شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    المنتخب يتدرب وياسر مزمل ينضم للمعسكر    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذ الدكتور يُوسُف فضل حسن وجائزة العز بن عبد السَّلام .. بقلم: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
نشر في سودانيل يوم 30 - 12 - 2014

تكريم العلماء بجوائز تليق بمقاماتهم العلميَّة اسماً ومعنى فيه تقدير لقيمة العلم وعطاء العلماء، فالعز بن عبد السَّلام (ت. 1262م) عالمٌ فذٌ من فضلاء الأمة الإسلاميَّة، وتأسيس جائزة باسمه لأصحاب القدم الراسخ في الثقافة والعلوم والآداب العربيَّة والإسلاميَّة والإفريقيَّة فيه تقدير لمكانته العلميَّة الشامخة، وتثمين لمساهمات العلماء البارزين. وفوز الأستاذ الدكتور يُوسُف فضل حسن بجائزة العز بن عبد السَّلام للعام 2014م، هو تقدير صادف أهله؛ فالرجل مؤرخٌ ثَبْتٌ، أنفق ستة عقود من عمره في خدمة الأكاديميا السُّودانيَّة، والعربيَّة، والإفريقيَّة، والإسلاميَّة، فكان عطاؤه متميزاً ومنبسطاً في فضاءات التدريس الجامعي، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع. وبذلك استطاع أن يدوَّن اسمه بمداد المعرفة الذي لا ينضب في قائمة العلماء البارزين الذين أبدعوا في تطوير مؤسسات التعليم العالي، وربطها بدواوين الحكومة وقطاعات المجتمع المدني؛ لتحقق التقدم العلمي، والنمو الاقتصادي، والرُقي الثقافي، والازدهار الحضاري المنشود.
نال الأستاذ يُوسُف فضل حسن بكالوريوس الشَّرف في تاريخ الشرق الأدنى والشرق الأوسط في معهد الدراسات الشرقيَّة والإفريقيَّة بجامعة لندن عام 1959م؛ ودرجة دكتوراه الفلسفة في التاريخ الإسلامي في الجامعة نفسها عام 1964م؛ ورُقي إلى درجة الأستاذيَّة (Professorship) في التاريخ بجامعة الخرطوم في أول يوليو 1972م. وبهذه الخلفيَّة الأكاديميَّة المتميزة درَّس مقررات تاريخ العرب، والخلافة العباسيَّة، والخلافة العثمانيَّة، وشمال إفريقيا في العهود الإسلاميَّة، والممالك الإسلاميَّة في السُّودان، والإسلام في إفريقيا، والديانة المسيحيَّة في إفريقيا؛ كما قام بتحقيق بعض المخطوطات العربيَّة. وأشرف على وناقش العديد من أطروحات الماجستير والدكتوراه في جامعات محليَّة وإقليميَّة وعالميَّة، وفي موضوعات شتى ذات صلة بمجال تخصصه.
ومن أوائل الوظائف الإداريَّة-الأكاديميَّة التي تقلَّدها الأستاذ يُوسُف بجامعة الخرطوم، وظيفة مدير شعبة أبحاث السُّودان (1965-1972م)، خلفاً لمديرها المؤسس البرفيسور ج.ن. ساندرس (1964-1965م)، وعلى يديه تطور هيكل الشعبة الإداري والأكاديمي، وتبلورت معالم رسالتها العلميَّة، كما وثق لها في مقاله المنشور في مجلة الدراسات الإفريقيَّة الحديثة (The Journal of Modern African Studies) عام 1966م. وبناءً على السمعة الأكاديميَّة الحسنة والخبرة المتراكمة التي اكتسبتها شعبة أبحاث السُّودان في حقل الدراسات السُّودانيَّة، تمَّ ترفيعها مؤسسياً إلى معهد الدراسات الإفريقيَّة والآسيويَّة، الذي تقلَّد الأستاذ يُوسُف منصب مديره المؤسس (1972-1983م)، إلى جانب عمادته لكليَّة الآداب (1975-1979م) بجامعة الخرطوم. وبعدها عُين مديراً لجامعة أمدرمان الإسلاميَّة لمدة عام أكاديمي (1984-1985م)، ثم مديراً منتخباً لجامعة الخرطوم (1985-1990م)؛ وأخيراً ختم أعماله الإداريَّة الأكاديميَّة العليا مديراً مؤسساً لجامعة الشارقة بدولة الإمارات العربيَّة المتحدة (1997-1998م).
