أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    المريخ يكسب تجربة السكة حديد بثنائية    شاهد بالفيديو.. "جيش واحد شعب واحد" تظاهرة ليلية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور    لأهلي في الجزيرة    مدير عام قوات الدفاع المدني : قواتنا تقوم بعمليات تطهير لنواقل الامراض ونقل الجثث بأم درمان    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    تامر حسني يمازح باسم سمرة فى أول يوم من تصوير فيلم "ري ستارت"    وزير الخارجية : لا نمانع عودة مباحثات جدة وملتزمون بذلك    شاهد بالصورة والفيديو.. المودل آية أفرو تكشف ساقيها بشكل كامل وتستعرض جمالها ونظافة جسمها خلال جلسة "باديكير"    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    قرار بانهاء تكليف مفوض العون الانساني    عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام الفريق إبراهيم جابر يطلع على الخطة التاشيرية للموسم الزراعي بولاية القضارف    شركة "أوبر" تعلق على حادثة الاعتداء في مصر    معظمهم نساء وأطفال 35 ألف قتيل : منظمة الصحة العالمية تحسم عدد القتلى في غزة    عقار يؤكد سعي الحكومة وحرصها على إيصال المساعدات الإنسانية    بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    ((نعم للدوري الممتاز)    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    عالم «حافة الهاوية»    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مأساة كوري: ما بين مروان الرشيد والخاتم عدلان .. بقلم: د. قرشي محمد كنون
نشر في سودانيل يوم 01 - 01 - 2015

ذات مساء، وفي زمهرير شتاء لندن، بعث د. مروان حامد الرشيد (الأديب والروائي السوداني، صاحب رواية مندكورو، وأستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة الخرطوم سابقاً) برسالة إلكترونية مكتوبة باللغة الإنجليزية لصديقه الأستاذ الخاتم عدلان (الكادر السياسي المعروف والمتخصص في علوم الفلسفة بجامعة الخرطوم) يطلب منه الإفادة بمرئياته حول المعاني الفلسفية المستبطنة في قصيدة بعنوان "ريتشارد كوري" "Richard Cory" ، كتبها الشاعر الأمريكي أرلنغتون روبنسون "Edwin Arlington Robinson" . ردّ عليه الخاتم عدلان، له الرحمة، بذات اللغة بعبارة جزلة لافتة للنظر، إستلّ فيها المكنونات الفلسفية إستلالاً مما تومئ به القصيدة من غرائب وأسرار، مبيناً أنّ الإرث الحقيقي للقصيدة هو الأسئلة لا الأجوبة ومدركاً أنّ النص إمكان لا ينضب معينه وسيظل في حالة سيرورة لا تستنفد قراءاته وتفاسيره. وقد قام الأستاذ مصطفى آدم بترجمة النص الشعري والرسائل المتبادلة بين الصديقين وستجدون ذلك جميعاً في الموقع الإلكتروني للجمعية السودانية للدراسات والبحوث في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية.
وفور الفراغ من الإطلاع على أبيات القصيدة، ازدحمت في خاطري أشياء كثيرة، ووجدت نفسي مرهقاً وتملكني شعوراً غريباً بالقلق أحياناً وبالمتعة أحياناً أخرى، وبدأت أبحث عن الحقيقة يحفزني في ذلك "قلق السؤال وشوق المعرفة" وسبر غور المجهول. وفي البحث عن الحقيقة جمالٌ ومتعة حين نفكر وحين نتأمّل. وفي رواية حياة كوري تكمن جدلية الحقيقة واللاحقيقة، فقد عرف الناس في مدينة تلبري "Tilbury Town" السيد ريتشارد كوري، من على البعد، بسيرته الظاهرة وشخصه الآسر وسمته المهاب وقامته الشامخة، وغابت عنهم سيرته الباطنة، المليئة بالملل والقرف ونوبات "الغثيان" وتوارت عنهم أزماته النفسية والروحية فلم يعد يعرف معها سبيل الخلاص، كليو تولستوي "Leo Tolstoy" الذي جاء في إعترافاته "لا أدري إلى أين أمضي؟ فالرجوع إلى الخلف مستحيل وأمامي حجب أسرار العدم" . ووقعت الواقعة، وتجلت حقيقة الرجل عندما كتب بيديه مشهد النهاية بطريقة يشيب لها الولدان وتقشعر لها الأبدان. ولم أتصوّر فداحة الفاجعة، مثلما لم يتصوّر أهل مدينة تلبري ذلك.
وفيما يخص د. مروان وتأثيرها عليه، فقد أثارت القصيدة إهتمامه وأسرت فؤاده لأكثر من ثلاثين عاماً، كما يقول، بما فيها من تورية وسخرية ماكرة. أما صاحب هذه السطور فقد فرضت نفسها عليه واستحوذته من بعد مروان وما سواه، وغمرته بفيضٍ مباغت من الأفكار المبهمة أول مرة، وفتنته بحجبها وتعميتها وإمكان كشفها. ورأى الخاتم في مثل هذا الشعر مصدر شقاء وجحيم لا يطاق، وأعلن براءته من البائس ريتشارد بسبب إختياره الرحيل وإسدال الستار بمحض إرادته. والخاتم متفائل في حياته، يؤمن بأنَّ الينبوع يتفجر بثروة مهولة من المعاني وهو ينظر للطيف المرئي نظرة كلية، فيرى فيه شيئاً جميلاً ، لذا قرر أن يحتفظ بمسافة أمان من السيد ريتشارد اليائس من روح الله والقانط من رحمته. وما سوداوية ريتشارد إلا من تلك الروح التشاؤمية للمعري الذي لا يرى في الدنيا غير الدفر والغدر "فيا موت زر إنَّ الحياة ذميمة" .
