[email protected] (1) كنتُ قد أعددت كتاباً عن نشأة وزارة الخارجية السودانية ، من واقع الوثائق البريطانية التي أشرف على ترجمتها فريق من العلماء السودانيين على رأسهم الأستاذ صالح محمود عثمان صالح, ولقد أصدر صالح عددا من مجلدات الوثائق البريطانية مترجمة إلى العربية، وتشكل إلى الآن، مراجع لا غنىً عنها لمن احتاج لتوثيق ما كتبه الإداريون والحكام الكولونياليون عن فترة العقود الستة التي حكموا فيها السودان وبشراكة شبه صورية مع مصر، وفق اتفاقية الحكم الثنائي عام 1898. قصدتُ من نشر كتابي ذاك، وهو في حجم صغير، وعنوانه: "الدبلوماسية الكولونيالية" (بيروت، 2009) التعريف بأسلوب البريطانيين في معالجة شئون السودان الخارجية حتى حلول يوم الاستقلال ، وكيف برزتْ وزارة الخارجية، جسماً أنشأته الأيدي السودانية في الأول من يناير من عام 1956. كنتُ قد تركتُ للصديق اللبناني الأستاذ سليمان بختي ناشر كتابي، أن يصمّم غلافاً للكتاب من واقع الموضوع، ولم يكن ذلك من اهتمامي ولا أنا مختص في مثل تلك الفنيات. غير أني لاحظت ، وقد خرج الكتاب من المطبعة، أن الناشر وضع خارطة كروكية للقارة الأفريقية على غلاف الكتاب، توضح التقسيمات السياسية للحدود بين دول القارة الأفريقية، فكان خط عرض 22 درجة شمال ، خطاً مستقيماً بما يعني إخراج مثلث حلايب من الحدود السودانية ! في التفاكر مع الناشر، استقر رأيه ووافقته عليه، على تصحيح الخط الحدودي على جميع النسخ لتظهر حلايب شمال خط 22 وداخل حدود السودان. لم أرَ تثريباً في التعديل.. (2) لا أعلم على وجهِ الدقة بالتوجيهات التي قد تكون جهات معنية بالموضوع قد اصدرتها، وتتابع عبرها نشر الخرائط الصحيحة للسودان، ولعلّ من مسئوليات وزارة الخارجية السودانية الإشراف على تعميم تلك الخرائط على الجهات الأكاديمية الخارجية والمنظمات الإقليمية والدولية، بل وتعميمها على الدول التي تجاورنا في الإقليم. كان الظن بالطبع أن تلك الجهة المختصة هي هيئة المساحة . كانت هي الجهة المسئولة حسب ما درجنا أن نعرف في سنوات الثمانينات والسبعينات من القرن الماضي، وأن أطالس السودان وخرائطه تصدر عنها، ولا تطبع الخرائط السودانية، إلا وفق ما تعتمده وتجيزه سلطات المساحة السودانية، ومن ثم نراها مطبوعة في الكتب المدرسية وفي خرائط الدولة الرسمية، وفي أجهزة الإعلام من إذاعات وفضائيات. وعودة إلى كتابي ، فقد أجرينا التعديلات في غلافه ثمّ اقترحتُ على وزارة الخارجية ضرورة تنوير بعثاتنا وسفاراتنا بالخارج بمادة الكتاب، وهي تتعلق كما أوضحت أعلاه، بتاريخ وزارة الخارجية وكيف أنشئت الوزارة، كما أنه وللحق فقد ساهمتْ معي الوزارة في تحمل نصف تكلفة طباعة الكتاب عند الناشر اللبناني . أنجزتْ الإدارة المعنية في الوزارة ما عليها، إلا أننا لم نسلم من شكاوى وملاحظات وردتْ من بعض سفارات السودان بالخارج ، كون الغلاف حوى خارطة لأفريقيا، لا توضح بجلاء تبعية مثلث حلايب جغرافياً للسودان. . ! فاتحني المدير العام المسئول بما أثاره بعض سفراء في