أفسحت هذه الخبرة الإداريَّة- الأكاديميَّة المتراكمة المجال للأستاذ يُوسُف أن يتشرَّف بعضويَّة العديد من المؤسسات، والجمعيات، والمجلات العلميَّة العالميَّة والإقليميَّة والمحليَّة، ونذكر منها على سبيل المثال عضويَّة اللجنة القوميَّة لليونسكو (دورتين)، وعضويَّة اتحاد الجامعات العربيَّة والإفريقيَّة والإسلاميَّة (1984-1990م)، ورئاسة مجلس إدارة الهيئة القوميَّة للمتاحف والآثار بجمهوريَّة السُّودان (2004- حتى الآن)، وعضويَّة مجلس دار الوثائق القوميَّة (1966-حتى الآن)، وعضويَّة المجلس القومي للبحوث العلميَّة (ثلاث دورات)، ورئاسة تحرير مجلة السُّودان في رسائل ومدونات (1967-2014م)، ورئاسة الجمعيَّة التاريخيَّة السُّودانيَّة (1995-2000م)، ورئاسة اتحاد الكتاب السُّودانيين (2005-2007م). ولا جدال أن هذه النماذج تعكس طرفاً من الخدمات الجليلة التي قدمها الأستاذ يُوسُف لنهضة العمران البشري، والعمل على تطوير مؤسساته الفاعلة في تجويد العطاء العلمي، وحفظ الموروث الحضاري، وتحقيق الرقي الثقافي.
يوسف فضل مؤرخاً ومحققاً
استطاع الأستاذ يُوسُف عبر مسيرته التعليميَّة الطويلة ومؤلفاته التاريخيَّة العديدة أن يقدم صورة جديدة للدراسات السُّودانيَّة والإفريقيَّة والإسلاميَّة، وذلك بفضل نظرته المتكاملة للمعرفة التاريخيَّة التي تستند إلى مصادر الماضي وآثاره التي يُعاد تركيبها وفق منهج بحثي يقوم على الاستقراء، والتحقيق، والنقد، والتحليل الذي يتناول المؤثرات الداخليَّة والخارجيَّة التي أحاطت بالمشكلات البحثيَّة التي تناولها، وأسهمت في تشكيلها. وظل الأستاذ يُوسُف في كل أبحاثه العلميَّة مدركاً أنَّ حجم المصادر، ودقة الاستقراء، ومخرجات التحقيق، ومهنيَّة النقد، وجرأة التحليل لاتفي وحدها لإعادة تركيب الماضي؛ لأن عمليَّة التحليل والإعادة تحتاج إلى منهجٍ قادرٍ على استيعاب ديناميات الحياة السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة، الناظمة لمفردات الحدث التاريخي. وعند هذا المنعطف يتجلى تأثر عميد المؤرخين السُّودانيين بمنهج العلامة ابن خلدون (ت.1406م) القائم على نقد المصادر التاريخيَّة وتقويمها والإفادة منها؛ وبمدرسة الحوليات الفرنسيَّة التي ابتعدت عن التاريخ السياسي في شكله النمطي، ومالت إلى التاريخ الإشكالي بأنساقه المتعددة، والمنهج التكاملي القائم على الاستئناس بمناهج العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة في تحليل الأحداث التاريخيَّة. ويلحظ القارئ المتمعن في أدبيات الأستاذ يُوسُف هذه النظرة التكامليَّة، التي أشار إليها إجمالاً في مقاله الموسوم ب "ملامح من الاتجاهات العامة للنهج التاريخي للدراسات العليا في الجامعات العربيَّة"، ومقاله الآخر المنشور في مجلة الدراسات الإفريقيَّة الحديثة الذي أسلفنا الإشارة إليه.