وكاتب هذه السطور لا يُعدُّ من نقاد الشعر، وهو في محاولته النقدية هذه، يحرث في حقل معرفي لم يجربه من قبل ولم يحط به خبراً، ولكن بحكم تخصصه في القانون، يدرك العلاقة الوثيقة بين الشعر والقانون بحسب أنهما نوعان من الأدب "subgenre of literature" وبحسب أنهما يعتمدان على السليقة ولا يجنحان صوب التكنيك والتكلف والصناعة . ولما كان الأدب مرآة للحياة ولما كانت بنية النص فيه تقوم على مادة اللغة فإنه يعتبر، أي الأدب، أداة لا محيص عن الإستهداء بها في تفسير النصوص القانونية. هذا ما عبر عنه السيد ولتر سكوت "Sir Walter Scott" حين قال "يصبح رجل القانون آلة صماء إذا لم يعتني بالتاريخ والأدب" .
ولا مراء أنّ تفسير النص والكشف عن المحجوب فيه والمسكوت عنه ليس بالبداهة التي نحسب، إنما يتم ذلك وفقاً لأساليب المنهج العلمي، وقد كلفني ذلك بأساً ورهقاً من أمري، بغية إدراك حقيقة السيد ريتشارد كوري الأمريكي والذي اختار لنفسه تلك النهاية الكالحة الإسطورية في تلك الليلة الهادئة من صيف عام 1897، ووجدتني أبحث عن دور في النقد التحليلي وحفّزني إلى ذلك أنّ الأدب النقدي الحداثي يهتم بالقارئ في العملية النقدية الإبداعية ولا يسقط دوره كمشارك في تلك العملية. وفي هذه العجالة عمدت إلى تقديم قراءة نقدية لا تميل للتماثل مع النص أو إلى إعادة كتابته، إنّما تضيف إليه قيمة منتجة جديدة، معرفية وجمالية، من خلال قراءته والإشتغال عليه وفقاً لمناهج القراءة والتأويل ومن خلال تحليل نقدي يستقصي ويستكشف ويستنبط الجوهري وينفذ إلى المعاني العميقة ولا يركن للسطحي واللحظي والطارئ. ولا يتم الوصول لما تدور حوله القصيدة إلا بقراءة سياقها التاريخي واستنطاقها من خلال الإتجاهات الشعرية والمناهج النظرية الحديثة المبنية على الممارسات الخطابية الواقعية والتاريخية والسايكولوجية والفلسفية.
وفي البداية ، يجدر بنا أن نقدم النص الشعري للقصيدة قبل الدخول في العرض والتحليل النقدي والمقاطع التالية ترجمة للنص باللغة العربية ، ويجدر بنا أن نقول أنّ وقع النص باللغة الإنجليزية أضعاف وقعه في الترجمة العربية:
"ريتشارد كوري" النص الكامل
المقطع الأول: First Stanza
كلما قدم ريتشارد كوري إلى وسط المدينة
وقفنا نحن عامة الناس على الرصيف نتأمل منظره
كان سيداً ماجداً من أخمص قدمه إلى إكليل رأسه
وكان نظيفاً في مظهره ورشيقاً كما الأباطرة
المقطع الثاني: Second Stanza
وكان دائماً حسن الهيئة والهندام
وكان دائماً رؤوفاً عندما يتكلم
ولكنه يهفهف بإيقاعٍ خافق عندما يقول "اسعدتم صباحاً"
وكان يتلألأ و‘يمشى في الأرض مرحاً'
المقطع الثالث: Third Stanza
وأوتى من الكنوز ما يجعله أغنى من ملك
ويا للعجب أوتى علماً وفضلاً وكل شئٍ لم‘يُحَط به خُبراً'
وبإيجاز كنا نعتقد ‘إنه لذو حظٍ عظيم'
و‘يا ليت لنا مثل ما أوتي' ويا ليت أن نكون مكانه
المقطع الرابع: Fourth Stanza
وواصلنا العمل وانتظرنا الضياء
وتركنا اللحم ولعنّا الخبز
وذاتِ ليلة صيفٍ هادئة
عاد ريتشارد إلى منزله وأطلق رصاصة على رأسه
تلك إذن، يا سادتي، قصيدة "ريتشارد كوري" المخاتلة، ذات السخرية اللاذعة. وتتألف من أربعة مقاطع متساوية في طولها. يصور الشاعر في المقاطع الثلاث الأولى شخصية ريتشارد كوري الكارزمية ووضعه الإجتماعي بما فيها من نبل ورشاقة وجمال ورأفة ومهابة لا مراء فيها، ويصور أهل مدينة تلبري (عامة الناس الواقفين على الرصيف) وهم متفقون على أنَ الرجل ملِكٌ كريم أوتى كل شئ في هذه الدنيا، أوتى الأدب والمال وكل فضيلة، وهم يتمنون من بعد ما أصابهم الحسد أن يكونوا مثله. وفي المقطع الرابع نجد مفتاح القصيدة وشارة وجودية لأخطر عمل ميلودرامي قام به ريتشارد أدى لترجله وخلع تاجه الإمبراطوري "وواصلنا العمل وانتظرنا الضياء.. وتركنا اللحم ولعنًا الخبز.. وذاتِ ليلة صيفٍ هادئة.. عاد ريتشارد إلى منزله وأطلق رصاصة على رأسه". وهو عمل لم يكن في الحسبان، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس في دهشة من أمره، وأصابهم الوجوم من فعلته التي فعل ليكون من الجاحدين.