سفاراتنا في الخارج، من امتعاض بل من احتجاجٍ، لأن غلاف كتابي لم يُظهر المثلث الشهير بوضوح تبعيته للسودان في كروكي خارطة أفريقيا التي على الغلاف. نقل إليّ المدير العام، وهو سفير كبير مسئول، إحساسه بالإحباط شخصياً لكون اهتمام زملائنا السفراء بالخارج قد انصب على أمرٍ غير ذي بال، وليس أصلا من موضوعات الكتاب. كان الأمر مدعاة لأسفٍ بل ولحسرةٍ أن يغفل السفراء عن مادة تتصل بتاريخ الدبلوماسية وتاريخ وزارتهم، فيقع بصرهم على أمرٍ شكلي لن يقدم أو يؤخر في الشأن "الحلايبي" بشيء، ولكن عكس ذلك الاهتمام المَرَضي، المزاج الذي عليه بعض سفراء السودان الذين كانوا في الخارج ممن وصلتهم نسخ كتابي . (3) ظللتُ أسأل- وسأل معي السفير/ المدير العام المسئول عن البحوث والمطبوعات في وزارة الخارجية وقت صدور كتابي في عام 2009- عن الذي فعلته الدبلوماسية (وسفارات السودان في الخارج معها) في السنوات الماضية من أجل إبراز قضية المثلث الشهير، ليجري تنزيله لأجهزة الإعلام. لعل من واجبها أن يعلم المواطن السوداني العادي بملابسات هذا الملف، الذي برزت تعقيداته مباشرة منذ سنوات الاستقلال الأولى. أدرنا السؤال فما لفت نظرنا شيء أكثر من ذلك الذي بذله محمد أحمد المحجوب وقت توليه حقيبة وزارة الخارجية في حكومة البيه عبد الله خليل، التي ألفها تحالف حزب الأمة مع حزب الشعب الديمقراطي، القريب من الدوائر المصرية، في عام 1958. وقف ملف حلايب عقدة استعصتْ على الحكومة المصرية فما قدرت أن تناور حولها برغم نفوذها المسيطر في تلك السنوات. لم تفلح مصر في تجاوز موجبات النزاع حول حلايب. أوجز خبير المياه دكتور سلمان محمد أحمد في مقال رصين في 25 يناير2014 ، نشره في موقع سودانايل الإلكتروني، تداعيات تلك الزيارة العاصفة المشحونة بالتوتر التي قام بها المحجوب إلى القاهرة لبحث موضوع مثلث حلايب . كتب سلمان في مقاله المعنون: "حلايب: ماذا دَارَ في اجتماعِ المحجوب وعبد الناصر يوم 19 فبراير 1958"، أنّ المحجوب كان في مكتب عبد الناصر حين فاتحه في أمر حلايب وسودانيتها، فما أفلح في كسب ما يعينه من ناصر، فأرسل توجيهاً - ومن مكاتب عبدالناصر نفسه- لمندوب السودان في الأممالمتحدة لتقديم شكوى السودان لمجلس الأمن في نيويورك على الفور، فاهتز الموقف المصري وتضعضع، إذ أخذته المفاجأة. كانت الضغوط تسير باتجاه احتواء التنازع وإبقائه على طاولة مجلس الأمن، على أن يفسح المجال للتسويات الأخوية. فصّل المحجوب القصة في كتابه "الديمقراطية في الميزان" (دار النهار للنشر، 1982). سحبتْ مصر قواتها العسكرية، وأوقفتْ إجراءات استفتاء سكان منطقة حلايب حول الوحدة مع سوريا، ولكن أكمل السودان إجراء العملية الانتخابابية في حلايب بسلام. برغم البطء في المعالجات والمماطلة في تسوية الخلاف حول حلايب، فقد بقي الملف مُعلقاً، إلا أن السودان ظلّ يجدد شكواه في كل دورة من دورات الأممالمتحدة المتعاقبة. ولربما يفسر تباطؤ حكومة السودان أوانذاك (1958) أنها حكومة ائتلافية متناقضة التوجهات، إذ أن طرفاً من مكوّنها هو من أقرب حلفاء مصر! (4) لاحظ صديقنا د.