أنجز الأستاذ يُوسُف فضل حسن خلال مسيرته الأكاديميَّة كماً مقدراً من الأبحاث العلميَّة الرصينة التي نشرها في شكل كتب ومقالات علميَّة في مجال الدراسات السُّودانيَّة والإفريقيَّة والإسلاميَّة ومؤسسات التعليم العالي، والتي لا يمكن حصر مفرداتها في حيز هذه الشهادة العلميَّة، بل نتلمس الإيجاز في شرح بعض جوانبها المرجعيَّة التي تشكل لبنة أساسيَّة في صرح المدرسة التاريخيَّة السُّودانيَّة. فيما يلي:
أولاً:يُعدُّ تحقيق الأستاذ يُوسُف فضل لكتاب "الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والشعراء في السُّودان" عملاً مرجعياً رائداً؛ استوفى فيه كل المعايير العلميَّة المتعارف عليها في تحقيق المخطوطات العربيَّة؛ وحافظ على سلامة المتن دون أن يُنصِّب نفسه حكماً على معتقدات الناس؛ ومهَّد لذلك بمقدمة نفيسة، سرد فيها بإيجاز خلفيَّة الظروف التاريخيَّة، والمناخ الثقافي الذي صُنِف فيه كتاب الطبقات، وترجم للمؤلف وأسرته، وعرَّف القارئ بالمنهج الذي اتبعه في التحقيق، وشرح في الحواشي الألفاظ الصعبة، وترجم للأعلام والأماكن، مع توفير المعلومات التاريخيَّة والجغرافيَّة والاجتماعيَّة اللازمة لفهم النصّ، ثم ذيَّل ذلك بثبت للمصادر والمراجع، وفهارس للأعلام، والأماكن، والبلدان، والقبائل، والكتب التي ذُكرت في الطبقات، وبعض الكلمات والمصطلحات المشروحة في الحواشي؛وبذلك أضحى كتاب الطبقات عملاً مرجعياً ومنهجياً للعاملين في مجال تحقيق المخطوطات، ومصدراً تاريخياً للباحثين في مجال الدراسات السُّودانيَّة؛ لأنه، كما يرى المحقق، "مرآة صادقة لحياة السُّودانيين الدينيَّة، والروحيَّة، والثقافيَّة، والاجتماعيَّة، وسجل صادق لمعتقداتهم الدينيَّة في ذلك العصر أياً كان رأينا فيها. وقد سجل المؤلف ما تواتر من تلك الأخبار واشتهر دون أن يتعرض لها بالنقد والتعليق، بل وقف من كل ذلك موقف الراوي الأمين. ولا شك أن المؤلف في أخباره عن الشعوذة والخرافة التي كانت رائجة في زمانه، وفي حديثه عن الكرامات وخوارق العادات التي أسبغها الأتباع على مشائخهم حتى ظنوهم قادرين على إبراء المرضى، وإحياء الموتى، والإخبار عن الغيب، قد أرخ لكثير مما لا يرضاه العقل ولا يقبله الدين، لكنه ترك لنا معلومات ثرَّة عن معتقدات السُّودانيين، والتي تمثل الجذور التاريخيَّة لكثير مما هو سائد في سودان اليوم."