ونعود لوصف د. مروان للقصيدة بالسخرية والتورية والتهكم الفوقي "supreme irony". ومرد السخرية أنّ روبنسون فاجأنا بانتحار هذا البائس التعيس وأراد أن يطبع على قلوبنا ويختم على سمعنا وعلى أبصارنا غشاوة للحيلولة دون معرفة الحقيقة. وربما تكمن السخرية في الوصف التاجي الإمبراطوري لريتشارد في المقطع الأول " كان سيداً ماجداً من أخمص قدمه إلى إكليل رأسه" وتجريده من تاجه في البيت الأخير من المقطع الرابع " عاد ريتشارد إلى منزله وأطلق رصاصة على رأسه".
البناء الفني
والقصيدة من حيث البناء الفني والشكل يغلب عليها الوضوح في اللغة وعدم التعقيد في البناء، ونجد أنها لم تلتزم فقط بالوحدة الموضوعية وإنما تلاحمت مكوناتها واتحدت عناصرها في تسلسل منطقي حتى أفضت بنا شيئاً فشيئاً إلى نتيجة نهائية، كللت في البيت الأخير بنهاية مأساوية حملت رؤية الشاعر. وفي بناء القصيدة، لم يستخدم الشاعر أساليب تشكيل الصورة الشعرية أو النزوع إلى الإفتتان بالبلاغة والمحسنات البديعية مثل الإستعارة والمجاز والتشبيه وغيرها ، بل إنّ الإسلوب الشعري كان مباشراً في وصف الواقع الأمريكي بما فيه من فقر وبؤس ومسغبة (وواصلنا العمل وانتظرنا الضياء .. وتركنا اللحم ولعنًا الخبز). وتكمن براعة الفن في أنَّ روبنسون أبعد نفسه تماماً ليقوم ممثل أهل مدينة تلبري بدور الراوي وتصوير حياة أهل المدينة الكئيبة وحياة ريتشارد كوري الهالكة، وتكمن البراعة أيضاً في أنّه جعل لنا النصَّ سرمداً إلى يوم إنتهاء تاريخ القصيدة، لا يستنفد قراءاته مهما تطاول علينا الأمد ولا يفقد عنصر المفاجأة مهما تنوعت تأويلاته ، ويستمد قدرته على الصمود من فرط حجبه ومخاتلته.
الواقعية الجديدة
بالنظر للإتجاهات الشعرية، جسدت القصيدة المدرسة الواقعية الأمريكية "American realism" وابتعد بها صاحبها تماماً عن المدرسة المثالية والرومانطيقية "Idealism and Romanticism" والشاهد أنه عندما كتبت هذه القصيدة كانت أمريكا تعاني من ركود إقتصادي حاد . ولم يكن روبنسون حالماً رومنطيقياً بل كان واقعياً في تصوير ونقل ما يراه من حالات الإحباط والغبن بسبب الفوارق الطبقية في المجتمع الأمريكي في العقد الأخير من القرن التاسع عشر ، والمتمثلة في الطبقة الأرستقراطية التي تملك كل شئ والطبقة العاملة التي لا تملك شئ. هذا هو المرجع التاريخي والدلالة الإجتماعية للنص.
سعى روبنسون لكشف هذا الواقع وربما أراد أن يقول للشعب الأمريكي وهم يتهيؤون لاستقبال القرن العشرين "أي مستقبل يرجى تحقيقه من هذا النظام الرأسمالي الذي تتمنون؟". لكننا لا نستطيع قراءة القصيدة على نسق المادية التاريخية- الإقتصاد هو الذي يحدد ويتحكم في مجرى التاريخ- وذلك لعدم وجود نص يوحي إلى إستهداف الجماهير وتغيير وعيها وإحداث نظام جديد، ولعدم وجود نص يشير إلى وسائل التغيير والدفع نحو الثورة. ولكن على افتراض وجود بنية نصية محتجبة لذلك، هل العنف الثوري هو الوسيلة الوحيدة لتغيير المجتمع؟ ثمة تغيير يمكن أن يتم عبر الخطاب السياسي. وهل بالضرورة أن يكون التاريخ صورة للصراع الطبقي؟ وهل من الممكن إدراك الصراع الطبقي بمعزل عن الحافز والدافع للأفراد الذين هم سداة ولحم هذه الطبقات؟ ربما لا يكون الصراع والتغيير ناتجاً من عوامل ودوافع إقتصادية (تبدل وسائل الإنتاج) بل من أجل الكرامة والعرفان والهيبة . ألم يكن ريتشارد يطلب المجد والعرفان بظهوره الملكي المهيب؟ ولكن لماذا لم يكن له هدف وغاية ليحققها؟ وأتساءل كما تساءل الخاتم عدلان لماذا يريد روبنسون أن يصيبنا بالإرتباك والإضطراب؟ ولا ينتهي الجدل عند حد إرادة المخاطرة والتضحية من أجل الكرامة والعرفان والهيبة، فمن أجل الوصول لتفسير نهائي لسلوك الإنسان ‘ذلك المجهول' ، تجاهل ستيفن هوكنج "Stephen Hawking" النظام الغائي وزعم أنّ سلوك الإنسان، بما فيه من إنشاد للكرامة والعرفان، تحدده قوانين الطبيعة . ولا ينبغي للديالكتيكية المادية أن تقف عند هذا الحد، فالتساؤل الجدلي والمشروع يثور حول علة هذه القوانين وتبقى إرادة الله (العلة النهائية) هى المدبرة والمسيرة لهذه القوانين.
