[email protected] الغواصات نوعان، اولاهما يقتصر غوصه على حقبة واحدة، اما النوع الثاني فهو الغواصات العابرة للحقب. ويعتبر الاستاذ عباس ابراهيم النور – وهو مثقف وسياسي سوداني رفيع - من النوع الثاني. وكنت قد طلبت من هذا الحبيب الغواصة قبل ثلاثة أعوام، في غضون مراسلات بيننا، ان يشرع في كتابة مذكراته، وألححت عليه في ذلك، وذكرته بأنه يحمل في صدره جزءاً عزيزاً، يمتد الى نصف قرن، من تاريخ السودان السياسي. عرفت الساحة عباس واحداً من الطلائع الاولى لحركة القوميين العرب في السودان، وأحسب ان التعبير الاكثر صدقية هو انه من مؤسسي وقادة جماعة (الناصريين) السودانيين. وقد أخلص الرجل للقومية والناصرية، عقيدةً فكرية وانتماءً سياسيا، الاخلاص كله. وناضل في سبيل إعلاء راياتها وبناء دولتها نضالا باسلاً. ويستتبع ذلك بالضرورة أنه كان وثيق الصلة بالخلايا التي دبرت انقلاب مايو 1969 بحكم قربه الاستراتيجي من القيادات العروبية المتآمرة على النظام الديمقراطي، وفي مقدمتها رئيس القضاء ورئيس الوزراء الاسبق بابكر عوض الله. ونعلم اليوم - والحقائق والوثائق متاحة على مرمي نقرات فارات الحواسيب - أن تلك العناصر العروبية كانت تعمل آنذاك بتنسيق مباشر مع المخابرات المصرية، وبتمويل من بنك مصر في الخرطوم، وقد كان على رأسه الاستخباري محمد عبد الحليم، الذي تولى وزارة المالية لفترة قصيرة. (جرى تغيير اسم بنك البصاصين هذا في وقت لاحق الى بنك الشعب التعاوني). تسنم عباس منصب رئيس الدائرة القانونية والمستشار القانوني لرئيس مجلس الشعب في الحقبة المايوية. وربما كان بعض الهوى الناصري قد تخثّر في قلب صاحبنا في نهايات السبعينيات، عندما أقنعه الاستاذ على عثمان محمد طه والشيخ احمد عبد الرحمن محمد، اللذان انسربا الى داخل البرلمان المايوي عقب المصالحة الوطنية، بأن (يتغوصن) للحركة الاسلاموية. كيف استطاعت الحركة ان تجند وتغوصن هذا الناصري الأصيل، وأن تتحكم من خلاله في المسارات التشريعية والقانونية داخل البرلمانات المايوية؟ الله أعلم. عقب انتفاضة ابريل 1985 قام الاستاذان على عثمان محمد طه واحمد عبد الرحمن محمد بمراجعة قائمة مرشحى الجبهة الاسلامية القومية لدوائر الخريجين. ثم، ودون ان يطرف لهما جفن، قام أحدهما بشطب اسم المرشح الدكتور حسن مكي، وأضاف في مكانه اسم الاستاذ عباس ابراهيم النور. وجرى اعلانه ضمن قوائم المرشحين. وعينك ما تشوف الا – جده - النور! إذ كان خروج هذا الغواصة من مركبته البرمائية الى العلن مفاجأة اذهلت الاسلامويين، قبل ان تدهش الناصريين والمايويين. وكان الاكثر مدعاة للاستغراب فوزه بسهولة تامة في تلك الانتخابات ممثلاً للجبهة الاسلامية القومية. والحق ان اداء الرجل البرلماني كان متميزاً بحكم خبراته العلمية والمهنية، وتمرسه ونضجه وكثافة محصوله الثقافي. وكذلك كان اداؤه السياسي في اطار حزب الجبهة الاسلامية. إلا أن ذاكرتي أعيتني في مسعاي لاستدعاء طبيعة الدور الذي لعبه في قضية دعوة، ثم اغتيال القيادي الشيعي العراقي مهدي الحكيم، داخل فندق هيلتون الخرطوم في يناير 1988. وقد رأيت اسم هذا الحبيب الغواصة يتكرر عشر مرات في اوراق تحقيقات ادارة الامن بوزارة الداخلية آنذاك. وفي عهد حكومات الديمقراطية البرلمانية الثالثة كان الاستاذ عباس ابراهيم النور يُشاهد يومياً، وبصورة منتظمة، وهو يجلس على مقعد بعينه على طاولة الاجتماعات الرئيسية بمكتب وزير الثقافة والاعلام الاستاذ عبد الله محمد احمد القيادي بحزب الامة، والذي كان قد بدأ حياته السياسية في الخمسينيات ضمن حركة الاخوان المسلمين (ظلت شبهة الغوصنة تلاحق الاستاذ عبد الله نفسه طيلة حياته السياسية، التي ختمها ملتحقاً بجماعته الاصل عقب انقلاب العصبة المنقذة، حيث استوزر واستسفر. اى صار وزيرا وسفيرا). ولم يكن يخالجني شك في ان الاستاذ عباس ابراهيم النور هو الذي كان يدير شئون الوزارة وقتذاك، ويحرك كل شئ فيها من وراء ستار، رغم وجود وزيرها الاصلي. وربما كان مكلفا بذلك من حزبه! وقد وفقت العصبة المنقذة في اختياره بعد انقلابها سفيرا في طرابلس. حيث وظف كل مهاراته وخبراته ومعارفه واتصالاته بقدامي الناصريين والقوميين في التقرب من النظام الليبي واقناع قيادته بالتعاون مع الانقلاب، وقد كان. واثناء سفارته الفاعلة في ليبيا تحول القذافي الى حليف قريب وداعم للنظام على الاقل خلال السنوات الاولى. لم استغرب عندما دار الزمان دورة كاملة، فاستدعاه صديقه، صانع الغواصات، الذي جنّده وغوصنه في المبتدأ، الاستاذ على عثمان محمد طه، عند توليه منصب النائب الاول للرئيس، وعهد اليه بمنصب المستشار الاعلامي لرئيس الجمهورية. نسأل الله سبحانه وتعالي أن يتقبل من حبيبنا عباس غواصته و(عواسته) في تاريخ السودان خلال نصف القرن الماضي. وان يكتب له صوالحها في كتاب الاعمال الصالحات، والمشتبه منها في كتاب الاعمال المشتبهات! نقلاً عن صحيفة (السوداني)