سلمان مُحقاً، أن الدبلوماسية السودانية تقاعست أو لعلها أغفلتْ دون تمعّنٍ، في تقنين إبقاء الوضع في حلايب على حاله، بعد سحب مصر قواتها ودعواها بالسيادة على حلايب، وفق الترتيبات التي أقرت في مجلس الأمن. فما جرى توثيق الأمر بمذكرة أو اتفاقية دبلوماسية تكون لها قوة الإلزام، وفق تقاليد القانون الدولي. الأرجح أن دبلوماسيي السودان في نيويورك، وهم عادة يختارون من بين أميز وخيرة السفراء والدبلوماسيين، وقعوا تحت ضغوط الساسة المتشاكسين في الخرطوم. بقي الملف معلقاً لعقود طويلة، ولكن جرت مياه كثيرة تحت كل الجسور. الذي حدث بعدها، أن مصر جدّدت دعواها في طلب السيادة على مثلث حلايب بعد عام 1992، ثم سعتْ علانية لضم مثلث حلايب واعتمدته رسمياً ضمن الأراضي المصرية، وذلك بعد تضعضع الموقف السوداني نتيجة تطورات سياسية وأمنية وقعت منتصف التسعينات، أفقدت السودان حراكه الدبلوماسي وأضعفت فعاليته وقدراته السياسية، فكأنّ حلايب الآن صارت عملياً تحت الإدارة المصرية. . لعل عوامل التقارب والتواصل بين القاهرةوالخرطوم في سنوات السبعينات والثمانينات في القرن الماضي، وتنامي اطروحات التكامل والوحدة، قد شكلت ضغوطاً على الدبلوماسية السودانية، فلم تتم إثارة موضوع النزاع بين البلدين، لا في طاولة تفاوض ثنائي ولا في أروقة مجلس الأمن في نيويورك. غير أني أرى أن الدبلوماسية السودانية قد تتحمّل طرفاً من مسئولية الإبقاء على ملف الشكوى معلقاً دون أن يتم تقنينه سلباً أو ايجاباً منذ أواخر خمسينات القرن الماضي، فهي الجهة المنوط بها تقديم الاستشارة السياسية لمتخذي القرار في قيادة الدولة. (5) إلى ذلك فإني لا أجد مبرراً في أن لا تتم معالجة ملف مثلث حلايب من قبل الإدارات المعنية في وزارة الدبلوماسية السودانية، وأعجب أن أراه - وفق ما لاحظت في الشهر السابقة- يعالج في مستويات تتباين رؤاها وكلها بعيدة عن أطر وزارة الخارجية. لن تكون الأهمية الأمنية أو العسكرية أو الاقتصادية، من الذرائع الموجبة لحجب الملف عن وزارة الخارجية، فهي بموجب كل الدساتير السودانية المؤقتة، أو تلك التي دامت لسنين عددا، جهة الاختصاص الأولى المكلفة بإجراء التفاوض مع الأطراف الخارجية حول قضايا البلاد الخارجية . ورد في دستور البلاد الانتقالي لعام 2005 (وقد انتهت صلاحيته بعد انفصال الجنوب وإن استمر العمل به منقوصا)، أن من أهداف واختصاصات وزارة الخارجية "عدم التدخل في شئون الدول الأُخرى، وتعزيز حسن الجوار والتعاون المشترك مع جميع دول الجوار، والحفاظ على علاقات متوازنة وودية مع الدول الأُخرى". حسناً فعلت قيادة وزارة الخارجية فقد برز صوتها مؤخراً يحدّث عن حق السودان في مثلث حلايب.. ولنا أن نتساءل إن كانت مفوضية الانتخابات القومية- وقبل أن تحسم أمر دائرة حلايب الانتخابية- قد طلبت عوناً من وزارة الخارجية في إطار التدارس حول وضع حلايب عام 1958 ، وقت أن جرت العملية الانتخابية هناك، وفيما إن كانت