اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    الخطوة التالية    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دائرة المهدي: المال والمعتقد والسياسة في السودان (1) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر في سودانيل يوم 16 - 10 - 2014

Dairat al Mahdi: Money, Faith and Politics in Sudan (1)
Fergus Nicollفيرقس نيكول
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لمحاضرةألقاها الكاتب البريطاني والصحفي المستقل فيرقس نيكول بجامعة درام في 20/6/ 2013م ضمن السلسلة المسماة "محاضرات سير وليام ليوس التذكارية".وعمل السيد نيكول كمدرس للغة الإنجليزية بثانويات السودان في ثمانينات القرن الماضي، ثم عمل بهيئة الإذاعة البريطانية ويعمل الآن بالقسم الإنجليزي بقناة الجزيرة. وللمؤلف كتاب بالإنجليزية عن المهدي وحياته، نشر بعنوان: " سيف النبي: مهدي السودان"عام 2009م مترجما عن مركز عبد الكريم ميرغني.
المترجم
********
Introductionمقدمة
تمثل قصة "دائرة المهدي" مثلثا للسلطة أضلاعه هي الدين والسياسة والمال.وتأثرت مسيرة تلك المؤسسة خلال سنوات القرن العشرين الأولي المضطربة بما وقع من قبل، وكذلك بحروب المهدية التي لم تبرح الذاكرة بعد، وبنموها الهائل وتأثيرها السياسي على فترة ما قبل استقلال السودان في 1956م، والذي ما تزال آثاره باقية وملموسة حتى اليوم.
وكانت "دائرة المهدي" هي أول شركة زراعية في السودان كانت كل إدارتها العليا وموظفيها وعمالها هم من السودانيين. ونمت تلك الشركة فلم تعد تزرع القطن فقط، بل امتد نشاطها ليشمل الإنتاج الصناعي والثروة الحيوانية والعقارات والصحافة، إذ كانت تمتلك صحيفة يومية. وفوق كل هذا وذاك، فقد كان إرث تلك الدائرة إرثا اجتماعيا وسياسيا. وكما كتب الصادق عبد الرحمن أزرق عام 2000م فإن ما كانت تميز "دائرة المهدي" هي "...طبيعة الظروف التي أدت لإنشائها، ودورها في أول تعددية سياسية في البلاد...وكمركز مالي لتمويل أنشطة الأنصار وحزب الأمة".
وتستخدم كلمة دائرة (daira) في اللغة العربية استخدامات متنوعة وبمعان مختلفة ومرونة مفيدة. ففي السياسة هنالك "الدائرة الانتخابية"، وفي الصوفية هنالك "دائرة الذكر"، وعند رجال المال والأعمال تستخدم كلمة "دائرة" بمعنى "شركة". وفي حالة "دائرة المهدي" فهنالك التداخل بين خليط من قوة رأس المال و"العضلات المالية" والالتزام الروحي والوحدة السياسية، والذي أنتج قوة عظيمة قاومت الحكم الاستعماري والحكومات العسكرية الوطنية، ونالت الأغلبية في الانتخابات الديمقراطية.ويربط الجزء الثاني من الاسم "دائرة المهدي" تلك القوة الثلاثية بعشيرة المهدي، والذي ارتفع اسمه من الشيخ محمد أحمد عبد الله ليغدو "المهدي المنتظر"، والذي سيوحد كل المسلمين في كافة أصقاع العالم قبل ظهور النبي عيسى وقيام الساعة.
وأعلن القائد الديني المهدي الجهاد في عام 1881م، وبدأ بتعبئة القبائل لطرد المحتلين المصريين من البلاد، ونجح في ذلك بعد أربعة أعوام من بدء حملته الجهادية. وبإعلانه نفسه مهديا، يكون الرجل قد عد نفسه خليفة لرسول الله، وبالتالي يكون قد وضع نفسه فوق كل التسلسل الهرمي للخلفاء العثمانيين، وكذلك فوق علماء الدين الذين كانوا يحظون برعاية رسمية من الدولة.