ثانياً: يُعدُّ كتابه "دراسات في تاريخ السُّودان وإفريقيا وبلاد العرب" بأجزائه الثلاثة مرجعاً تاريخياً رائداً في موضوعاته؛ لأنه يعالج بعض الفترات المهمة من تاريخ سودان وادي النيل، رابطاً إياها بالأثر العربي والأثر الإفريقي من حيث التكوين الثقافي والاجتماعي والسياسي للسودان، ومنطلقاً من فرضيَّة مفادها "أن السُّودان لم يكن مجرد جسر، عبرت عليه الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة إلى إفريقيا، ولا بوتقة انصهرت فيها الثقافتين، العربيَّة والإفريقيَّة، وإنما كانت للسودان شخصيته التاريخيَّة المتميزة منذ فجر التاريخ، ولعل المتابع لشخصيَّة السُّوداني يجد إنها استطاعت أن تسودن الثقافة العربيَّة والإسلاميَّة قبل أن تتقبلها، كما أبرزت كينونتها الخاصة في إطار الثقافة الإفريقيَّة التي تنتمي إليها. " وهنا يتجلى اهتمام الأستاذ يُوسُف بالتاريخ الإشكالي الذي يرتبط بقضيَّة الهُويَّة التي تُعرِّف اصطلاحاً بأنها وعاء الضمير الجمعي الذي يستند إلى ثلة من القيم، والعادات، والتقاليد، والمعتقدات التي تميز كلّ مجموعة بشريَّة عما سواها، وتُسهم في الوقت نفسه في تكيف وعيها الذاتي وتشكيل طبيعة وجودها المادي والمعنوي في الحيز الجغرافي الثابت الذي تشغله، والبُعد الزماني المتغير الذي تعيش فيه. ولا تعني أبحاث الأستاذ يُوسُف أن الهُويَّة قضيَّة ثاويَّة لا تتبدل، بل تؤكد أنها في حراك ديناميكي مع المؤثرات الخارجيَّة المحيطة بها، والمرتبطة بالجدل الفكري حول ماهيتها الوظيفيَّة، وكيفيَّة تفعيلها في إطار صراع السلطة. وتعكس أيضاً هذه الأجزاء الثلاثة منهج الأستاذ يُوسُف في اختيار الموضوعات، بحجة أنه يركز على القضايا الاجتماعيَّة والثقافيَّة، بعيداً عن أصنام التاريخ الثلاثة: التاريخ السياسي، والتاريخ الفردي (البطولي/البيوغرافي)، والتسلسل التاريخي (الوقائعي) القائم على الأصول (الوثائق) دون اصطحاب الظروف البيئيَّة المحيطة. وهنا يبرز تأثير مدرسة الحوليات الفرنسيَّة، واهتمام المؤرخ يُوسُف فضل بالقضايا الإشكاليَّة، كما يسميها المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف (ت. 2014م)، والشاهد في ذلك عناوين فصول الجزء الثالث من دراسات في تاريخ السُّودان وإفريقيا وبلاد العرب، ونذكر منها على سبيل المثال "التمازج العرقي والثقافي ودوره في بناء الدولة السُّودانيَّة"، و"السُّوداني: ملاحظات أوليَّة حول التنوع وتطور مفهوم الهُويَّة السُّودانيَّة"، و"أسماء أعلام سودان وادي النيل".
ثالثاً: أولى الأستاذ يُوسُف اهتماماً راشداً بتنوع المصادر التاريخيَّة، ولم يحصر نفسه في ثوابت المدرسة الوثائقيَّة، وبذلك استطاع أن يتجاوز إخفاقات تيار الوضعانيَّة الذي شجع استقلاليَّة العلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة عن بعضها، مع الالتزام بالمعرفة التاريخيَّة الموغلة في التخصص، والممعنة في التدقيق، والنظر في ضبط النصوص الوثائقيَّة واستخراج الحقائق المفردة منها، دون عنايَّة بالسياق التاريخي الذي يحمل معطيات اجتماعيَّة، واقتصاديَّة، وسياسيَّة، وديمغرافيَّة، ونفسيَّة. ولذلك يدعو الأستاذ يُوسُف إلى التنوع في الدراسات التاريخيَّة، لتمتد إلى الجوانب الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، مع الاستئناس بمناهج العلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة؛ مثل علم الآثار الذي يساعد في دراسة النقوش، و الخطوط، والنقود، وأدوات الزينة، والفنون المعماريَّة؛ وعلم الفولكلور الذي يساعد في دراسة الروايات الشفويَّة، والمأثورات الشعبيَّة بالنسبة للمجتمعات التي تغلب عليها الأميَّة؛ وينوه أيضاً إلى أهميَّة اللغات المحليَّة في دراسة تواريخ الشعوب. ويتجلى هذا التوجه في كثير من أبحاثه العلميَّة، ونذكر منها كتاب "الشلوخ: أصلها ووظيفتها في سودان وادي النيل الأوسط". ويقول في تصديره لهذا الكتاب: "هذه محاولة لدراسة تاريخ الشلوخ أو الفصدات التي تزين وجوه كثير من السُّودانيين حتى عهد قريب. وقد تعرضتُ في هذا البحث إلى تاريخ هذه العادة ومدلولاتها الاجتماعيَّة والجماليَّة. وقد بذلتُ جهدي في الاستعانة بالمصادر الخطيَّة، والروايات الشفويَّة، ما استطعت جمعه من مشاهداتي خلال عقد من الزمان أو يزيد."
