شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    المنتخب يتدرب وياسر مزمل ينضم للمعسكر    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دائرة المهدي: المال والمعتقد والسياسة في السودان (2) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمير
نشر في سودانيل يوم 20 - 10 - 2014

Dairat al Mahdi: Money, Faith and Politics in Sudan (2)
Fergus Nicoll فيرقس نيكول
مقدمة: هذا هو الجزء الثاني من ترجمة لمحاضرة ألقاها الكاتب البريطاني والصحفي المستقل فيرقس نيكول بجامعة درام في 20/6/ 2013م ضمن السلسلة المسماة "محاضرات سير وليام ليوس التذكارية".وعمل السيد نيكول كمدرس للغة الإنجليزية بثانويات السودان في ثمانينات القرن الماضي، ثم عمل بهيئة الإذاعة البريطانية ويعمل الآن بالقسم الإنجليزي بقناة الجزيرة. وللمؤلف كتاب بالإنجليزية عن المهدي وحياته، نشر بعنوان: " سيف النبي: مهدي السودان"عام 2009م مترجما عن مركز عبد الكريم ميرغني.
المترجم
********
The failure of containmentفشل الاحتواء
لم تكن السياسة البريطانية حيال المهدية الجديدة ثابتة أو مستقرة أبدا. فكانت كلما أتت إدارة جديدة لحكم البلاد كان عدد من المتعاطفين والمتشككين فيها يقدمون تقديرات متباينة أو متضاربة حول تلك المهدية. وأصدر قسم المخابرات في 18/11/ 1925م تقويما للمهدية الجديدة جاء فيه: " لا شك أن تلك الحركة قد تشكل خطرا محتملا... إن إزاحته (المقصود هو السيد عبد الرحمن المهدي) وإبعاده لمكان ما قد يكون مغامرة تتسبب في اضطرابات أمنية... ومن الأفضل أن تتم معاملته بصرامة ولكن بقدر عال من الاعتبار والاحترام الشخصي، وهذا من شأنه أن المحافظة على ولاء أنصاره (لنا)". وكتب ضابط كبير بالجيش (هو اللواء هيربرت هيدليستون) في 8 / 8 / 1926ميرد على ذلك بالقول: "إن قيام ثورة مهدية يفترض وجود "مهدي" يظهر علنا في الساحة ويعلن للناس أنه "مهدي"، ويتولى مقاليد دعوته، ويتقدمهم في المعارك. وليس تلك من صفات من يقود حركة المهدية اليوم، إذ أنه ليس بمحارب". ولا شك أن ذلك الجنرال لا يدرك كم كان تقييمه صحيحا ومطابقا للسيد عبد الرحمن.
وفي بداية العشرينيات ظهرت معالم الثراء على السيد في قصوره بالخرطوم وأمدرمان والجزيرة أبا. وبحسب ما أورده الصديق عبد الرحمن أزرق فقد كان السيد عبد الرحمن يمتلك في عام 1935م نحو 15000 فدانا من الأراضي الزراعية، وكانت ثلث تلك المساحة تدر سنويا نحو 20 إلى 30 الفا من الجنيهات. وعبر السير جيمس روبرتسون عن رأي الإدارة البريطانية في ذلك التوسع المتزايد لثروة السيد عبد الرحمن في كتاب له صدر عام 1974م بالقول: "إن نجحنا في إقناعه بتوجيه كل طاقاته للفلاحة وزراعة القطن، فسوف لن يجد في نفسه ميلا لزيادة نفوذه الديني والسياسي في البلاد". بينما أسمى كاتب المهدية الجديدة السيد الصادق المهدي تلك السياسة البريطانية في كتاب له عن "الجزيرة أبا" بأنها تقوم على "الحصار والإلهاء عن طريق تحقيق مكاسب تجارية". ولكن ما حدث هو أن البريطانيين لم يفلحوا في إلهاء السيد عبد الرحمن، بل دعم الرجل من قوة مركزه الديني والسياسي مستخدما ثروته تلك التي شيدها من حصاد "دائرة المهدي" ومستفيدا من النظام القائم. وكان رأيه دوما يستند إلى لغة التجار البرغماتية (العملية) التي ترى أنه إن كنت قد أقرضت أحدا من الناس مبلغا من المال وطالبته برده، فعرض عليك أن يعطيك نصف ما عليه من دين، أفلا تقبل بالنصف ثم تواصل المطالبة بالباقي؟ كانت تلك هي نظريته حول التقدم – في ما يخص وضعه الخاص - وكذلك في أمر حقوق البلاد السياسية الأوسع والأشمل فيما بعد. ووصف الصحافي محمد خير بدوي في مذكراته المسماة "قطار العمر" تلك السياسة بأنها تمتاز بالحكمة والدهاء، وبأنها إحياء لثورة أبيه مندون "هواجس دينية".