ودفعت عائلة المهدي أثمانا باهظة نتيجة لدعوته، فقد قتل كثير من أفراد تلك العائلة في سنوات الجهاد الأولي في بواكير ثمانينيات القرن التاسع عشر، ثم في الحروب التي اندلعت في أخريات تسعينيات القرن التاسع عشر، وكذلك عند غزو بريطانيا للسودان، ثم في حوادث العنف السياسي التي وقعت بعد الاستقلال. وقتل أخوة المهدي الثلاث محمد وحامد وعبد الله، وكذلك خلفائه الثلاث. وقتل في المعارك أو أعدم أو مات من المرض في السجن من أولاده محمد والبشرى والفاضل والصديق والطيب والطاهر. ولم يبق له غير ولدين هما علي وعبد الرحمن، وظل السؤال المهم عمن هو الأحق بوراثة لقب "الإمام" لأنصار المهدي باقيا.
Abd-al- Rahman al Mahdi's early yearsسنوات عبد الرحمن المهدي الباكرة
بدأت قصة "دائرة المهدي" قبل 34 عاما من تاريخ الترخيص الرسمي بقيامها، عندما كانت بريطانيا قد أحكمت قبضتها على وسط السودان وشرقه. ففي أغسطس من عام 1899م كان عبد الرحمن (أصغر ابناء المهدي والذي ولد بعد موته) يقيم مع أخويه البشرى والفاضل في قرية الشكابة بالقرب من وادي مدني. واعترضت القوات البريطانية المحتلة ما قالت إنه محاولة للقيام بهجوم معاكس عليها من قبل الأنصار، وتم بعد ذلك إعدام البشرى والفاضل رميا بالرصاص بعد محاكمة عسكرية إيجازية بتهمة التحريض على المقاومة. وأصيب عبد الرحمن في ذلك الهجوم برصاصة في كتفه إلا أنه سرعان ما شفي منها، وبقي في كنف محمد طه الشنقيطي في جزيرة الفيل قرب الشكابة حيث تلقى تعليما تقليديا. وقام البريطانيون بإرسال كل من بقي على قيد الحياة من أقربائه الذكور (ومنهم أخيه الوحيد علي) إلى سجن وادي حلفا في أقصى شمال السودان، أو سجن رشيد في دلتا مصر، حيث مات أغلبهم بسبب إهمال الحكومة لرعايتهم، أو بسبب علل مختلفة منها السل.
وفي عام 1908م أمرت السلطات الاستعمارية البريطانية عبد الرحمن، وهو في سن المراهقة، بالمجيء إلى أمدرمان تحت رقابة السلطات الأمنية والمخابراتية اللصيقة. وبالفعل أتى عبد الرحمن لأمدرمان في معية عدد من أفراد عائلته الممتدة لا يقل عددهم عن 72 فردا، منهم رمل ويتامى أبيه، وأخوته وأعمامه، وأقرباء من كانوا قد أودعوا السجن من أهله. وصدر في ديسمبر من عام 1908م توجيه رسمي لريتشارد مور المفتش البريطاني بالخرطوم لصرف 25 جنيها مصريا لبناء مجموعة بيوت صغيرة لعائلة عبد الرحمن الممتدة. وتولى شيخان من رجال الدين هما مفتي السودان شيخ الطيب أحمد هاشم ورئيس مجلس العلماء محمد البدوي رعاية عبد الرحمن المهدي، بغرض محاولة إرجاع الصبي الذي كان يمثل "الثورة الدينية" لحظيرة المؤسسة الاسلامية التقليدية.