هكذا كان ولا يزال الأستاذ يُوسُف فضل مؤرخاً شاملاً، يعتمد على استقراء المصادر التاريخيَّة المتنوعة في كتابة أبحاثه العلميَّة، ويحاكمها محاكمة منطقيَّة في إطار الظروف البيئيَّة التي تشكلت فيها، ولا يكتفي بقراءة نصوصها قراءة ظاهريَّة وباطنيَّة، بل يذهب وراء ذلك، مستأنساً بمناهج العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة المساعدة، ولذلك اتسمت أبحاثه بالدقة، والشمول، والعمق. ولا يميل عميد المؤرخين السُّودانيين إلى الأحكام القطعيَّة في قراءة الماضي أو المخطوطات؛ لأنه يدرك أن كتابة التاريخ ليست استنساخاً للماضي، كما كان عليه، بل محاولة لإعادة تركيب أحداث الماضي بصورة أقرب إلى الواقع الذي تشكلت فيه. ولذلك يقول في مقدمة كتاب الطبقات بشأن النص الذي حققه: "وقد عانيت الكثير من مقارنة هذه النسخ بعضها البعض [أي نسخ مخطوط الطبقات]، وفي فهم نصوصها، وشرح ما صعب من ألفاظها، وتحديد مواقع ما ورد فيها من بلدان حتى أضع بين يدي القارئ نسخة أدق وأقرب إلى نصّ الكتاب الأصل."
وبناءً على ذلك نجمع القول بأن القيمة المعرفيَّة التي أرساها الأستاذ الدكتور يُوسُف فضل حسن في مجال علم التاريخ والدراسات السُّودانيَّة والإفريقيَّة والعربيَّة ستظل قيمة إضافيَّة أصيلة ومتميزة، يحفظها التاريخ، ويسجِّلها على صفحات جائزة العز بن عبد السَّلام للثقافة والعلوم والآداب العربيَّة والإسلاميَّة والإفريقيَّة، التي استحقها بجدارة؛ لتُوضع إلى جانب الجوائز العلميَّة والتقديريَّة الأخرى التي حصل عليها، ونذكر منها: الميداليَّة الذهبيَّة للعلم، جمهوريَّة السُّودان (1971م)؛ وجائزة الدولة التقديريَّة للآداب والعلوم والفنون، جمهوريَّة السُّودان (1977م)؛ ووسام النخيل للعلوم، جمهوريَّة فرنسا (1978م)؛ والدكتوراه الفخريَّة في الآداب، جامعة بيرقن-النرويج (1990م)؛ والدكتوراه الفخريَّة في الآداب، جامعة مايدوقري- نيجيريا (1992م). كل هذه الشهادات و الجوائز التقديريَّة تدل على تميز عطاء عميد المؤرخين، وتمنحنا الفرصة لنزف إليه التهنئة الصادقة بمناسبة هذا التكريم والتقدير، فتقديره شرف لزملائه في المهنة، ولتلاميذه المنتشرين في أصقاع المعمورة.
نقلاً عن صحيفة السودان، 29 ديسمبر 2014م.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.