إنَ الإرث الحقيقي لريتشارد، كما قال الخاتم، هو الأسئلة لا الأجوبة. وكأني به يقول إنَّ حقيقة القصيدة ترتبط بالسؤال أكثر مما ترتبط بالجواب، فهي لا تدرك بوصفها يقيناً ثابتاً، وكل محاولة لإدراكها وإفراغها في نسق مغلق يؤدي إلى تغييبها كما هو الحال في نظرية هايسنبريج "عدم اليقين": الموضع والسرعة لجسيم معين لا يمكن تحقيقهما في لحظة معينة على وجه اليقين، فكلما حاولنا إدراك موقع الجسيم بدقة كلما قلّ إدراك سرعته . ثمة تناقضات تبدو جلية في عالم النص، إذا أخذنا بالمادية التاريخية وقلنا أنّ التاريخ ما هو إلا صورة أو سجل للصراع الطبقي، ولنقل، بدلالة رحيل ريتشارد، أنّ التغيير الثوري أطاح بالبرجوازية الصغيرة لصالح طبقة البروليتاريا ، فلماذا إذن ترك أهل المدينة اللحم والخبز وهم الطبقة المنتصرة؟ لماذا لم يتحرك التاريخ نحو الأحسن؟ هل توقفت حركة التاريخ عند هذا الحد أم أنّ عملية الإصطفاء ما تزال مستمرة إزاء هذه التناقضات الداخلية.
وفي سبيل الإحتفال بقضايا التحول النهضوي الإشتراكي ، يفترض الخاتم عدلان أنَ السيد ريتشارد يملك رؤية للعالم وحلم كبير يود تحقيقه. ويورد الخاتم إحتمالين ، إمَّا أنه إكتشف عدم مقدرته على تحقيق المشروع الحلم أو تحقق له عدم جدوى المشروع للسعي من ورائه. وفي الإحتمال الأول كان ينبغي أن يقلص من مشروعه ليكون في حدود الممكن وفي الثاني كان يمكنه أن يغفو مرة أخرى ليجد حلماً آخر قابلاً للتطبيق. . وهنا نجد الخاتم ينظر لحقيقة ريتشارد ويتعامل معها بإعتبارها واقعاً يُعاش أو مشروعاً يُنجز، ولا ينظر لها من منظور إديولوجي متعالي يفرض إجابات حاسمة ونهائية.
هذا هو التفسير بحسب الواقع الحقيقي والمعاش ولكنَّ النص لا يسلم من شحنه بالتناقضات إذا حاولنا تأويله من خلال نسق أيديولوجي ثابت كالماركسية، إذ من ذا الذي يقول أنّ الأنساق، كغيرها من أشكال الوعي وكبنية فوقية، تحددها البنى التحتية الإقتصادية (علاقات الإنتاج) إذا تجاوز نص القصيدة التاريخ وأصبح بهذه الجمالية نسقاً حياً، ومستقلاً بذاته إستقلالاً نسبياً!! ومن ذا الذي يقول بذلك إذ ا فاجأنا روبنسون برحيل ريتشارد الممثل للطبقة الأرستقراطية وأهل المدينة ينتظرون الضياء!! ومهما يكن من أمر، أجد نفسي غير ميّال لمحاكمة النص واختزاله في إطار النموذج الأحادي المتعالي والمتمحور أيديولوجياً الذي يتعامل مع النص بوصفه خطاباً محكماً ومعرفة جاهزة ونهائية وأريد في هذه العجالة إرتياد عوالم منهجية جديدة وحيوية في التأويل المعرفي للنص.
الصراع بين الفرد والمجتمع
حاول نجيب محفوظ في رواية "اللص والكلاب" أن يعبر عن الصراع بين الفرد والمجتمع وهى معركة غير متكافئة فيها الفرد منهزم لا محالة ، ورجحت كفة المجتمع بفشل سعيد مهران من تحقيق ذاته بالإنتقام من رموز المجتمع إذ "من ذا الذي يستطيع أن يقول- ولو على نحو من التنبؤء الخاسر- انَ الفرد هو الذي سينتصر في النهاية". وقد أبان الناقد الأدبي، الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا، أنًه كلما كان الصراع بين الفرد والمجتمع حاداً كلما زاد الإحساس بالتناقض مما يؤدي إلى الرفض والتمرد وربما يدفع ذلك إلى الجنون أوالإنتحار .