وبقي عبد الرحمن ومن معه من أقاربه الكثر يعيشون عيشة الكفاف على القليل من الاعانات الرسمية التي كانت تمنحها لهم الحكومة البريطانية. وفي أكتوبر من عام 1909م أخذ الباشمفتش المحلي روبن بيلي أحد المفتشين البريطانيين الذين تعينوا حديثا في خدمة الحكومة السودانية في جولة على مدينة أمدرمان. كتب روبن بيلي لاحقا عن تلك الجولة ما نصه: " قادني الباشمفتش في أزقة ضيقة بالغة القذارة إلى كوخ طيني بائس، وقام بطرق بابه بالعصا التي كان يهش بها على فرسه. فخرج من الكوخ صبي مذعن مرتديا ملابس متسخة. إنه ولد المهدي. لم يكن للصبي أي مصدر للدخل وكان يعيش على منحة إنسانية لا تتعدى جنيهات قليلة كل شهر...".
وفي غضون سنوات العقد الأول من القرن العشرين كانت تلك هي حالة غالب من بقي على قيد الحياة من أتباع المهدي، الذين حلت رابطتهم، وفرق شملهم، ومنعوا من أن يعيدوا تكوين جماعتهم. غير أنه كان هنالك أمران محددان بسببهما عمد البريطانيون على إبقاء شخص كعبد الرحمن المهدي في حالة شديدة من العوز. وكان السبب الأول شخصيا. فقد كان ريدولف سلاطين مرتزقا يعمل لحساب البريطانيين والأمريكيين في جيش الاحتلال المصري. وهزمه جيش المهدي وهو حاكم لدارفور في غرب السودان وأجبره على الاستقالة. وقضى أكثر من عقد كامل من الزمانبعد هزيمته في دارفور أسيرا في أمدرمان لدي المهدي ثم خليفته عبد الله. ثم فر بعد ذلك إلى مصر حيث كتب ونشر (بمساعدة ليست بالقليلة من المخابرات العسكرية البريطانية) قصة تراجيدية عن فظائع حكم الخليفة. وكان كتابه ذاك يعد "كتابا مقررا" على رجال القوات البريطانية والموظفين المدنيين في سنوات الاستعمار الباكرة.
ولما غزت بريطانيا السودان في 1899م عينت سلاطين في وظيفة "مفتش عام" (وهي وظيفة منفصلة عن قسم المخابرات)، فلم يدخر الرجل وقتا ولا وسعا في قمع كل من كانت له أدنى صلة بالإدارة التي أبقته مغلولا في الأسر لأكثر من عقد كامل. وجاء في أحد تقارير المخابرات أن سلاطين كان يعاني من "نوبات اكتئاب أسود" تنتابه بين الحين والآخر جعلته يخفق في اتخاذ القرارات الصحيحة، ويتخوف خوفا مرضيا من بعث المهدية من جديد، ويداوم على حث الحكومة على اجتثاث المهدية وأتباعها. وكتب مؤرخ سلاطين وكاتب سيرته ريتشارد هيل أن سياسة الحكومة تجاه أتباع المهدي كانت بالضرورة "قمعية"، ولكنه كان يصر أيضا على أن سلاطين لم يضطهد أحدا، مع صرامته في التعامل مع الجيل الجديد من أتباع المهدي، خاصة أبناء المهدي والخليفة.
وكانت إحدى مظاهر سياسة سلاطين القمعية هي إصراره على عدم ذكر كلمة "السيد" (االدالة على صلة بالعِتْرَةالنبوية الشريفة، وبأنه خليفة والده سياسيا وروحيا) قبل اسم عبد الرحمن المهدي. وكان عبد الرحمن، وبحكم الأمر الواقع، على رأس عائلة المهدي، والممثل الحي الوحيد لطائفة دينية ذات قوة وتأثير، وهي كل ما بقي للمهدية من نفوذ (بعد هزيمة جيشها).
وكذلك حظر سلاطين "الراتب" (المكون من مجموعة من الآيات والأذكار المأثورة عن رسول الله وبعض الأدعية التي دعا بها بعض الأنبياء وأئمة الصوفية). وكانت "الراتب" سلاحا قويا وعاملا طائفيا ملزما عند المهدي، الذي كان قد قاد جهادا عسكريا واجتماعيا وروحيا. وكل هذا كان مما يخيف البريطانيين والمتعاونين معهم من صفوة علماء السودان من قوة ذلك "الراتب" المؤثرة. وظل "الراتب" محظورا في السنوات الأولى التي أعقبت الغزو البريطاني، وكان كل من يحتفظ بنسخة منه يعرض نفسه للمحاكمة، ويعد القانون تلاوته في جمع من الناس جريمة جنائية.
