا، فإن الإشكالات المأزقية الماثلة، لن تُحل طبقاً لتمنيات ومرثيات تبكي الوطن عند مضارب السلطة. لن يتشرذم شيء عند الفاعلين الحقيقيين، فهم يحتمون بثيمة التركيبة السياسية السودانية، بما فيها من تواضع وانبهات فكري، ومحافظة عقلية، لديها القدرة على صوغ الوقائع بما يتناسب مع التفكير المجتمعي وخبراته في النظر المحض إلى الأشياء كما هي مبذولة، وإن فَذلّكَ معنىً، فإن ذلك لا يعلو الجوهر الذي يلمع في ذهنه. ضبط التاريخ وإعادة البناء على أنقاض سياسية، أصبح عملًا عاتيًا، ولم يعد شأنًا داخليًا. إذ أن أي تغيير يحدث في العالم الآن تنقش ملامحه الكولينالية الغربية والتوازنات الإقليمية، فالمخاطر أكبر من أن تُحصر في الداخل، وأعظم من أن تُختزل في معارضة وحكومة، فهذا توصيف يخص الديموقراطية الغربية، هنا وضع أكثر تعقيدا. إذ الصراع على السلطة والثروة بلغ ذروته ويحتمي كلا بعصبيته وعصبته. فالمطروح سياسيًا عند كل الفاعلين ليس سوى تسوية تحفظ لكل مصالحه. فالنخبة في المحك. وخارج المعادلة على وجه التقريب، ولكن هذا لا يمنعها من أن تستفيق من تخدًُّرها السياسي وانقطاع رحمها الفكري عن دفع معنىً قادر على الحياة. بأصرح الحديث؛ لا يمكننا أن نتعامى عن كون الفاعلين الرئيسيين في الساحة هم من يحملون السلاح من الجانبين ،(نضالاً ودولة)، أما الأحزاب المدنية، بفعل المعادلة السياسية –وقائعيًا-، فهي مجرد وسيط/حجاز، وجد نفسه وسط النار التي تحرق العزل. لا نقول إنه لا حل يلوح في الأفق أو لا يتبادر إلى الأذهان، لكن هذا الحل لن يبلغ الحياة وفقًا للتوصيف الحالي للمشكل. لا تكمن المشكلة جوهراً في التوصيف أو الخطاب السياسي أو الثقافي كخطاب عام، لكنها تكمن بالضرورة في توحد هذا الخطاب على نفسه، وانعزاليته العالية عن الوقائع، كما أن ثيمته شعاراتية، بكائية ماضوية، فيما الوتائر التي تحرك الإمكان عجولة أكثر من أي وقت مضى. عمر الفاروق نور الدائم