السفير عبد الله الأزرق ، وكيل وزارة الخارجية ، ليس ممن يلقون القول على عواهنه فهو أديب أريب وشاعر نحرير لذلك فإنه عندما يتحدث فإنه يعني ما يقول. حفل لقاء السفير الأخير مع صحيفة "اليوم التالي" يوم الخميس 11 الجاري والذي اطلعت على نصه المنشور في صحيفة "الراكوبة" الأليكترونية بالكثير المثير ، وقد أطنب المحاوِرْ والمحاوَرْ في موضوع القصيدة الرائعة التي نظمها السيد الوكيل في وزيرة خارجية موريتانيا والتي أوضح شاعرها أنها كانت من النسيب وليس الغزل كما اعتقد الكثيرون ممن لا يفهمون في الشعر. وللسيد الوكيل كما هو معلوم قصيدة رائعة أخرى لم تجد نفس الصيت نظمها في وداع صديقه سفير دولة قطر بلندن ، فيما أذكر ، ختمها ببيتين بليغين من عيون الشعر السوداني خاطب فيهما الشيخ تميم أمير دولة قطر وسفيره بلندن بقوله: فيا "كعبةَ المضيومِ" باللهِ زَوْرَةً ... تُطمئنُ نَفْسِي ثمُّ أقْضِي مَرَامِيَا و يا خَالِداً أنتَ السَّفِيرُ فَبَلِّغَنْ ... سَلامِي إلى مَنْ كانَ في القَلبِ ثَاوِيَا في حديثه لصحيفة اليوم التالي يقول السيد الوكيل أن وزارة الخارجية كانت محتكرة تاريخياً لبعض العوائل ولم يكن العمل بها متاحاً لغمار الناس ، وأن من تسلل إليها من هؤلاء الغمار إنما كان في إطار سياسة ذر الرماد على العيون. لم يحدد السيد الوكيل ماذا يعني بكلمة "تاريخياً" وإن كنت "أحسبُ" أنه يعني بذلك أن اختيار الدبلوماسيين قبل عام 1989 كان معيباً وكان يتم على الأساس الذي ذكره. لا أشك لحظة واحدة في أن شخصي الضعيف ينتمي إلى فئة "غمار الناس" فقد كان الوالد يعمل مجرد نفر بقوة بوليس السودان ، وكانت الدواجن والأغنام تشاركنا المنزل الصغير المخصص لنا في إشلاق البوليس وكانت الوالدة تعمل في صناعة "البروش" من سعف أشجار الدوم بغرض دعم مرتب الوالد الضئيل حتى نتمكن من مواجهة تكاليف الحياة على رخائها في ذلك الزمان السعيد. كان كل أفراد الأسرة يعملون ، لا فرق في ذلك بين راشد وطفل ، من أجل توفير لقمة العيش الحلال وهو حال الغالبية العظمى من أبناء الشعب السوداني بما في ذلك بعض كبار المسئولين في هذا الزمان. ولولا مجانية التعليم لكنا من الفاقد التربوي الذي تكتظ به شوارع بلادنا الآن. ولولا الدعم الذي كانت تجود به علينا الجمعية التعاونية للبوليس لما تمكنا من مواجهة الكثير من مصاعب الحياة. جلست لامتحان دخول وزارة الخارجية في عام 1971 ، وعندما تلفت حولي في قاعة الامتحانات بجامعة الخرطوم أدركت أن الغالبية العظمى ممن جلسوا لذلك الامتحان كانوا في الحقيقة من "غمار الناس". وعندما يقول السيد الوكيل في لقائه بصحيفة اليوم التالي أن الوزارة طبقت في الاختيار الأخير للدبلوماسيين معايير دقيقة فإنه لا يأتي بجديد ، فإن المعايير التي ذكرها هي نفسها التي طبقت علينا في عام 1971 ، بعد إضافة القليل من التعديلات لمواكبة التوجه الحضاري. وإن كان العمل بهذه المعايير قد علق منذ عام 1989 وفقاً لسياسة التمكين فإن ذلك لا يعني أن الأختيار في العهود السابقة كان معيباً بل على العكس من ذلك تماماً ، ولن يقدح في ذلك ما صرح به السيد الوكيل لصحيفة " اليوم التالي ". ولعل الامتحانات التي جلسنا لها والمعاينات التي اجتزناها لم تكن بأقل دقة أو حرصاً مما يشير له السيد الوكيل. الذي حفزني ، في الحقيقة ، لكتابة هذا التعليق هو أن حديث السيد الوكيل ، مع احترامنا لسيادته ، يشكل ظلماً بيناً لشخصي الضعيف ولزملائي من الدبلوماسيين الذي لا أشك لحظة في كفاءتهم وأمانتهم في تصريف مهامهم. كما أن حديث السيد الوكيل سلبني أحد مفاخري التاريخية ، فقد ظللت أؤكد لأبنائي بأنني "التحقت بوزارة الخارجية بعد أن سكبت الكثير من عرق الجبين" ، وهآنذا أكتشف الآن وبعد كل هذه السنوات إنني لا أعدو أن أكون ممن التحقوا بالوزارة بسبب انتمائي لشرق السودان الذي تطبق على أبناءه "سياسة التمييز الإيجابي" أو "ذر الرماد على العيون".