وعلى صعيد الحلفاء، فقد كان البريطانيون يثقون في رجال كالزعيمين الدينيين السيدين علي الميرغني والشريف يوسف الهندي. وكان الأخير شديد التأييد للحكومة البريطانية – المصرية، رغم أنه كان قد خدم المهدي وخليفته أيضا. بينما ظل الزعيم الختمي الميرغني محتفظا بولائه للاحتلال المصري السابق، وكان يقف دوما ضد المهدي وجهاده. ومعلوم أن الختمية كانوا من القلائل الذين رفضوا دعوة المهدي نفسه منذ قيامها، ولم يجدوا بالطبع سببا لتأييد طموحات ولده من بعده. وكما قال الجنرال كتشنر بعد عام من غزوه للسودان: "إن الواجب المفروض أمامنا جميعا الآن ... هو نيل ثقة الشعب... بأن نبقى لصيقين بجانب علية الأهالي في البلاد، وعن طريق هؤلاء يمكننا التأثير على كامل أفراد الشعب". أما عبد الرحمن المهدي، فقد عدته الحكومة في ذلك الوقت (كما ذكر المؤرخ ريتشارد هيل في كتابه عن سلاطين) " شخصا فقيرا لا أهمية له ... ولم تعره أدنى اهتمام".
ولقد وقعت بالفعل عدة محاولات للثورة ضد الحكم البريطاني في سنواته الأولى، غير أنها كانت كلها محاولات صغيرة ومحدودة ومعزولة. ورغم ذلك فقد كانت السلطات الاستعمارية تتحسب دوما لإمكانية قيام تمرد أو ثورة واسعة النطاق. وكانت أخطر تلك الثورات هي ما قاده علي عبد الكريم عام 1900م، وشريف محمد أمين في عام 1908م ومحمد سيد محمد في عام 1919م. ولا شك أن البريطانيين كانوا يدركون أن هنالك العشرات (وربما المئات أو الآلاف) من الناس الذين كانوا قد سمعوا دون ريب بدعوة المهدي في منتصف ثمانينات القرن التاسع عشر، ولا يزالون على قيد الحياة. وكان المهدي قد اسماهم "الأنصار" تشبيها لهم بمن نصروا النبي محمد (في المدينة). وأسمى الذين أيدوه في مبتدأ دعوته وخدموا دعوته بإخلاص وتفان وتبعوه أينما تحرك ب "المهاجرين" لتقليدهم الهجرة النبوية وهجرة خليفته المهدي. وسيأتي فيما بعد ذكر لهاتين الكلمتين في عالم ما عرف ب "المهدية الجديدة".
Farming begins at Jazira Abaبداية العمل بالزراعة في الجزيرة أبا
تقع الجزيرة أبا على بعد نحو 150 ميلا جنوب الخرطوم. وكان تعد قلب الحركة المهدية في ثمانينيات القرن التاسع عشر والبلاد تحت الحكم الاستعماري، ولا تزال كذلك الآن. وعندما كان عبد الرحمن صغيرا، كانت بالجزيرة غابات كثيفة. وكانت أولى مظاهر تأكيده على استقلاليته من الحبس الذي فرضه عليه سلاطين في أمدرمان هو سفره للجزيرة أبا عندما سمحت له السلطات البريطانيةبذلك (في عام 1906م) للإشراف على تنظيف مساحة من تلك الغابات الكثيفة كانت قد منحت له قبل عامين، وتحضيرها للزراعة.
