غيَّب الموتُ الذي هو حقٌ علينا جميعاً، المفكر الأفريقي الرمز التاريخي البروفسور علي المزروعي، الأستاذ في الجامعات الأميركية، وأحد الذين أصلوا تأصيلاً عميقاً للهوية الأفريقية، في إطار تحديد المؤثرات المهمة التي شكلت التراث الأفريقي الذي صدعَ به البروفسور الراحل المزروعي وهو التراث الأفريقي المحلي، والمكوِّن الإسلامي، والتأثيرات الغربية، وذلك في كتابه الموسوعي الوثائقي عن "تراث أفريقيا المثلث". وكان البروفسور الراحل علي المزروعي مرتبطاً ارتباطاً وجدانياً بأفريقيا، على الرغم من الإقامة، وكسب العيش في الولاياتالمتحدة الأميركية لسنين عددا. فلم يُنسهِ طول المكوث في الولاياتالمتحدة الأميركية الجذور المتمثلة في هذا الارتباط الوجداني بكل ما هو أفريقي. وأحسبُ أن القليلين يعلمون أن البروفسور الراحل علي المزروعي كان مرجعاً مهماً لكثير من الجامعات الأميركية والبريطانية في الشأن الأفريقي. وقد تخرج في جامعة اكسفورد عام 1966، وكان في إمكانه أن يعمل في الجامعة نفسها، لأنه برّز أكاديمياً، ولكنه فضّل أن ينقل ما اكتسبه من علمٍ وخبرةٍ إلى جامعة ماكريري رئيساً لشعبة العلوم السياسية، وعميداً لكلية العلوم الاجتماعية فيها. وأضفى تألقاً على هذه الجامعة التي كانت وقتذاك من خيرة الجامعات الأفريقية، ومن تطلعاته وتطلعاتها أن تكون بوتقة الوحدة بين دول شرق أفريقيا الثلاث. ولكن كدأب جامعاتنا الأفريقية في أنها مؤسساتٍ طاردةٍ لعباقرتها، وكان البروفسور الراحل من أوائل ضحايا الطغيان في بلدان أفريقيا الذي أجبره للاستجابة لقول الله تعالى: ".. أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا "، وكانت هجرته إلى الولاياتالمتحدة الأميركية، لعلمٍ يُنتفَع به، ودنيا يُصيبها. وقد تعرفتُ على البروفسور الراحل المزروعي إبان إقامتي في بريطانيا لسنين عددا خلال زياراته إليها في ملتقياتٍ ثقافية، ومنتديات فكرية، شهدتها لندن وأكسفورد. وتوطدت علاقتي به خلال زياراتي إلى الولاياتالمتحدة الأميركية، لا سيما مدينة نيويورك، حيث كان يعمل الراحل في إحدى جامعاتها. وأمضيتُ وقتاً طويلاً معه عندما استضافه الأخ الصديق الدكتور عبد الوهاب الأفندي مدير مركز ابن رشد بلندن، حيث ألقى على مسامعنا محاضرةً قيِّمةً حول قضية "الإسلام والديمقراطية"، شارحاً بفهمٍ عميقٍ، وفلسفةٍ ناصعةٍ، ملامحَ الديمقراطية والشورية في الإسلام بدءاً من دولة المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرون متأخرة، قبل حدوث انحطاط المسلمين وتأخرهم في الشورى والديمقراطية. ومن المصادفات الجميلة أنني جلستُ بالقرب منه في دعوة عشاء كان قد أولمها مركز ابن رشد اللندني، احتفاءً بمناسبة زيارة الأخ البروفسور الراحل علي المزروعي في أحد المطاعم اللندنية الشهيرة، والتف حوله جمهرةٌ من الشباب المسلم في بريطانيا، حيث تحدث عن اهتمامه وهمومه بأفريقيا، واصفاً أن بعض دول أفريقيا ما زالت دولاً هامشية. أخلصُ إلى أن البروفسور علي المزروعي عُرف بنظريةٍ، سببت له كثيرَ مضايقاتٍ من مفكري وأكاديميي أفريقيا، إذ أنه كان يظن – وليس كل الظن إثماً – أن معالجة مشكلات دول أفريقيا الهامشية لا يمكن أن تتم إلا بإعادة استعمارها، بحسبان أن الاستعمار الأوروبي خرج مبكراً من الدول الأفريقية قبل أن يرسِّخ فيها مفاهيم الحرية والشورية والديمقراطية والتنمية، فعليه كان يرى أنه من الضروري إعادة استعمار أفريقيا، ولكن لا ينبغي أن يتم هذا الاستعمارعن طريق الأوروبيين، بل كان يدعو إلى استعمارٍ من نوعٍ جديدٍ، ألا وهو استعمار أفريقي – أفريقي، بمعنى أن يكون مدلول الاستعمار هو العمران والتنمية، ولذلك قسّم الدول الأفريقية إلى مجموعاتٍ وجعل في رأس كل مجموعةٍ دولة تقوم مقام المستعمر، إلا أن هذه النظرية ووجِهت بردود فعلٍ متباينةٍ، وانتُقدَ البروفسور الراحل المزروعي بسببها انتقاداً واسعاً ولاذعاً، صادف معه قدراً من الاعتساف. وأحسبُ أنه من الضروري في هذه العُجالة أن نترحم عليه، وندركَ إدراكاً عميقاً ما رمى إليه الشاعر العربي كعب بن زهير بن أبي سُلمى: كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ ألا رحم الله، البروفسور العلامة علي المزروعي مفكر أفريقيا ورمزها، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وأسكنه فسيح جنانه مع الصديقين والشهداء والنبيين وحسن أولئك رفيقا، وألهمنا جميعاً، عارفي فضله وعلمه الصبر الجميل. " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ". ////////////// //////////