وقصيدة ريتشارد كوري هى أيضاً تجسيد للصراع بين الذات والمجتمع. ونجد صورة لهذا الصراع ، وياله من صراع ، في أوجه المقارنة التي عقدها الراوي بين ريتشارد وأهل المدينة في المقاطع الثلاث الأولى وفيها بدت لنا الملامح الشخصية للسيد ريتشارد بما فيها من نبل ورأفة ومهابة ووضعه الإجتماعي المميز بما فيه من ثراء وفضيلة ، ويصور الراوي أهل مدينة تلبري وهم يتماهون في صورة السيد ريتشارد ويتمنون أن يكونوا مثله. وفي المقطع الرابع، ينفرط عقد المشاهد الشعرية والتسلسل المنطقي للقصيدة وريتشارد كوري تحمله ذاته الفردية إلى مسرح العبث واللامعقول، إلى الرحيل الدامي في تلك الليلة الكئيبة.
من وجهة نظر علم النفس التحليلي، أشار المحلل النفساني الفرنسي جاك لاكان "Jacques Lacan" إلى أنّ الذات الفردية، في الأصل، بناء إجتماعي، فهى لا تملك وجوداً فردياً وجوهرياً إنما ينبثق وجودها من النسق الإجتماعي الكلي (الإطار المرجعي) أي أنّ الهوية (الذات) تتشكل من خلال ما يتم عكسه من مرآة المجتمع والمرآة ما هى إلا قناع وصورة للذات وليست الذات . وعموماً يمكن القول أنّ الإنسان الفرد كائن إجتماعي وأنه لا يملك هوية مميزة داخل الإطار الإجتماعي. ومن وجهة نظر القصيدة ، لا يرى الراوي ، الممثل لأهل المدينة ، في شخصية ريتشارد ذاتها المركزية وإنما يراها من خلال المعطى الإجتماعي (رؤية أهل المدينة) ويتماهى معها حتى المقطع الثالث، وتبدو لنا فيها الكفة قد رجحت لصالح ريتشارد. ولأنّ ريتشارد لا يؤمن كما آمن أهل مدينة تلبري وأراد أن يحقق ذاته الفردية فهو لا بد منهزم ، وبالفعل في المقطع الرابع رجحت كفة أهل المدينة عندما أسدل الستار بخلع تاجه الإمبراطوري بينما واصل أهل المدينة حياتهم وأدركوا أنّ الثروة ليست مصدراً للسعادة وآمنوا بقول المسيح عليه السلام "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" وانتظروا الضياء.
عاش ريتشارد وحيداً ومات وحيداً، ولم يكن لفرديته ووجوده معنى إلا في الإطار الإجتماعي المشترك. مات ريتشارد ولكن الإطار الإجتماعي الذي جعل وجوده ممكناً أصبح باقياً يستخدم كخلفية تأويلية لقياس وجوده. هذه قراءة تأويلية أساسها الصراع بين الفرد والمجتمع، لكنني لا أكتفي بالنزوع إلى تقديم مثل هذه الحلول الجاهزة لما تدور حوله القصيدة من وجهة نظر التفسير الهيرمنيوطيقي "Hermeneutical interpretation".
التحليل النفسي لحالة ريتشارد: إضطراب الشخصية النرجسية ؟
يتساءل الخاتم "لماذا كان السيد كوري مهتماً بالظهور بهذا المظهر الملكي المهيب؟ ولماذا أراد أن يكون مثلاً يحتذى ويبجَّل؟" وتقودني تساؤلاته إلى الوقوف على الحالة النفسية للسيد ريتشارد وتحليلها وفقاً للنظرية اللاكانية. ونجد في القصيدة إشارات تومئ إلى فشل ريتشارد في إقامة جسر من المودة بينه وبين أهل المدينة "وقفنا نحن عامة الناس على الرصيف نتأمل منظره" ، " كان سيداً ماجداً من أخمص قدمه إلى إكليل رأسه". ونجد إشارات تومئ إلى شبقه وإفتنانه بنفسه: "وكان يتلألأ ويمشي في الأرض مرحاً" وكان " رشيقاً كما الأباطرة" و"يهفهف بإيقاعٍ خافق". كما نجد إشارات إلى إهتمامه بمظهره وأناقته والتدقيق في إختيار ملابسه " وكان نظيفاً في مظهره" و " وكان دائماً حسن الهيئة والهندام". وتعتبر هذه الإشارات دلالات للتعرف على تركيبة ريتشارد النرجسية وخواصها .