Beginning of the cotton empireبداية إمبراطورية القطن
كان تشييد سد (خزان) سنار على النيل الأزرق في عشرينيات القرن الماضي لحظة محورية للسيد عبد الرحمن. فقد تحصل في سنوات إنشاء السد على كثير من العقود من الباطن(subcontracts) لتوريد الخشاب اللازمة لبناء مساكن للعمال ومكاتب للموظفين وبعض منشآت بنية السد التحتية. وأهم من ذلك فقد خطرت له –وللمرة الأولى- فكرة ثورية في أن القطن هو ما سيكون عماد ثروة السودان، وثروة أي رجل أعمال سوداني يقتحم مجال زراعته. وعند افتتاح السد في 21 يناير 1926م كان اسمه يتصدر قائمة كبار علية القوم في سودان دولة الحكم الثنائي. وجاء في صحيفة السودان هيرالد (والتي كانت قد أصدرت ملحقا خاصا بمناسبة افتتاح الخزان في يوم 20 فبراير 1926م) أن أُولَئِكَ السادة أتوا لحفل الافتتاح وهم في حلل زاهية وجلابيب أنيقة شديدة البياض ومرصعة بالأوسمة مختلفة الألوان، وشكلوا مع جمهور الحضور السوداني بجلابيهم البيضاء وعلى خلفية شاطئ النيل لوحة زاهية.
وبعد عشرة أيام من حفل افتتاح سد سنار حصل السيد عبد الرحمن على قرض حكومي بقيمة 4500 جنيها مصريا لبدء زراعة القطن في الجزيرة أبا. ولم يرد ذلك القرض أبدا وذلك لأنه وبعد عامين من منح ذلك القرض عمل "أصدقاء في مراكز عليا"على اعتبار القرض هدية لا ترد، كما جاء في خطاب من الحاكم العام للسكرتير المالية بتاريخ 2/2/ 1926م، وخطاب من ذات الحاكم للسكرتير الإداري في 30/3/ 1928م (بحسب ما أورده جعفر بخيت في كتابه عن الإدارة البريطانية). ثم أتى من بعد ذلك دعم حكومي فعال آخر عندما صار السيد عبد الرحمن شريكا في مشروع القطن الحكومي في قوندال على النيل الأزرق. وساهمت الحكومة في المشروع بمبلغ 28000 جنيها، وكان على السيد عبد الرحمن القيام بواجبات "الإدارة العامة والإشراف"، على أن يتم تقسيم الأرباح مناصفة بين الشريكين.
وكانت مشاريع القطن الضخمة، ولتحقق أكبر قدر من النجاح، في حاجة نظم رعي صناعي متطور، وكان السيد عبد الرحمن هو أحد أوائل قلائل صفوة رجال الأعمال الذين امتلكوا مضخات (طلمبات) خاصة في النيل الأبيض. وتم في 1927م، وبعد تسعة سنوات على تقديم طلبه، التصديق له باستخدام المضخات في مشاريعه على النيل الأبيض. وكانت تلك هي إحدى ثمار رياح التغيير في الخرطوم. وتؤكد ذلك سجلات جمعية مزارعي القطن السودانية أن أول استخدام للمضخات كان في الجزيرة أبا في عام 1929م. وكان استخدام تلك المضخات في بادئ الأمر على سبيل التجريب، إذ لم يسبق لأحد من قبل ان حاول زراعة القطن على النيل الأبيض. وكان سد سنار يمد مشروع الجزيرة الحكومي الضخم بالمياه من النيل الأزرق، وكانت الحكومة تحاول أن تقلص من نشاط رجال الأعمال في المشاريع الزراعية الخاصة حتى لا تستقطب العمالة التي تعمل في مشروعها في الجزيرة. غير أن مشروع السيد عبد الرحمن في الجزيرة أبا (والذي بدأ ب 180 فدانا)أصاب نجاحا منقطع النظير في انتاج القطن طويل التيلة.