وكتب السيد الصادق المهدي مؤرخا لتلك الزيارة في كتيبه "الجزيرة أبا ودورها في نهضة السودان" ما نصه: "... وبدأ يطالب بأن يسمح له بالإقامة في الجزيرة أبا وفلاحة الأرض فيها ولكن السلطات رفضت واستمرت رافضة حتى وقعت حادثة عبد القادر ود حبوبة عام 1908م، هذه الحادثة كانت حلقة من سلسلة الانتفاضات التي فجرها رجال عاصروا المهدية ولم يستطيعوا الصبر علي الحكم الأجنبي. وأكدت انتفاضة عبد القادر ود حبوبة للحكام الأجانب أن مشاعر الأنصار تحت السطح قوية وقابلة للانفجار من وقت لآخر وأن سياسة التضييق عليهم تدفع إلى ذلك الانفجار. لذلك رأوا الاستجابة لطلب السيد عبد الرحمن وسمحوا له أن يذهب للجزيرة أبا يصحبه أفراد من الأنصار. وهنالك اعترضه بعض الأهالي في الجزيرة أبا من الذين كانوا يستخدمونها للمرعي والزراعة الموسمية. ونشأ نزاع حكم فيه مفتش كوستى بأن ليست للسيد عبد الرحمن حقوقا وراثية في الجزيرة أبا ولكنه في خلال خمس سنوات إذا عمر أرضا فهي له. وعندما تسامع الأنصار أن ابن المهدى استقر في الجزيرة أبا توافدوا إليه .... بعد عام 1916م. وكان القادمون يروون كيف ظهر لهم السيد عبد الرحمن في المنام ودعاهم للهجرة إليه وكانوا مستعدين للانضمام إليه وفاء للبيعة مع الأمام المهدى وتأهبا لإعلان الثورة وشن الجهاد من جديد...".
وكتب سلاطين لزملائه في قسم المخابرات في 18 يناير 1909م متسائلا: "هل لنا أن نعطي عبد الرحمن بن محمد أحمد تصاريح سفر إلى ومن الفشاشوية (وهي محطة قطار صغيرة (سندة) على ضفة النيل الأبيض مقابل الجزيرة أبا)؟ ووافقه البريطاني أمري من قسم المخابرات، والذي كتب الآتي لحاكم مديرية النيل الأبيض ما نصه: "سيصل عبد الرحمن بن المهدي إلى الفاشاشوية يوم 24 في هذا الشهر ... وقد أعطاه هذا القسم تصاريح السفر اللازمة هو ومعه اثنين من الخدم. وهو يرغب بشده في أن نمنحه قرضا لعمل ساقية خاصة به في الجزيرة أبا. سأكون شاكرا لو قمتم بتقديم كل عون له."
وبذا بدأ عهد سماه الأنصار "البلطة"، (وهو اسم آخر للفأس الذي تقطع به أشجار الغابات). وأستفاد عبد الرحمن من أخشاب غابات الجزيرة أبا وزراعتها لعدد من السنين القادمة، وأغناه الدخل الذي كان يحصل عليه عن مساعدات الحكومة وقروضها، وسمح له بالبدء في توسع مطرد في حيازاته الصغيرة. ولم يكن ذلك أمرا سهلا أو خال من العوائق. فقد خاض عبد الرحمن صراعا قانونيا حول ملكية الأرض مع بعض سكان الجزيرة أبا (كما جاء في كتيب السيد الصادق المهدي المذكور أعلاه. المترجم).
وفي 19 نوفمبر من عام 1910م كاتب سلاطين رئيس قسم المخابرات مجددا بما نصه: "عبد الرحمن بن محمد أحمد سيغادر إلى الجزيرة أبا ل ... وتحسين زراعته. هلا أعطيته قرضا بمبلغ ستة جنيهات يخصم بالتدريج من راتبه".