بحسب نظرية "النظرة المحدقة" لجاك لاكان "Lacanian Theory of the Gaze" فإنَ المرء محكوم عليه بالتأرجح في مواضعه بين كونه ناظراً ومنظوراً إليه. ففي المرحلة الأولى نجد الراوي وأهل المدينة ينظرون إلى ريتشارد ويتأملون منظره من أخمص قدمه إلى إكليل رأسه وهو قادم إلى وسط المدينة. وريتشارد نفسه، كما قال الخاتم، يدرك إعجاب أهل المدينة به، فيزيد ذلك من حبه لنفسه وإفتتانه بصورته المرآوية والتي تشكلت بانعكاس نظرة أهل المدينة، الواقفين على الرصيف، على ذاته، وهو في نفس الوقت يمقت هذه الصورة وإن كانت تشبهه لأنها ليست ذاته. وفي المرحلة الثانية هو الآخر ينظر لإعجابهم به فيزيد من عرضه التخيلي لذاته فيتلألأ عندما يمشي في الطريق ويهفهف بإيقاع خافق عندما يلقي التحية على أهل المدينة الواقفين على الرصيف، وبذلك تصبح ذاته بناءً متخيلاً ونتيجة لهذه التوحدات الخيالية التي تتعارض مع الواقع، يقع ريتشارد فريسة للعدوان النرجسي الإنتحاري "Narcissistic Suicidal Aggression".
ربما كان ريتشارد في الماضي طفلاً مدللاً في إسرته، وهو في وعيه الباطن يحس بأنه شخصاً عظيماً ومن نوع نادر الوجود، ويريد من أهل المدينة الإعتراف بمركزيته ومحوريته والقبول بهيبته وعظمته، والإقرار بتفوقه واصطفائه، وينتظر منهم إحتراماً من نوع خاص لشخصه الفريد. وهكذا يوحي لنا روبنسون بأنّ ريتشارد يعاني من إضطراب الشخصية النرجسية "Narcissistic Personality Disorder" بما يحمله من صفات متخيلة وخواص نرجسية عدوانية. وفي صراعه مع رغبات واحتياجات الأنا يفشل ريتشارد في تحقيق طموحاته ويعيش في تناقضات حادة ويتربص به الإحساس بعدم الثقة والخزي والندم ومن ثمَ النكوص والنزوع في النهاية إلى قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
ثمة قراءة جديدة جاء بها الدكتور شالز سويت "Charles Sweet"، يكشف لنا فيها عن ريتشارد آخر مغاير لما عرفناه به، إذ يقول لنا أنّ ريتشارد جاء إلى المدينة وهو يحمل دلالات الخلاص وبعث الحياة من جديد مثلما كان بروميثيوس- أحد الجبابرة في الميثولوجيا الأغريقية- يحمل شعلة النور والمعرفة لأهل أثينا ، وأنّ أهل المدينة جعلوا بينهم وبينه ردماً، وأنّ نهاية ريتشارد لم تكن نتيجة لخوائه الروحي ونظرته السوداوية، إنما كانت فداءً وتضحية في سبيل استمرارية الحياة وحماية أهل المدينة ويقول لنا سويت أنّ أهل المدينة هم من قتلوا الملك وبدرجة من الوعي أطفأوا النور . ولكن إذا كان أهل المدينة هم قتلة الملك ريتشارد، لماذا أصبحوا في دهشة ووجوم ؟ ولماذا إندهش القارئ ؟ هذا تأويل ظني بعيد وإسقاط يخالف ظاهر النص مؤداه أنَّ ريتشارد بروميثيوسي النزعة وأنَّ أمره كان تضحية لا تهلكة . ولكن من منا يقول أنه على معرفة يقينية بحقيقة ريتشارد !! وهكذا يبقى الخلاف والتعدد على مستوى التأويل هو السمة الغالبة لهذه القصيدة.
ومهما يكن من أمر، أجد نفسي غير ميّال إلى إسقاط مثل هذه الحلول الجاهزة والتفاسير الهيرمنيوطيقية. وتعالوا معي نبحث في العقل الفلسفي، و د. مروان يحثّ الفيلسوف الكائن في عقل صديقه الخاتم. تعالوا معي نتجول في ساحات الكائن والحياة والموت وقراءة النص أنطولوجياً، بغية إدراك حقيقة ريتشارد كوري وأي نوعٍ من الناس كان هو.
اللامنتمي في "ريتشارد كوري": قراءة انطولوجية
لنقل أنّ ما سلف ذكره إسقاط خارج حدود النص وأنّ ريتشارد لا يعاني من إضطراب الشخصية النرجسية أو أية اضطرابات عصبية "Neurological disorders" ولكنني أكاد أمزق أوصال الحقيقة إن قلت أنَ ريتشارد معافى وجودياً. الرجل يعاني من قلق وجودي عميق ، ولا ينقص من هذه الفرضية أنّ الفلسفة السائدة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر تؤمن بسلامة الطبيعة الإنسانية ولا تؤمن بالوجودية السارترية. السيد ريتشارد أصابته جرثومة العدوى السارترية ، عدوى الرحيل ، قبل إنتشارها في النصف الأول من القرن العشرين ومن ضمن أعراضها الملل والقلق والقرف والغثيان. ولعلي لا أتنكب جادة الصواب إذا قلت أنَ ريتشارد "لامنتمي" كغيره من اللامنتميين في عصر اللامعنى واللاحقيقة. ولكن ما هو الدليل على ما أقول ؟ ما هى صفات وتوجهات اللامنتمي ؟ وما هي مشاكله ؟ وهل تنطبق هذه الصفات والتوجهات والمشاكل على شخصية ريتشارد حتى نصنفه بأنه لامنتمي ؟ ولا نجد إجابة على الأسئلة المطروحة إلا بمقاربة شخصية ريتشارد مع أبطال الروايات الأدبية الموصومين بالإغتراب والقياس عليها.
