حين أخبرني مديري بأن المحطة القادمة لأسفاري، المتعلقة في العمل، هي السودان وتحديداً مدينة الخرطوم، أصبت بالحيرة؛ ذلك أن المعلومات عن هذه البلاد شحيحة لديّ، كما أن صورة نمطية كانت ترسمها مخيلتي بأن أوجه الترفيه في السودان ستكون قليلة. ما زاد من حيرتي تذكرة الطيران التي حجزتها لي الشركة (التي أوعزت لي بالسفر لعمل دراسة جدوى على أرض الواقع هناك؛ للتحقق من مدى إمكانية افتتاح فرع في الخرطوم) ذلك أنه من بين شركات الطيران التي توفر رحلات إلى السودان، لم يكن مواتياُ للمواعيد التي يرغبون بها سوى واحدة تحمل اسم فلاي ناس، ولم أكن قد سمعت بها من قبل. بمجرد اعتلائي الطائرة تبدد خوفي شيئاً فشيئاً؛ ذلك أن الخدمات المقدمة على متنها كانت على سوية عالية، مقارنة بالسعر الذي أخبرني عنه مديري، إلى جانب المقاعد الشاغرة التي تتوافر على متن الطائرة، ما أمّن حجزاً سريعاً لي. تتلقفك الرطوبة والحرارة بمجرد أن تحل على الخرطوم، لكنها من نوع خاص يجعل المكان حميماً بالنسبة لك. المدينة مفرطة في الدفء على الأصعدة كافة: الجغرافية والبشرية. السودانيون طيبون للغاية ويرحبون بالضيف كما لو كان واحداً منهم. ثيمة الأمان الموجودة في تلك البلاد بالكاد ستجدها في بلاد أخرى. إلى جانب هذا، يلعب نهر النيل، الذي يمتد بين مصر والسودان، دور الحاضن للضيف؛ إذ لن تشعر بغير القُرب والسكينة بمجرد أن تقف على ضفافه. الواجهة البحرية الممتدة، الفلوكات الجميلة التي تطفو باطمئنان في المسطحات المائية التي تعجّ بها الخرطوم، أشجار النخيل الشاهقة، كلها بلا استثناء، بدّدت غربتي في تلك العاصمة العربية. كما أن السياحة المائية، إذا جازت لي تسميتها كذلك، التهمت جلّ وقتي هناك. النيل الأزرق، شرق النيل، النيل الأبيض، وما تعج به هذه العوالم المائية من غنى على صعيد الحياة البحرية، وأسراب الطيور، والجُزر التي بوسع الزائر الذهاب إليها عبر الفلوكات للاستمتاع بطبيعتها البِكر وهدوئها الجم، والمراعي الخضراء التي تنتشر على جنبات المسطحات المائية كلها تقريباً. الذهاب للسوق القديمة في الخرطوم حكاية أخرى. هناك سيجد الزائر الزي السوداني مهيمناً كما لم يخطر في باله من قبل، وبأطياف لونية لا تُنسى. تحرص المرأة السودانية على أن يكون زيّها في الغالب زاهياً، كما لا يفارق الرجال عمائمهم الملفوفة بعناية. تجربة الحناء غنية جداً في أسواق الخرطوم. كلما يمّمت وجهك شطر جهة في السوق ستجد النسوة اللاتي يقدمن خدماتهن لنقش الحناء للسودانيات والعربيات والسائحات العالميات كذلك الأمر. لم يفُتني تناول أكلات سودانية تقليدية. المطبخ السوداني مشابه كثيراً للمطبخ المصري والشامي والخليجي من حيث المكونات، لكن ثمة نكهة خاصة تضيفها السيدة السودانية لأطباقها، تجعل منها شيئاً ذا فرادة. تجربتي في الخرطوم واحدة من التجارب التي لا تُنسى؛ إذ إلى جانب كونها آتت أُكلها من حيث المنفعة الوظيفية، ما جعلني لا أزكي افتتاح فرع جديد هناك فحسب، بل والطلب من مديري أن أشرف عليه رسمياً وأن أزوره باستمرار، فإنها كذلك الأمر كانت قريبة لقلبي على الأصعدة كلها: جغرافياً وإنسانياً.