وكانت تلك هي بداية توسع كبير ومتسارع وميلاد مؤسسة تجارية متنوعة النشاط. ولم يمض وقت طويل حتى كانت مزارع عائلة المهدي – وكانت كل واحدة منها تحت رئاسة واحد منأفراد العائلة الممتدة- لا تزرع القطن فقط، بل تتاجر فيه بشرائها محصول المزارع الصغيرة في المنطقة والتي لم تكن تمتلك محالجها الخاصة. وبذا نجح السيد عبد الرحمن وعائلته الممتدة في السيطرة على إنتاج وتوزيع القطن، وعلى جني أرباح ضخمة من وراء كل ذلك أعيد استثمارها في مصانع ومعاصر للزيوت وشراكات تجارية وزراعية جديدة. وأدخلت محالج القطن (في ربك وغيرها) دخلا اضافيا مقدرا، إذ كانت تؤجر لحلج كثير من مشاريع القطن الصغيرة في المنطقة. وغدت "دائرة المهدي" في العمل كمؤسسة مالية تقرض أصحاب المشاريع الزراعية الصغيرة الراغبين في شراء جرارات (تراكتورات) وبذور ومضخات صغيرة وغير ذلك. ووصف مبارك الفاضل المهدي في مقابلة له في يوم 8/5/ 2013م ذلك النشاط الاقتصادي ك "ممول مجتمعي Community financier"، وبأنه: "من وسائل تمكين أنصار السيد عبد الرحمن". واستمرت دائرة المهدي تقوم بذلك الدور حتى الخمسينيات.
وجعل ذلك التوسع الاقتصادي السيد عبد الرحمن في معية أمراء تجار السودان، وكان جل هؤلاء من الأجانب من الأغاريق والمصريين والأرمن والشوام. وكان من شركائه رجل الأعمال الإغريقي الشهير قراسيموسكونتم يخلوص. وبحسب ما أورده المؤرخ حسن أحمد إبراهيم في مقال له في مجلة "السودان في رسائل ومدونات" عام 1977م كان عزيز كافوري العضو البارز في الغرفة التجارية السودانية هو من باعه منزله الأول (تاون هاوس) في الخرطوم في عام 1918م. ويؤمن البعض (مثل الصحافي محمد خير بدوي) أن رجال الأعمال من المشرق العربي (والذين يعرفون جماعيا في السودان بالشوام أو السوريين) كانت لهم اليد الطُّولى في بناء ثروة السيد عبد الرحمن، ربما كنوع من "الاستثمار" فيه كأفضل فرصة لهم في البقاء في حالة استقرار بالبلاد في أي عهد قادم يصعب التنبؤ بما سيأتي بعده عقب خروج الاستعمار البريطاني.
عبد الرحمن يمد يده للغرب Abd-al-Rahman reaches out to the West
كانت مشاريع السيد عبد الرحمن المتنامية تحتاج لأيادي عاملة كثيرة، وهنا تجلت القدرة الفائقة لذلك السيد على مزج سلطته الدينية بمصالحه التجارية.فببساطة، كان بمقدوره الاعتماد على أعداد كبيرة من الرجال الراغبين – تطوعا - في العمل في مزارعة مقابل توفير الإعاشة والسكن لهم، وحصولهم على القرب من ابن المهدي، أوكما جرت عبارتهم"بليلة وبركة". وفسر الصديق عبد الرحمن أزرق (مؤلف المقال الوحيد عن دائرة المهدي) ذلك بما يفيد بأن: "الرغبة النفسية وروح الولاء الطائفي للمهدية هما أكثر ما دفع المزارعين للعمل دون التفاف للكسب المادي، وجعلهم يغضون الطرف عن كل المناقص ... فالهجرة للجزيرة أبا بالنسبة لهم كانت مواصلة لقضية "الجهاد"، وامتدادا للحركة المهدية الثورية".