وعند حلول عام 1914م كانت زيارات عبد الرحمن الشتوية للجزيرة أبا (والتي كانت تستغرق شهرا كل عام) قد غدت روتينا راتبا، وكان قسم المخابرات البريطانية يمنحه في كل زيارة تصاريح سفر مجانية. غير أن ملاحقة ومراقبة السلطات البريطانية له لم تخفف أبدا. ففي مذكرة من قسم المخابرات في 22 نوفمبر من عام 1914م لحاكم مديرية النيل الأبيض في الدويمجاء فيها أن عبد الرحمن: " قادم للجزيرة أبا لزيارة مزرعته ... وقد أمر بتقديم نفسه إليك ولمفتش كوستى ... وقد تم التشديد على عبد الرحمن هذه المرة بضرورة مراعاة سلوكه... وآمل أن تكون أنت ومفتش كوستى راضين عن سلوكه... دون أن تسمحا له بملاحظة أنه تحت المراقبة".
وعندما غدا عبد الرحمن ومن معه من الأنصار مكتفين ذاتيا من الطعام، نال عقودا من مصلحة السكة حديد لتوريد أخشاب كانت تستخدمها كوقود، خاصة عندما صارت كل الأخشاب المتوفرة في البلاد تحول لصالح المجهود الحربي في الجبهة الغربية، وأيضا لسفن الحكومة البخارية التي كانت تجوب النيل الأبيض من الشمال للجنوب (مما أثار سخط مصلحة الغابات!). وفي خطاب رسمي صدر عام 18 يونيو 1917 جاء ما يلي: "قمنا بإقراض عبد الرحمن عشرين جنيها مصريا لشراء أدوات تتعلق بعقده معنا لتوريد أخشاب، ولكنا اكتشفنا أنه احتفظ بالأدوات، ونكث ببنود العقد، وباع الأخشاب إلى مصلحتين حكومتينأخريين بأسعار أعلى مما تعاقد به معنا.وبالنظر إلى وضعية هذا الرجل السياسة فإنني أرغب في معرفة المدى الذي يمكن أن أذهب إليه في إجباره على دفع دينه". (للمزيد عن هذا التاريخ يمكن قراءة كتاب السيد الصادق المهدي في "جهاد في سبيل الاستقلال"، وهو مبذول على الشابكة الاليكترونية. المترجم)
ولكن ظل تعاقد عبد الرحمن مع مصلحة السكة حديد ساربا لمدة أربعة أعوام، وكانت باخرة الحاكم العام نفسه ترسو على شاطئ جزيرة أبا لتتزود مجددا بالأخشاب وهي في رحلتها جنوبا على النيل الأبيض.
تعاون أم مناورةCollaboration or manipulation
كانت قدرة عبد الرحمن على التكيف مع النظام وأحيانا الالتفاف عليه (working the system) تشير إلى برغماتية كان هي الأساس الذي عرفت به "المهدية الجديدة"، والتي شبهها جعفر بخيت بأنها "تمثل نفوذه الشخصي وثروته وهيبته (برستيجه)".
وأعطى عبد الرحمن - وكان ما يزال في طور الشباب، وبعيدا عن مركز القوة والتأثير- المستعمر الإحساس بأنه يتعاون مع المؤسسة الاستعمارية (التي ترتدي الطربوش)، بينما كان يقوم في ذات الوقت وبنسق ممنهج في تنظيم أفراد عائلته وأنصاره المتزايدين. وليس بالإمكان تصوير ذلك الواقع بأوضح مما قاله عبد الرحمن نفسه في حديث له مع ريجيلاند ديفز المسئول في قسم المخابرات في 14 سبتمبر من عام 1924م من أن كل أتباعه من الأنصار الذين التفوا حوله يؤيدون الحكومة، وهذا التأييد ناتج عن نفوذه عليهم، فقد كان هو من فرض عليهم ذلك التأييد لأنه يؤمن جازما بأن الانجليز يمثلون القوة التي يمكنها خدمة مصالح هؤلاء الناس.