ثمّة جهة – الخارجية أو سواها- تملك تفاصيل الوقائع، حين سعى محمد أحمد محجوب لمناقشة النزاع مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر في ذلك العام، وكذلك وثيقة الشكوى التي رفعتها مندوبية السودان الدائمة لمجلس الأمن وقتذاك وما حوته من حجج.. وزارة الخارجية إذن هي التي تفاوض وتبادر بالتعاون مع البلدان الأخرى في كل ما يتصل بمصالح البلاد، وهي التي تملك الوثائق المتصلة بتحركاتها الدبلوماسية في موضوع النزاع. تلك مسئولية وزارة الخارجية، وهو تقليد متبع في كلّ وزارات الخارجية في الدول السوية. إن جنوح بعض عباقرة القياديين هنا في التغريد بعيداً عن بستان وزارة الخارجية وفي شأنٍ يخصّها، أمرٌ ليس مقبولاً وآن له أن ينتهي. كفانا مفارقة للتقاليد التي تنتظم العالم العاقل فما أورثتنا تلك المفارقة إلا الخبال. . (6) الذي أراه أنّ مثلث حلايب لا يزال مطية يتسابق في التصريح حولها من يصرّحون هنا في الخرطوم أو هنالك في القاهرة، فيقع الملف في فخ المزايدات المجانية، والتناول غير المدروس من قبلِ أطرافٍ غير مختصة، فتتصاعد زفرات التأجيج وتتراجع أنفاس التهدئة..! ها نحن نشاهد تلك الأطراف تتجاذبها مواقف سياسية هنا وهناك، تناور بجوانب الملف بمكرٍ في القاهرة وبعض تساهل في الخرطوم، لجني مكاسبٍ آنية لن يكون لها مردود على المواطن المقيم في أرضه في حلايب، وهو المعنيّ الأول والأخير بموضوع التنازع. ينبغي أن تتولى هذا الملف جهة المعالجة الدبلوماسية الهادئة في وزارة الخارجية، لا أن يترك للأيدي المُتعجلة والألسنة غير المتخصصة، تتجاذبه بلا تروٍ حصيف، ولا استصحاب ثاقب لمقتضيات القانون الدولي، أو لموجبات الحفاظ على علاقات الأخوة الراسخة لشعب وادي النيل الواحد. على الإعلام أن يدعم الجهد الدبلوماسي الساعي الآن للإمساك بما يليه في هذا الملف، وأن يتواصل ذلك الجهد لاجتراح الحلول وبسط الخيارات، وبعد عميق تحليلٍ وتمحيص رؤى، فيتاح لصاحب القرار السياسي أن يصل عبر أجهزة الدولة وبعيداً عن تجاذب التصريحات من هنا ومن هناك، إلى قرارٍ نافذٍ ناجز حول ذلك الملف المعلق منذ أكثر من ستة عقود، فتنفتح آفاق التفاوض بين البلدين الشقيقين حوله. لا نريد للدبلوماسية السودانية أن تنشغل بشكليات الملف فيكون هاجسها مثل ما فعلت مع غلاف كتابي: ملاحقة الأطالس وكتيبات المدارس والدعائيات في الفضائيات، تغرق في القشور عِوَض أن تتجه للبّ الملف، وهي الجهة الأقدر على المعالجة، والأكثر تأهيلاً لإدارته وبحثه والتفاوض حوله، وليس الأجهزة الأمنية أو المؤسسات العسكرية مع كامل التقدير لمهامها الداخلية. للسودان رصيد طيب في معالجة قضايا النزاعات الحدودية مع بعض بلدان الجوار، فقد كانت تشرف وزارة الداخلية على ملفات الحدود، ولكن التفاوض حولها مع أي دولة مجاورة تتولاه وزارة الخارجية ، وذلك ما وقع حول تبعية "قمبيلا" مع إثيوبيا. حماية حدود البلاد شأن تتولاه الأجهزة الداخلية، أما التفاوض حولها فهو اختصاص وزارة الخارجية بلا مراء . . الخرطوم - 28/9/2014