وكان يهاجر كل عام من كردفان ودارفور وما ورائها إلى النيل الأبيض نحو 15000 فردا للعمل في مشاريع السيد عبد الرحمن (ذكر المؤلف في الحاشية أن بعض من كانوا يأتون من غرب السودان كانوا يرغبون في العمل في المشاريع الحكومية، مما خلق تنافسا حول الأيدي العاملة، وأثار عمل هؤلاء في مشاريع السيد عبد الرحمن غضب الحكومة التي اتهمته بسحب العمال من مشاريعها. المترجم). ولجأ السيد عبد الرحمن في سنوات العشرينيات لأنصار أبيه الكثر، خاصة في دارفور، بعد أن قامت الحكومة بضمها للسودان البريطاني – المصري في 1916م. وزاد من صلة السيد عبد الرحمن بدارفور أن والدته كانت إحدى قريبات السلطان المعزول ("يمة مقبولة" كما عند الأنصار. المترجم). وكتب التجاني مصطفى محمد صالح في رسالته للدكتوراه والمقدمة لجامعة سانت أندروز البريطانية عام 1991م عن صلات السيد عبد الرحمن بقبائل معينة في دارفور بما يفيد بأن كثيرا من هؤلاء قد استجابوا لدعوة الإمام لهجر مساكنهم وأطفالهم والهجرة للجزيرة أبا لتعلم تلاوة الراتب والتعبد في "مسجد الكون".... وهاجر غالب هؤلاء تاركين خلفهم ممتلكاتهم وعائلاتهم من أجل عقيدتهم الدينية، ووهبوا أنفسهم للدائرة. وعمل المهاجرون في زراعة القطن والذرة وقطع الأخشاب دون رواتب محددة على أمل أن يلقوا ثواب عملهم في الآخرة ... وعابوا على من لم يهاجر للجزيرة مثلهم، وأتهموهم برقة الدين..."
وفي دارفور انزعج بعض السلاطين من قلة الأيادي العاملة في مناطقهم بسبب الهجرة الموسمية الكبيرة لمواطنيهم إلى الجزيرة أبا، وطلبوا العون من السلطات البريطانية لحل تلك القضية. وأوردت المؤرخة لدويين كابتجينز في كتاب لها صدر عام 1985م أنه ورد في تقرير حكومي صدر في 1/8/ 1936م أن "السلطان ... عبر عن سخطه لاستغلال عاطفة رجاله الدينية واستغلالهم كعمالة رخيصة (أو عمال سُّخْرَة) للسيد عبد الرحمن، وقال أيضا أن الناس في أبا ينقسمون لقسمين: مهاجرين وأنصار، ولكنهما يلقيان معاملة واحدة تتلخص في العمل القسري (forced labour) من السادسة صباحا حتى الثالثة بعد الظهر".
ورفض الإمام نفسه تهمة استغلال العمال والسُّخْرَة، وأصر على أن النظام المعمول به في الجزيرة أبا هو نظام "أبوي وإيجابي paternalistic and positive". وفي ذلك كتب الصديق عبد الرحمن أزرق نقلا عن السيد عبد الرحمن أن "جموع الأنصار التي تدفقت على الجزيرة أبا بعد أن هجرت وطنها وعائلاتها وكل ما تملك لم تفعل ذلك من أجل العمل في الزراعة أو غيرها. لقد أقبلوا ليسمعوا كلمة مني أعلن فيها الثورة على الحكم الأجنبي. غير أني تدبرت في الأمر ونظرت فيه من زاوية أخرى. لقد قر عندي أن العمل العسكري محكوم عليه بالفشل، وأن إهدار الحياة هو الهزيمة بعينها. ولقد رأيت ألا أقبل ذلك كي أحافظ على تراث وإرث المهدية حتى لا تندثر هذه الصفحة من تاريخنا. لقد كان مقدم من أقبل علينا هجرة وجهاد، تماما كما فعل آبائهم من قبل مع المهدي - ولقد وجهت روحهم المتوقدة للتفاني والمتطلعة للقتال نحو البناء والتعمير".
