لا أعرف أصل كلمة "بَرَبَنْدِي"؛ لعلها تركية مثل كثير من الكلمات الدخيلة على العامية السودانية، وربما يدّعي أصدقائي النوبيون/الدناقلة أن أصلها نوبي مثل معظم الكلمات الغريبة في العامية السودانية النيلية، مثلما يفعل عون الشريف قاسم، رحمه الله، في قاموسه القيّم. البربندي هو "وتد" مخروطي مصنوع من الحديد، أحد طرفيه مُدبب مثلما تكون الأوتاد، والطرف الآخر غليظ به حلقة من الحديد لتثبيت الحبال من خلالها. ويُستخدم البربندي لربط الحمير (قبل أن تُصبح من غالب طعام أهل البلد في هذا العهد السعيد) بغرز الطرف المدبب في الأرض بالضغط عليه أو بدق عاليه بصخرة أو جسم صلب، وتثبيت الحبل في الحلقة الحديدية وربط طرفه الآخر في إحدى قوادم الحمير أو الثيران، بينما يُستخدم الوتد الخشبي عادة لربط الأغنام والضأن. يقول الفرنجة "دخول الطرف المُدبب من الوتد/البربندي"، يقصدون أن المصائب والرزايا تبدأ صغيرة لا نأبه لها ونتجاهل خطورتها حتى تستفحل ويعظم خطرها، وكأنهم يترجمون المثل العربي "معظم النار من مستصغر الشرر"، أو "أول الغيث قطرة"، كالثقب الصغير في ثوبك؛ تُهمله حتي يتسع على الراتق ويأكل الثوب بكامله. هذا حالنا مع الهوس الديني في هذا العصر. بدأ خافتا من أفراد وجماعات متفرقة، انتقلت تدريجيا من تطبيق ما تؤمن به على نفسها إلى إجبار الآخرين على قبوله، ثم اشتد عوده مع حرب أفغانستان الأولى ضد الروس بتدفق الأموال الأمريكية والخليجية، وتفريخ أجيال من "المجاهدين" و"الاصوليين"، والسلفيين"، والتكفيريين"، وشيعاً وجماعات أخرى، تُزايد على الغلو واللجوء إلى العنف ضد الآخرين، ثم ضد مواطنيهم المخالفين لهم في الرأي. وانتقل استخدام العنف من السيخ والعصي، إلى السلاح الأبيض، ثم السلاح الناري، ثم السلاح الثقيل (كما في داعش وبوكو حرام)، وربما سلاح الدمار الشامل قريبا! وفي ظنّي أن داعش من جهة، وبوكو حرام من جهة أخرى، هي نهاية المطاف المنطقية (وبداية عهد مخيف جديد) للتطرف والهوس الديني، واستخدام الدين في السياسة المحلية والدولية، وفي الاقتصاد والاجتماع، ولكن دون برنامج عملي يحقق طموحات مواطنيهم التي خنقتها الأنظمة السابقة والحالية. غُرِز الطرف المُدبب للبربندي في جسد السودان في السنوات الأولى عقب الاستقلال في عام 1956 حين برزت الدعوة للدستور "الإسلامي"، وغاص البربندي أكثر في الفترة الديموقراطية الثانية (1964-1969) حين اشتدت المُزايدة بين الأحزاب السياسية الرئيسية على "الدستور الإسلامي"، حتى صعّد نميري المُزايدة بتطبيق "قوانين سبتمبر الإسلامية" و"أسلمة" المصارف، وأتانا فرسان يونيو 1989 ب"مشروعهم الحضاري" الذي نُتف ريشه الآن حتى غدا عاريا يتبرأ منه أصحابه. بيد أن الحماس لدستور إسلامي ولتطبيق الشريعة في السودان (وغيره) لم يصحبه منذ الخمسينات شرح لماهية وتفاصيل مثل هذا الدستور في عصرنا. اكتفى الجميع بالتلويح بشعارات "الإسلام هو الحل" دون برنامج يُخاطب عالم اليوم، وواقع اليوم واحتياجات ومطالب اليوم، ويُقدم الحلول لمشاكل اليوم المتصلة بالفقر المتزايد، وتردي، بل غياب، الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وإصحاح بيئة، واقتصاد معافى يضمن العمالة للجميع، وفوق هذا وذاك، يسعى نحو تحقيق مبادئ ومُثل وتعاليم الإسلام السامية الكبرى كالحرية والعدالة والمساواة والحكم الراشد الأمين. اكتفوا بالإختباء خلف سَِير السلف الصالح، وىآيات الكتاب المبين المنتقاة، وبالتركيز على القشور دون الجوهر حتى غدت الأجيال الجديدة (وهم غالبية السكان) في حيرة من أمرهم وأمر دينهم، فرائس للأفكار المُتطرفة، أو لوسائل الهروب من مخدرات ومُغيبات. لا غرو أن رأينا جماعات، في هذا البلد المتسامح السمح، تقتل المصلين في المساجد، والأبرياء في بيوتهم، وتُعد العدة، فيما يبدو، لمعارك قادمة. والآن، وقد إنغرز البربندي حتى "الباطوس" (والباطوس في لغة أهل السودان القديم هو حافة المركب؛ تمتلئ بالدواب والبرسيم والجوالات حتى يقترب "باطوسها" (حافتها) من سطح الماء فتكاد تُشرف على الغرق)، تدفع أمريكا ثمن "خمجها" القديم والجديد، وثمن قِصر نظرها الذي يقترب من العمى، وثمن قوتها الهائلة وحجمها الذي يعميها عن رؤية تعقيدات العالم الثالث والعالم الإسلامي، وتعقيدات بلاد ظلت لقرون عصيّة على الفهم والحكم مثل أفغانستان والعراق، وعصيّة على الانكسار مثل فيتنام، وبلاد أخرى مثل "عود العُشر" في المثل السوداني الخشن، المُعبّر، كسوريا، ؛ وندفع نحن ثمن صمتنا،وعجزنا ونحن نرى الخرق يتسع ويتسع حتى ليكاد يبتلع الثوب بكامله، ويبتلعنا معه، وثمن قعودنا عن مناهضة خلق البيئة التي تُمهد لمثل هذا الهوس المودي بنا إلى خسران الدنيا والدين. نصيحة لوجه الله تعالى لحكامنا وحكام بلاد العرب والمسلمين وغيرهم: لا تلعبوا بالنار، فإنها في نهاية الأمر تلتف، عاجلا ام آجلا، وتحرق مؤخراتكم -و"مؤخراتنا" للأسف!