أهمّ ملامح وسمات اللامنتمي هى الغربة والعزلة.السيد ريتشارد كان كالغريب بين أهله. ونجد في القصيدة إشارات للعزلة التي ضربها على نفسه "كلما قدم ريتشارد كوري إلى وسط المدينة.. وقفنا نحن عامة الناس على الرصيف نتأمل منظره" ، "وكان يتلألأ ويمشي في الأرض مرحاً". فمن الواضح أنَه قد بتر شرايين الحياة الفاعلة التي تصله بالناس وكما قال الخاتم "ربما لم يدر بخلده أن يتواصل مع الغير وربما كانت عزلته فوق الإحتمال" ولأنه إعتزل أهله فهو يحس بهول الغربة. ولأنه ليس حياً فيما يفعل ولا يعرف ما في دخيلة نفسه، فهو يحس بغربة الروح.
ومن صفات وتوجهات اللامنتمي العبثية ورفضه للنظام الغائي ونظرته للوجود من منظور مأساوي أقرب إلى العدمية واعتقاده بأن لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس. السيد ريتشارد لا يؤمن كما آمن الناس ولا يشعر بمباهج الحياة "وواصلنا العمل وانتظرنا الضياء.. وتركنا اللحم ولعنًا الخبز.. وذاتِ ليلة صيفٍ هادئة.. عاد ريتشارد إلى منزله وأطلق رصاصة على رأسه" . والسيد ريتشارد ذو الروح الخربة، يعاني الإحساس باللامعنى واللاجدوى وهو كالرجل الأجوف الذي يسكن الأرض اليباب والتي تنعق في أطلالها الغربان، وهو على حد عبارة إليوت "شكل بلا هيئة وظل بلا لون وطاقة مشلولة وإيماء بلا حراك" .
واللامنتمي لا يرى الوجود على حقيقته ويزعم أنه يرى أكثر وأعمق ، ولا أخاله يرى إلا العبث. وريتشارد كالبطل في رواية "الجحيم" "L' Enfer" للكاتب الفرنسي هنري باربوس "Henri Barbusse" "ورأيت نفسي على الرصيف ثانية ، لا أشعر بالطمأنية التي كنت أمني النفس بها ، إنما كنت أحس باضطراب مربك. كأنني لا أرى الأشياء على حقيقتها. كنت أرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم" وكبطل ويلز يدعي بأنه الوحيد الذي يرى وأنّ أهل المدينة عميان .
ويحدثنا كولن ويلسون عن وصف بطل باربوس لنفسه بأنه لا غاية له ليحققها ولا مشاعر له ليمنحها للآخرين ولا يملك شيئاً ولا يستحق شئياً ولا دين له ولا يدرك معنى الحقيقة، ويعود لمشاكله اليومية ويكسب المال . والسيد ريتشارد يدرك إعجاب الواقفين على الرصيف به غير أنَ هذا الإعجاب لامعنى بالنسبة له لأنه كبطل باربوس لا مشاعر له ليمنحها للآخرين، هو كبطل باربوس لا يعرف معنى الحقيقة ولا يؤمن كما آمن أهل المدينة ويكسب المال "وأوتي من الكنوز ما يجعله أغنى من ملك". وعلاقة ريتشارد بأهل المدينة كعلاقة لورنس "T.E. Lawrence" بالناس، لا يحفل بهم ولا يهتم لأمرهم، كما إعترف بذلك في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" وكعلاقة مصطفى سعيد بقومه لا يحس تجاههم بأي إحساس بالجميل ويتقبل مساعداتهم كأنها واجب يقومون به نحوه .
ومن صفات اللامنتمي اليأس والقنوط. في رواية "الغريب" "L' Etranger" للكاتب الروائي الفرنسي ألبير كامو "Albert Camus" ، وقف ميرسول "Meursault" ، بطل الرواية ، أمام المحكمة يطالب بإعدامه بالرغم من توسل ممثل الإدعاء والمحكمة له بطلب العفو. إنّ إصرار ميرسول على الإعدام وعدم إكتراثه يرجع لإحساسه باللامعنى واللاحقيقة. وهو لا يرى فرقاً بين إعدامه اليوم وموته غداً طالما كانت النتيجة واحدة في النهاية . وريتشارد حكم على نفسه بالإعدام مثلما حكم بطل كامو الوجودي على نفسه بالإعدام. وريتشارد يقبل على الحياة بأناقته ورشاقته وماله وبظهوره الملكي المهيب، فإحساسه باللاحقيقة واللاجدوى واللامعنى لا يعذبه بمثلما لا يعذب ميرسول فهو يقبل الحياة وضوء الشمس والطعام والشراب وأجساد الفتيات ويقبل اللاحقيقة ذاتها .
وتكاد هذه الصورة تتماهى مع صورة مصطفى سعيد "في قاعة المحكمة الكبرى في لندن، جلست أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني، كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره" ، "رأي المحلفون أمامهم رجلاً لا يريد أن يدافع عن نفسه... كنت أرجو أن تمنحني المحكمة ما عجزت أنا من تحقيقه" ، " مصطفى سعيد لا وجود له ، إنه وهم ، أكذوبة وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة" . ميرسول طالب المحكمة بأن تصدر عليه حكم الإعدام ومصطفى سعيد طالب المحكمة بأن تمنحه ما عجز هو من تحقيقه، والسيد ريتشارد حكم على نفسه بالإعدام لأنه كبطل باربوس لا غاية له ليحققها، لكنّ هذا المصطفى سعيد له غاية وهدف يسعى لتحقيقه، وهدفه تحرير بلده من الإستعمار بطريقته الخاصة .