وقال عبد الرحمن ما زعم ريجيلاند ديفز أنه سمعه من عبد الرحمن في أيام صار فيها البريطانيون يميلون لتقوية ما سموه "الإدارة الأهلية"، والتي تعتمد على زعماء القبائل، والذين تم منحهم القابا مثل شيخ وناظر وعمدة، وطلبت منهم القيام بأعباء إدارة شئون مواطنيهم بالإنابة عنهم. وبدأ البريطانيون يحسون بالقلق والانزعاج من محاولات عبد الرحمن استمالة هؤلاء القادة المحليين له ولدعوته. وفي هذا الصدد جاء الآتي في تقرير لإيان بروس – جاردن مساعد مفتش القطينة في كردفان (هكذا في النص. المترجم) صدر في 30 مايو من عام 1923م يصف محاولات عبد الرحمن لتقوية نفوذه في أوساط زعماء القبائل بدعوتهم لاجتماع: " يبدو لي ... من المستحيل القبول بأن يقوم شخص ليست له صفة رسمية بدعوة أي فرد يعمل مع الحكومة دون الحصول على موافقة مسبقة من السلطات الرسمية. إنه من المستحيل السماح لاثنين من العمد بالغياب عن مناطقهما دون أن يعرقل ذلك أعمال الحكومة، بينما يرفضان طلب استدعاء لهما من رجل دين من ذوي الحيثية. إن هذا من شأنه زعزعة وخلخلة ولاء هؤلاء القادة المحليين في الحكومة. لقد كنت أخشى ... من أن تجميع ذلك العدد من القادة المحليين تحت قيادة رجل واحد قد تجعل منه "ملكهم غير المتوج" إن لم يكن أكثر".
ومنذ عام 1915م واصل البريطانيون في منح عبد الرحمن أفضل الفرص لتطوير وضعه مع الحكومة. ففي غضون سنوات الحرب العالمية الثانية واجهت الحكومة في الخرطوم خطر دعوة تركيا للجهاد في العالم الإسلامي قاطبة بدعوتها لقادة العالم الإسلامي "لاستخدام نفوذهم لتهدئة شعوبهم". وكان هذا يعني أن الحكومة البريطانية كانت تحتاج لعون عبد الرحمن ووضعه الديني كقائد وإمام، وهو نفس الوضع الذي ظلت تحاول حرمانه منه في خلال الستة عشر سنة السابقة. ولكن، وكما كتب المؤرخ ريتشارد هيل في كتابه عن سلاطين : "لم يكن ذلك الوقت هو وقت الانتباه لدقائق المسميات الدينية وللطائف التفاصيل الدبلوماسية الدقيقة (niceties).
وأزاحت الحرب العالمية الأولى سلاطين من المشهد بسبب أصوله النمساوية – وبدأت الإدارة البريطانية تراجع – ولكن باحتراس وحذر - في كثير من مواقفها.وبعد ثلاثة أشهر من مغادرة سلاطين للسودان بدأ المسئولون البريطانيون في استخدام اللقب الذي حرم سلاطين استخدامه قبل اسم عبد الرحمن. ففي ديسمبر من ذات العام نبه مساعد مدير المخابرات الإداري جورج أليس في واد مدني إلى أن "السيد عبد الرحمن بن المهدي سيقوم قريبا برحلة في مناطق النيلين الأبيض والأزرق في مهمة صرح بها بصورة خاصة سعادة الحاكم العام ... وأرجو منك تقديم كل ما يلزم من أجل إنجاح هذه الزيارة، وأتمنى في ذات الوقت أن تستمروا في وضعه تحت المراقبة اللصيقة، ومتابعة وملاحظة تحركاته وكل ما يدلي به من تصريحات أو أقوال في هذه الرحلة، وإرسالها لي سرا".
