لم يكن قرار فاتو بنسودا مدعية المحكمة الجنائية الدولية يوم الجمعة الماضي، المتعلق بحفظ إجراءات التحقيقات في ما أسمته جرائم حرب إقليم دارفور في غرب السودان، متعللةً بأن مجلس الأمن التابع لمنظمة الأممالمتحدة لم يُعر تقاريرها الدورية في هذا الشأن اهتماماً، يُمارس أساليب مضاغطاته السياسية والاقتصادية المعروفة، على الرغم من أن المحكمة أحالت ملف السودان إلى مجلس الأمن في عام 2010، لأنه لم يبدِ أي تعاون مع المحكمة، بعد إصدارها من لاهاي لائحة اتهام ضد الرئيس السوداني عمر البشير في عام 2009، بادعاء ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم إبادة، من خلال استناد المحكمة إلى شهادات سماعية من خصوم النظام ومقاتليه تمرداً وموجدةً آنذاك، فهي شهادات ناجمة عن مرارات وموجدات، ولم تكن شهادات حقٍ وصدقٍ، مدعومة ببراهين ثابتة، وأدلة قاطعة، فهي شهادات واهنة، أوهن من بيت العنكبوت، تم الوصول إليه لقناعة المحكمة الجنائية الدولية بعد بحث مضنٍ لم تجد ما يُبرر مواصلة جهودها، بل أنها أرادت أن تُبدي استياءها من عدم تحرك مجلس الأمن. فالمعنى البعيد لقرارها هذا حث مجلس الأمن للتحرك الفاعل والسريع، فهي استخدمت أحد أساليب البلاغة في التورية، إذ أن هناك معنى قريباً غير مُرادٍ، وآخر بعيد هو المراد، فمقصدها ليس التجميد في حد ذاته، بل التحريك للقضية، بدعم أكبر ومضاغطة أقوى من مجلس الأمن. وأحسبُ أني أمس (الأربعاء)، ركزتُ على مقدمة للسيناريوهات المحتملة من قرار المحكمة الجنائية الدولية تجميد تحقيقاتها المتعلقة بإقليم دارفور، على نهج مقدمة ولي الدين عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن خلدون لمؤلفه الضخم الموسوم "كتاب العبر"، وهو مؤسس علم الاجتماع، من باب التشبه بالرجال فلاح. فأحصر اليوم (الخميس) هذه العُجالة على سيناريوهين محتملين، بشيءٍ من التحليل، مستصحباً ما قاله الأخ علي أحمد كرتي وزير الخارجية في رده على استفسارات نواب بمجلس الولايات أول من أمس (الثلاثاء)، إن قرار المحكمة الجنائية الدولية القاضي بإحالة ملف السودان إلى مجلس الأمن الدولي مرة أخرى، يُعتبر محاولة لتصعيد أزمة دارفور، مشيراً إلى أنه أسلوب جديد لإصدار قرارات جديدة للقبض على من لم تستطع المحكمة- توقيفه -، منوهاً بأن الخلافات السياسية الداخلية في السودان مهدت الطريق أمام المنظمات الأجنبية للاستثمار سياسياً وتحقيق مصالحها، مؤكداً "أن طبيعة خلافاتنا وقضايانا الداخلية أثرت على علاقات البلاد في الخارج". في رأيي الخاص، أن هنالك جملة سيناريوهات محتملة من قرار المحكمة الجنائية الدولية تجميد تحقيقاتها المتعلقة بإقليم دارفور، ولكن دعنا نركز على سيناريوهين محتملين في هذا الخصوص. السيناريو الأول: أن فاتو بنسودا مدعية المحكمة الجنائية الدولية دُفعت دفعاً من قبل الولاياتالمتحدة الأميركية إلى تحريك ملف السودان في مجلس الأمن، وذلك بادعاء أن هنالك عدم جدية وتحرك فاعل من مجلس الأمن تجاه المضاغطة الدولية القوية، من أجل إحداث بعض التقدم الملموس في ملف السودان الذي بحوزة المحكمة الجنائية الدولية، وأن السياسة الخارجية بدأت تحقق بعض الاختراقات، فقد شهدت الخرطوم حدثين مهمين، في إطار الانفراجات الخارجية، وهما الملتقى العربي - الروسي الذي حضره سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسية وعدد من الوزراء العرب، وبعد انتهائه بيوم واحد استضافت الخرطوم مؤتمر دول الجوار الليبي. فالعلاقة السودانية - الروسية، إضافةً للعلاقة السودانية - الصينية تُشكل مضاغطةً دوليةً، تُهدد المخططات الأميركية والأوروبية، لأنهما يملكان حق النقض في مجلس الأمن. فالتفكير الأميركي الجديد استخدام مضاغطة إنسانية تُحرج كل من روسيا والصين إذا اعترضتا في مجلس الأمن على قرار ضد السودان. وتجيء هذه الخطوة متزامنة مع ادعاء راديو "دبنقا" اغتصاب 200 امرأة وفتاة في قرية تابت بشمال دارفور من قبل جنود سودانيين، على الرغم من أن لجنة تحقيق من بعثة "اليوناميد" حققت وبرأت الجنود من هذا الاتهام. والأمر الثاني إعلان المحكمة الجنائية عدم ثبوت الجرائم التي وجهت ضد الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، لتأكيد أن المحكمة الجنائية لا تضمر شراً للرؤساء الأفارقة. عليه يجب أن تضع وزارة الخارجية كل هذه الحيثيات في حسبانها. أما السيناريو الثاني: إن الإدارة الأميركية تُريد أن تُقنع مواطنيها بأن المحكمة الجنائية عجزت عن تحريك ملف السودان. فمن هنا أن أميركا لا تُريد أن تشكل المحكمة الجنائية الدولية مضاغطة سياسية على اتخاذ قرارها في التعامل مع الشأن السوداني، لا سيما أن هنالك مجموعات ضغط أميركية في الكونغرس ورجال الأعمال يرون أنه من الضروري الانفتاح على السودان، خاصة في ما يتعلق بالملف الاقتصادي والاستثماري حتى الملف السياسي بدأ يتحرك من أضابير المراكز البحثية، وليت الحكومة اقتنعت بحديث الأخ علي أحمد كرتي وزير الخارجية في المجلس الوطني (البرلمان) مؤخراً، من أن إصلاح علاقاتنا الخارجية يبدأ من إصلاح الشأن الداخلي. أخلصُ إلى أن هذين السيناريوهين المحتملين، من جملة تحليلات، ومخرجات جلسات عصف ذهني مع عدد من الأميركيين والبريطانيين، تدفعني لمناصحة الدولة بضرورة إنشاء مجلس أعلى للإعلام الخارجي، لمواجهة مثل هذه المستجدات إعلامياً لدعم الجهود. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". وقول الشاعر العربي، زهير بن أبي سلمى: وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضْلِهِ عَلَى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