Ibrahim Kursany [[email protected]] نود فى بداية هذا المقال أن نذكر، ولعل الذكرى تنفع المؤمنين، بأن جميع المجاعات التى ضربت السودان الحديث قد حدثت فى ظل الأنظمة الشمولية: مجاعة غرب السودان فى العام 1984، و مجاعة 2009، فى منطقة الدندر وولاية النيل الأزرق. و لعل حدوث المجاعات فى ظل الأنظمة الشمولية وحدها حكمة قد أراد بها المولى، عز و جل، إثبات خطل إستراتيجيات وخطأ سياسات تلك الأنظمة، التى لا تفضى إلا لإثراء قلة من منسوبيها، بغير وجه حق، و إفقار البقية الباقية من الفقراء و الغلابة و المساكين من المواطنين حتى الموت جوعا. و قد يستحيل نقد و فضح تلك الاسترتيجيات و السياسات، ناهيك عن تغييرها، فى ظل ترسانة القوانين الظالمة التى تحمى بها تلك الأنظمة نفسها، و مؤسسات القمع المناط بها تنفيذ تلك القوانين. لعل لسان القائمين على أمر البلاد و العباد، فى ظل تلك القوانين و المؤسسات يقول، "فليتجرأ من ثكلته أمه على توجيه النقد الى نظام حكمنا أو سياساتنا " !!؟؟ و لعل المفارقة الغريبة أيضا أن "أضحوكة" ، أو سمها "أحاجي"، أو سمها "نكتة"، إن شئت، السودان "سلة غذاء العالم"، لا تطفو الى السطح، و يسلط عليها الضوء من قبل جميع الأجهزة الإعلامية، بكثافة تثير الريبة و الشك، إلا حينما يكاد الجوع يضرب بشعبنا فى ظل الأنظمة الشمولية !! فلماذا إذن حدوث هذه المفارقة ؟ لماذا رفع هذا الشعار الزائف، بل و المضلل، فى الوقت الذى يتضور فيه شعبنا من الجوع ؟! إن رفع هذا الشعار البراق ، فى ظل الأنظمة الشمولية، لم يأت إعتباطا، و إنما مخطط له، بذكاء شديد، حتى يمكن أن يتم إستخدامه كسلاح آيديولوجى، يمكن من خلاله بث دخان كثيف حول النتائج الفعلية لتلك السياسات ، متوهمين أنه يمكن من خلال هذا الدخان، حجب رؤية الواقع البائس و المزرى الذى تعيشه الجماهير من جرائها. لكن، وبدلا من حجب هذا الواقع المؤلم، فقد حجب الله، سبحانه و تعالى، عن أبصارهم الحكمة اللازمة التى تمكنهم من صياغة الاستراتيجيات و الخطط، التى يمكن من خلالها، الحفاظ على المعادلة الموضوعية، و الضرورية، لمنع تدهور الوضع المعيشى حتى يصل مرحلة المجاعة ، و تمكنهم فى ذات الوقت، من الإدعاء بأن السودان يمكن أن يشكل "سلة لغذاء العالم" ، حيث يستحيل تصديق الإدعاء بإعتبار السودان "سلة غذاء العالم"، فى الوقت الذى يتضور فيه شعبه من الجوع !! إن حدوث المجاعة كواقع ملموس، و تسرب أخبارها، و من ثم فضحها، داخليا و خارجيا، يتناقض تناقضا صارخا مع ذلك الشعار الزائف، الذى رفعه فى أول الأمر النظام المايوى، حينما كان يجرى لاهثا لإستقطاب رأس المال العربى الى السودان، بعد الطفرة النفطية التى أعقبت حرب أكتوبر، فى منتصف السبعينات من القرن الماضى. وقد كان المقصود بذلك الشعار فى أول الأمر البلدان العربية الغنية بالنفط، و التى تضاعفت مواردها المالية ، جراء تضاعف أسعار النفط فى ذلك الحين. لقد نجح النظام المايوى، بالفعل، فى خداع تلك الدول، و تمكن من جمع مبالغ مالية لا يستهان بها من تلك البلدان، وجلب العديد من المؤسسات المالية الإسلامية للإستثمار فى السودان. ذهبت معظم تلك الأموال أدراج الرياح، فى ظل عدم توفر الشفافية، و الضوابط المالية اللازمة، و أجهزة الرقابة الضرورية، لضمان الأداء الفاعل لتلك المؤسسات. وقد تحولت تلك المؤسسات، فى ظل هذا الواقع الإداري المترهل، من داعم للإقتصاد الوطنى، الى أس بلائه. لقد أدى الواقع الإدارى المتسيب و المترهل الى نمو الفساد المالى و الإدارى، بحجم و أسلوب، لم يشهده السودان طيلة تاريخه الحديث، حتى ذلك الحين. شكل هذا الفساد الرحم الخصب الذى ولد الشريحة الطفيلية التى إمتصت دماء شعبنا من بعد، و لا تزال. فمنذ ذلك الحين تحول غول الفساد، و الذى بدأ كحمل وديع فى ظل النظام المايوى، الى وحش كاسر، قضى على الزرع و الضرع. ليس هذا فحسب، فقد تمكنت الشريحة الطفيلية، ومن خلال هذا السلاح الجديد، أى سلاح الفساد الجامح، من القضاء على الطبقة الرأسمالية " المقعدة "، و الطبقة الوسطى ، فى ذات الوقت و بضربة لازب. هذا هو الواقع المر الذى أدى الى إنهيار الدولة السودانية، بصورة تكاد أن تكون كاملة، بعد أن هاجرت عناصر الطبقة الوسطى، التى تمنح التوازن لأى مجتمع، بل تقود قاطرة حداثته و تحديثه. ليس هذا فحسب، بل لقد "نجحت" الطبقة الطفيلية، ليس فى إفلاس الطبقة الرأسمالية فقط، و إنما أجبرتها على الهجرة خارج البلاد، لتأكل من خشاش الأرض !!؟ هل لكم أن تتخيلوا معى بلدا من دون طبقة رأسمالية منتجة؟ بل هل لكم أن تتخيلوا وجودا لدولة، بكل ما لهذا الإسم من معنى وجدوى، خلت من طبقتها الوسطى، الدينمو المحرك لجهاز الدولة !!؟ لقد نتج عن هذين العاملين وجود جهاز دولة لا علاقة له بالشعب. بل فى واقع الأمر صار جهاز الدولة بمثابة "الحبل السرى"، الذى يغذى الشريحة الإجتماعية التى تتولى إدارته، من دماء الغلابة و المساكين الذين يموتون جوعا. بهذا فقد أصبح جهاز الدولة الراهن هو النقيض لمصالح الشعب، حيث تم إستغلاله لتحويل الدولة من دولة الوطن الواحد الى دولة الحزب الواحد، الذى يمثل مصالح الشرائح الطفيلية. لقد أفرزت سياسات جهاز الدولة "الجديد" واقعا اقتصاديا و ظواهر إجتماعية غاية فى الخطورة. تلخص المجاعة فى الدندر و بقية مناطق النيل الأزرق الواقع الاقتصادى البائس الذى أشرنا اليه. أما الظواهر الإجتماعية الخطيرة فقد بدأت بالسرقة و النهب ، مرورا بالتفكك الأسرى، و إنتهت بإنهيار القيم الحميدة التى عرف بها الإنسان السودانى، كالنزاهة، و الصدق، و الأمانة، و الكرم... الخ، و التى ستقود حتما، إن عاجلا أو آجلا، و إن لم يتم تلافيها، الى إنهيار المجتمع بأكمله !! يبقى السؤال هنا، هل كان من الممكن لكل هذا الإنهيار أن يتمكن من المجتمع، فى ظل وجود جهاز دولة نظيف، يتحمل مسئولياته الأساسية فى توفير خدمات الصحة و التعليم لتكون فى متناول المواطن، غض النظر عن قوته الشرائية؟؟ و هل هنالك دولة فى العالم قد وجدت لغير هذا الغرض، بعد حماية التراب الوطنى؟! دلونا، بربكم، يا حكماء شريحتنا الطفيلية على مثل هذه الدولة ، إن وجدت على سطح هذه البسيطة !! الإجابة على هذه الإسئلة قطعا بالنفي الجازم. لأنه ،و ببساطة شديدة، فحينما تتحول تلك الخدمات الى سلع تخضع لمنطق السوق، فى مجتمع كالمجتمع السودانى، فقل على الدولة السلام، بل قل على المجتمع نفسه السلام !! و حينما رفعت الدولة يدها عن تلك الخدمات، وتحولت بالضرورة الى سلع يتم بيعها لإثراء الشريحة الطفيلية، عندها تفشت الأساليب الفاسدة، و الطرق الملتوية، فى أوساط الناس لجمع المال، لا ليثروا، بل لجمع القليل منه ليتمكنوا من توفير أبسط الخدمات لهم و لأفراد أسرهم، و التى عجزت، بل أقول رفضت، دولتنا الطفيلية توفيرها لهم. بل أذهب الى أبعد من ذلك و أقول بأن طبيعة جهاز الدولة الطفيلى، يقود بالضرورة الى قتل الناس، مع سبق الإصرار و الترصد، فمن لم يمت بالجوع مات بغيره، كتفشى الأمراض الوبائية و سوء التغذية .... الخ !!؟؟ الغريب فى الأمر أن هذا الشعار الزئف و المخاتل قد نما و ترعرع وكبر حتى تحول من "سلة غذاء العالم العربى" ، الى "سلة غذاء العالم"... بأجمعه... فتأمل !!؟؟ و كأنما نموه هذا قد نما طرديا مع نمو جهاز الدولة الطفيلي، و إستشراء الفساد. فالفساد، كالبالون تماما، يمكن أن "ينتفخ"، على حسب حجمعه و معدلاته، حتى يمكن إستغلاله كغطاء آيدولوجى لحجب الحقيقة عن جماهير الشعب داخليا، و القوى المناهضة للجوع و العوز خارجيا. نختم فنقول، يا محبى الخير، و مناهضى الجوع و العوز، فى كل مكان، انتبهوا و خذوا حذركم من الشعارات الآيدولوجية فارغة المحتوى، بل الزائفة و المضللة، حتى تتمكنوا من رؤية الواقع البائس لجماهير شعبنا ،كما هو، و ليس كما يراد تصويره لنا لمآرب أخرى، لا تمت الى واقع الحال بصلة !! ابراهيم الكرسني 5/11/2009