وطاف السيد عبد الرحمن مناطق الجزيرة ليطمئن مواطنيه السودانيين بأن بريطانيا لا تخوض حربا ضد الإسلام. وقد يبدو هذا الأمر وكأنه تعاون مع المستعمر البريطاني، ولكن كانت تلك الزيارة فرصة مواتية للسيد عبد الرحمن للقاء جماهيره، والذين سوف يفترضون بطبيعة الحال أنه يحظى بموافقة البريطانيين على منحه – وبصورة من الصور- بعضا من الدور القيادي الذي كان يلعبه والده. وبرر السيد عبد الرحمن دوره في الحملة ضد الدعايات التركية بالتذكير بتاريخ الإمبراطورية العثمانية في السودان والمتمثل في الاحتلال المصري من عام 1820 وحتى 1885م. ونقل السيد الصادق المهدي في كتابه "جهاد في سبيل الاستقلال" مقولة السيد عبد الرحمن عن هجومه على دعايات الأتراك: "ولا ينتظر أحد منى أن اعطف على السلطان التركي وتاريخ الأتراك منذ أن عرفوا طريق السودان مخضب بدماء قومي وأنصاري فوق قسوتهم ووحشيتهم الفظيعة، كما إنني كوطني لن اعطف على قضية لا تنال بلادي منها كسبا سياسيا".
وأثمرت سياسة "شبه التعاونquasi collaboration" التي انتهجها السيد عبد الرحمن عن السماح له بمقابلة ملك بريطانيا في لندن، وعلى الحصول على عدد من الأوسمة، وجذب انتباه الإداريين الاستعماريين اللصيق لعقود قادمات (دون كبير ثقة أحيانا).
ومنذ بدايات سنة 1921م بدأ السيد عبد الرحمن في عقد اجتماعات سياسية في داره. وفي أحد تلك الاجتماعات (وكما جاء في مذكرات بابكر بدري) تم التوقيع على عريضة موجهة لحكومتي الحكم الثنائي جاء فيها أنهم يفضلون أن يحكموا من قبل دولة واحدة(وكانوا يقصدون بريطانيا). ووصف المؤرخ حسن عابدين ذلك التطور بأنه "تقدمة للنجاح والتعاون المتبادل بين نظام استعماري و"ارستقراطية وطنية"". ولكن كانت للسيد عبد الرحمن (والذي صار بعد ذلك التاريخ يلقب بإمام الأنصار) برامج عمله (أجنداته) الخاصة، والتي كانت تتلخص في استغلال كل فرصة لتحسين صورته في عين الحكومة (ذكر المؤلف في الحاشية هنا أن حاكم الخرطوم اشتكى لبابكر بدري في اجتماع معه في 1921م من عبارة "عليه السلام" التي الحقت باسم عبد الرحمن المهدي في العريضة الجماعية المذكورة أعلاه، وقال له إن "الحكومة لا تعترف بأي قدسية للمهدي، ولن تسمح بإلحاقعبارة "عليه السلام" باسمه.
وتحاشى السيد عبد الرحمن أي دور نشط له في عملية ضم البريطانيين لسلطنة دارفور رغم وجود عدد كبير من أنصار المهدية في غرب السودان. ولكن ربما كان السيد عبد الرحمن يدرك أن إعادة اندماج دارفور مع السودان سيفتح الباب لمزيد من أنصاره في البلاد. كما أنه استفاد من الخلافات العلنية المتزايدة بين دولتي الحكم الثنائي (بريطانيا ومصر)، وكان يحرص على إعلان ولائه الكامل لبريطانيا. وفي يومي 23/4/ 1919م و19/6/ 1924م (وهما يومان مهمان في تاريخ الوطنية المصرية، وبالتالي كانا مصدر قلق للبريطانيين)عمل السيد عبد الرحمن على اصدار بيانات ولاء جماعية لبريطانيا. ووقع السيد عبد الرحمن علي أحد تلك البيانات في عام 1924م فوق اسم مفتي السودان وكتب وظيفته (بتواضع مخادع): مزارع cultivator. ورغم ذلك فقد ظل المسئولون في الخرطوم يشكون في ولاء السيد علي عبد الرحمن لبريطانيا. وعندما أقدم حاكم عام السودان السير جيوفري آرشر على زيارة الجزيرة أبا زيارة رسمية في 14/ 2/ 1926م، عمل مجلس الحاكم العام على اجباره على الاستقالة والعودة إلى لندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.