ولقد منح الرجال المهاجرون السيد عبد الرحمن مصدر ربح آخر ألا وهو الزكاة، والتي كان الأنصار يرون أنه يلزمهم تقديمها لابن الإمام. وكانت تلك الزكوات عينية في غالبها الأعم مثل شحنات الحبوب وقطعان البهائم، وقطع الأراضي في بعض الأحايين، وزاد تدفقها من ثروة العائلة. وأقر الصديق عبد الرحمن أزرق بأن تلك الزكوات كانت إحدى الوسائل التي تراكمت بها ثروة الدائرة، غير أنه ذكر أيضا أن لا أحد يعلم تمام العلم الطريقة التي كانت تصرف بها زكوات الأنصار بعد أن تصل إلى الدائرة ولا مصارفها. وفي فبراير من عام 1924م طلب نائب حاكم دارفور جورج ديبو تفاصيل تلك الزكوات، وأتت الإجابة بأنها كانت تتكون من 2500 جنيها (قيمة البهائم والذرة). وأعترف الصديق عبد الرحمن أزرق بأن ما ذكر ربما يكون أقل من نصف المبلغ الحقيقي. وفي 25 /11/ 1931م رفض ريتشارد أوين أحد الإداريين في مديرية النيل الأبيض ما ادعاه السيد عبد الرحمن عن ملكيته لبعض المزارع التي قال إنها أهديت إليه من قبل بعض رجال الدين في المنطقة، فكتب التالي: " كان... في غالب الأحايين يحصل على موافقة أصحاب تلك المزارع بالتلميح لهم بأن معجب جدا بتلك الأرض، فيجد صاحب الأرض نفسه (إلا إذا كان مضادا للمهدية) غير راغب في إغضاب السيد ومقاطعته، فيهبها له. ولا يقوم المالك الجديد بتشغيل العمال المحليين في تلك المزارع، بل يجلب أنصاره المتعصبين للعمل بها، وهؤلاء قد يكونوا مصدرا محتملا للثورة الدينية أكثر من أي عنصر مهدوي آخر في السودان..."
ووضع ذلك الحال من الإخلاص والتفاني من يعطون الزكوات والمهاجرين أيضا في خلاف مع قادتهم القبليين، والذين كان معظمهم يقاوم انتشار نفوذ السيد عبد الرحمن في مناطقهم. فالمهاجر قد يقدم جملا كزكاته في الجزيرة أبا، ولكنه يطالب بتقديم جمل آخر عند عودته لدارفور أو كردفان. وأحال السيد عبد الرحمن ذلك الموقف لصالحه بقوله للبريطانيين أنه من الأفضل أن يعالج أمر جمع مناديبه للزكوات بنوع من السرية والحصافة حتى لا يثير جمعها من أتباعه غضب زعماء قبائلهم والذين يبغضون أن يروا أتباعهم يدفعون الزكاة لغيرهم".
وفي هذه النقطة عن "مناديب السيد" يجب القول بأن السيد نجح ومن عام 1916م في خلق شابكة (شبكة) من المناديب انتشرت في أجزاء واسعة من النيلين الأبيض والأزرق وكردفان ودارفور وما ورائها مما أثار قلق البريطانيين، فقاموا في عام 1923م (بحسب ما ورد في مذكرات بابكر بدري) بتوزيع نشرات تحذر فيها المواطنين من أن الحكومة لا تعترف بعبد الرحمن المهدي (مع حذف كلمة "السيد" هذه المرة) ولا تعده إلا مجرد مواطن عادي ... وأن من يقوم باسمه بجمع أي مبلغ من المال (نقدا أو عينا) سوف يعتقل. وأورد عوض السيد الكرسني في مقال له عن المهدية الجديدة في مجلة "الشئون الإفريقية" عام 1987 ما جاء في مذكرة حكومية من أن السيد عبد الرحمن أقر في عام 1924م بأن لديه فقط 24 من "المناديب" مع مندوب واحد يعمل في دارفور بصورة مؤقتة، وعد ذلك تقليلا مفرطا لعددهم الحقيقي. ووصف السيد عبد الرحمن المهام الوظيفية لهؤلاء المناديب (بالإضافة لعملهم كمناديب زراعيين وتجاريين) بأنهم وبحسب قوله: "يمثلونني في كل الأمور مع الحكام المحليين ... وفي كل الأمور والمصالح التي تتعلق بي وبمواطني من الأهالي، إذ أنني أعهد إليهم بإبلاغي بكل ما يريد الأهالي إيصاله لي".