ولعلّ تساؤلات الخاتم تشكل بؤرة محورية لتسليط المزيد من الضوء على اللامنتمي. لماذا لم يترك لنا السيد ريتشارد مذكرة قبل إنتحاره تشرح لنا معنى حياته وموته؟ نعم ، لم يترك لنا ريتشارد مذكرة تشرح الأسباب مثلما فعل الرسام الهولندي فان جوخ "Van Gogh" ، الذي ترك لأخيه ثيو بضع كلمات "التعاسة لن تنتهي أبداً من العالم" ، ومثلما فعل شاعر الثورة الروسية فلاديمير ماياكوفسكي "Vladimir Mayakovsky" ، الذي طلب من أسرته العفو وأردف يقول بكلمات يائسة "ليست هذه بطريقة ولا أنصح بها ولكن ليس لي مخرج آخر". السيد ريتشارد لم يفعل ذلك، ربما كان يعتقد بأنَ كتابة المذكرة، في حد ذاتها، لا معنى لها في محيط اللامعنى واللاجدوى الذي يعيشه.
إنّ منظر اللامنتمي لمُسئ ومحيطه كريه ومقيت يبعث الرعب، ومشكلته تكمن في فقدان الإرادة والحرية. فقد ريتشارد إرادته ولم يحسن التصرف في الحرية ولم يختار حياة فكرية تنبض بتحليل مشكلاته وإقتراح منافذ الخلاص لها. لم يستيقظ ريتشارد، كما إستيقظ بعض اللامنتمين عند كولون ولسون، على حقيقة أنهم لم يعودوا على الحالة التي كانوا يحسبون أنفسهم عليها ، ففي رواية "الجريمة والعقاب" للكاتب دوستويفسكي "Fyodor Dostoevsky" يفكر البطل راسكولنيكوف بأنه "إذا كان عليه أن يقف في ياردة مربعة فقط طول حياته ، أو ألف سنة ، أو حتى الأبد ، فإنَ ذلك كله أفضل من أن يموت الآن ، أن يعيش ، يعيش ، يعيش ، مهما كانت الحياة" . وهى ذات اليقظة الباسلة التي أدركها ميرسول في ليلة إعدامه "كنت سعيداً، وإنني ما زلت سعيداً" . وأظن أنَ الراوي في "موسم الهجرة إلى الشمال" تبدو عنده الأشياء مبهمة إن لم تكن عديمة الجدوى، لكنه يحاول أن يبرر وجوده "سأحيا لأنَ ثمة أناس قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن ، لأنً علىَ واجبات يجب أن أؤديها لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى... سأحيا بالقوة والمكر" .
وضرب لنا الروائي الكولومبي، رائد الواقعية السحرية، مثلاً بالخائب الذي ألقى بنفسه من شقة في الطابع العاشر وأثناء سقوطه راح يرى عبر النوافذ حياة الناس الخاصة وفي لحظات قبل أن يتهشم رأسه، إقتنع بأنّ الحياة التي هجرها إلى الأبد تستحق أن تعاش. وتلك يقظة وتوبة لم يدركها صاحبها إلا بعد أن سبق السيف العذل. ومرة أخرى، يضرب لنا جبريال خارسيا ماركيز مثلاً بالتشبث بالذكرى في آخر اللحظات التي يفارق فيها الكولونيل أورليانو بوينديا الدنيا. يتذكر بطل ماركيز وهو يواجه فريق الإعدام ذلك المساء البعيد الذي أخذه فيه والده للتعرف على الثلج لأول مرة . ريتشارد لم يتوب كما تاب الخائب ولم تخطر على باله ذكرى ليسترجعها كما فعل الكولونيل.
وفي سبيل الوصول لحلول لمشاكل اللامنتمي الوجودية المتمثلة في إحساسه باللامعنى واللاجدوى، توصل إليوت إلى الخلاص من رؤيته العبثية للحياة، ولو بصورة مؤقتة، من خلال الفن "وعلى ضفاف بحيرة ليمان جلست وبكيت.. فاجر في رقة يا نهر الثيمز العذب حتى أتم أغنيتي" وكذلك فعل سارتر في رواية "الغثيان" حيث كان البطل روكنتان "Roquentin" ممتلئاً بالقرف والملل إلى درجة الغثيان وعندما يستمع صدفة إلى أغنية زنجية يزول عنه الإحساس بالغثيان . وتوصل وليم بليك لخلاصه الشخصي من خلال رؤية صوفية . لكن ريتشارد لم يستيقظ كما إستيقظ بعض اللامنتمين عند كولن ولسون، ولم يترنم بأعذب الألحان ولم تهتز ضفاف بحيرة تلبري بصدى نأيه، ولم تعتريه أحوال صوفية ولم يشعر بفيض الوجود بما فيه من إشراق وجمال ولم يؤمن بالضياء كما آمن أهل المدينة، وكان أمرُهُ فرطاً.
[email protected]
/////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.