ووصل مناديب السيد عبد الرحمن لخارج حدود السودان الغربية. وبحسب مذكرة أمنية صدرت في 30/ 3/ 1924م اشتكت نيجريا (وهي تحت الحكم البريطاني المستعمر) من رسائل بعث بها السيد عبد الرحمن جاء فيها قوله بصراحة: "إنني أسير على درب والدي ... وأدعوا المسلمين في غرب أفريقيا للهجرة إلى الجزيرة أبا ..." وبشر من يسقط وهو في طريق هجرته لأبا بالنعيم المقيم في جنة الخلد. وأصدر السيد رود المسئول البريطاني في نيجريا مذكرة ناقدة يوم 22/5/ 1924م تعليقا على ذلك النبأ، ووصف رسائل السيد عبد الرحمن بالعمل الشائن.
وشكل التوافد المكثف للمهاجرين معضلة لباشمفتش كوستي، والذي كان عليه القيام بإحصاء عدد البيوت الصغيرة التي بنيت لهؤلاء المهاجرين الجدد في مستوطنات بالجزيرة أبا. وبلغ أعداد تلك البيوت في عام 1936م نحو 6000 بيتا بحسب ما أورده البريطاني ك. دي. هندرسون (والذي عمل حاكم الدارفور بين عامي 1949 و1953م. المترجم)، والذي أورد في كتابه الصادر في 1987م عن "حياة المفتش البريطاني في السودان بين عامي 1898 و1955م" نقلا عن المفتش بيل هندسون من أن خطر الزيادة المضطردة في أعداد تلك البيوت لم تعره الحكومة أي اعتبار رغم توسلات نائب حاكم النيل الأبيض... و"كأن ذلك .... ليس كافيا ليلجئ المفتش صغير السن لقوارير الويسكي، فقد ألقي على كاهله أيضا مهمة لا يحسد عليها هي تقدير أرباح دائرة المهدي ... وسيأتي (المسكين) بأرقام ستلغى حتما بناء ًعلى معلومات يملكها (فقط) قسم المالية في الخرطوم".
وأوضح تقرير صدر في 20/ 7/ 1945م لإيان دوجلاس المراجع العام في الخرطوم عن ضرائب دائرة المهدي الصعوبات التي كانت تواجهها الإدارة البريطانية في متابعة وحصر حسابات عائلة المهدي وطرق حساباتها الملتوية (في رأيه)، وفي رصد الهجرات الجماعية للجزيرة أبا. ووقع على دوجلاس (عند زيارته للجزيرة أبا) عبء إحصاء ليس محصول أقطان السيد عبد الرحمن فحسب، بل ومحالجه ومزارعه المروية وبساتينه وإسطبلاته ومزارع قطعان بهائمه ومصانع غزله. وصادفت زيارته تلك احتفالا دينيا، أوضح لذلك الغريب الزائر التداخل (والتضارب) بين مصالح مضيفه السياسية والدينية والمالية.وأورد الموظف البريطاني رولو بولتون (ممثل مديرية النيل الأبيض في مكتب المراجع العام) في تقرير لرؤسائه بأن الصلاة في يوم زيارتهم "أمها عدد ضخم من الناس"، وأضاف بأنه: "أتضح لاحقا ... رسائل عديدة قد أرسلت لكل الأمكنة تحث أنصار المهدي المنتشرين (في داخل البلاد وخارجها) للقدوم للجزيرة أبا ليشهدوا هذا الاحتفال بالذات، إذ أن السيد عبد الرحمن - بحسب ما جاء في تلك الرسائل - كان يفترض أن يظهر كالنبي عيسى. لذا أرسلت الحكومة باخرة مسلحة لتعيد السيد عبد الرحمن لداره في العاصمة. ووجدت أنا صعوبة بالغة في إقناع أولئك "الحجاج" بالرجوع إلى ديارهم ... "
وكانت تلك التجمعات كافية لتقنع الكثيرين في إدارة الخرطوم بأنه، وعلى الرغم من إعلانات ومظاهر الولاء والخضوع، إلا أن المهدية ما زالت، وبحسب ما جاء في أحد تقارير المخابرات البريطانية في السودان"تمثل خطرا محتملا وكامنا، وينبغي مداومة وضعها تحت الرقابة اللصيقة".
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.