[email protected] (1) حبيبنا الاستاذ عثمان ميرغني ينشر هذه الايام في صحيفته (التيار) سلسلة بعنوان (من ضيّع السودان)؟ والسؤال يستند بطبيعة الحال على فرضية ان السودان قد ضاع فعلاً، فلا حول ولا قوة الا بالله. كل من عليها فان، ويبقي وجه ربك ذو الجلال والاكرام. في حلقة أول أمس الثلاثاء حمّل عثمان مسئولية ضياع السودان لمن اسماهم ب (الآباء المؤسسين). ونال الزعيم اسماعيل الازهري نصيبه من التقريع والتشنيع، باعتباره واحداً من أبرز قادة جيل عقيم، بلا فكر متسق، ولا ممارسة راشدة. استهلك السودان في معارك وهمية، وبدد طاقاته، وضيّعه ضياعاً، أو كما قال! (2) أذكر انني كنت قد قرأت، على عهد الديمقراطية الثالثة في ثمانينيات القرن الذاهب، كتاباً تحت عنوان مشابه، لمؤلف سوداني. خلص ذلك المؤلف وقتها الى ان الذي ضيع السودان هو السيد الصادق المهدي! ومن هنا فقد كانت سعادتي بالغة عندما وجدت موقف سيدي الامام الحبيب يتحسن كثيراً في مسألة (تضييع) السودان هذه. فبعد ان كان المسئول الوحيد بحسب المؤلف الاول، اصبح بفضل إنصاف عثمان واحداً فقط وسط زمرة كبيرة من المُضيِّعين! ثم أن السلسلة أدهشتني، وأربكت الرواسي الشامخات من قناعاتي. من حيث انني كنت قد وطنت عقيدتي، أنا ورفاقي من معارضي الشتات، على ان قادة وسدنة نظام الانقاذ هم الذين (ضيعوا السودان)، وبهدلوه ومرمطوه، وجعلوه في ذيل الامم. ولكن ها هو عثمان يُخلي ساحتهم، ويبرئهم من تلك الشرور والأوزار، ويبيّن لنا، جزاه الله خيرا، ان السودان أصلاً (ضايع من يومو)! (3) صادفت مطالعتي لمقال عثمان، أنني وقعت ايضاً، وفي ذات اليوم، على الحلقة الثامنة من سلسلة المؤرخ اللواء الدكتور محمود قلندر حول تاريخ الصحافة السودانية التي تنشرها (الرأى العام). وقد فوجئت وانا أقرأ تلك الحلقة بمعلومة لم تكن لتخطر لي على بال. وهي أن الصحافي الرمز الاستاذ بشير محمد سعيد كان قد تعاون مع نظام الانقاذ تعاوناً وثيقاً عقب انقلاب 1989. وذلك على الرغم من الصورة التي جهد طيلة حياته لتثبيتها في اذهاننا عن انه من كهنة الديمقراطية ومنظريها وسدنتها، وانه عدوٌ لدود للشموليات. وبحسب قلندر، فإن بشير كان قد بادر بتقديم مذكرة الى مجلس قيادة الثورة عقب الانقلاب الانقاذوي مباشرة، يطرح فيها تصوراته وآراءه حول مستقبل الصحافة تحت ظل النظام الجديد. ويهاجم أداء الصحافة خلال حقبة الديمقراطية الثالثة هجوماً ضارياً، ويقول عنها انها (وقعت في احضان المحظورات من شاكلة العمالة والتسبيح بحمد الذين لا يجمع الوطن بهم جامع)! أذهلتني تلك المعلومة فسألت نفسي: ولماذا غضب بشير اذن غضبته المضرية المشهوده تلك على الصحافي الرائد الاستاذ عبد الله رجب، فعنّفه ووبّخه توبيخاً، بدعوى أنه عاون نظام مايو وشاركها في وضع اسس ومرتكزات تنظيم الصحافة في ذلك العهد؟! صحيح ان عبد الله رجب ساند قرارات تأميم الصحافة. ولكن بشير كان يعلم قطعاً أن انقلاب 1989 كانت وراءه الجبهة الاسلامية، وان الحكام الجدد بسبيلهم لاقامة نظام شمولى، لا يختلف في شئ عن النظام الذي انتجه انقلاب 1969. ومع ذلك فها هو قد تقدم لنصرتهم بالفكر والرأي، كما كشف اللواء قلندر في أوراقه المنشورة! (4) تحيرني دائماً في تاريخ السودان الانقلابات الكلية في موقف بعض الرموز عبر العهود. وهي انقلابات لن تجد أبداً ما يبسط منطقها ويفسرها؟ لا اعتقد، مثلاً، انني سأجد عبر ما تبقى من عمري تفسيراً منطقياً لموقف الرمز القانوني السوداني المغفور له القاضي جلال على لطفي. عاش مولانا جلال حياته كلها، يجاهر ويفاخر بقناعاته العلمانية، ويعارض تحكيم الشريعة الاسلامية. وقد شهدته وسمعته بأذني ذات يوم من ايام الثمانينيات الغابرة يعلن في فتوة وشجاعة اعتذاره عن عضوية لجنة وزارية كونها الرئيس الاسبق جعفر نميري لمراجعة القوانين بحيث تتماشى مع الشريعة. قال: "أنا لا اؤمن بما يسمي الشريعة الاسلامية، ولا يمكنني ان اكون متسقاً مع نفسي فأشارك في لجنة مهمتها التمهيد لتطبيق الشريعة"! وما هي الا سنوات فإذا بالرجل يقبل بصدر رحب منصب رئيس القضاء في ظل نظام الانقاذ الذي اعلن للكافة انه ما جاء الا لتطبيق حكم الله، ورفع راياته، واقامة شريعة الاسلام خالصةً مصفّاه. وإذا به يشرف من موقعه رئيساً للقضاء على مباشرة تلك التشريعات وانفاذ عقوباتها الحدية. سبحان الله! أين ذهبت المبادئ اذن؟ أين ذهب (الاتساق مع النفس) الذي فاخر به الرجل من قبل؟ ما هذا التخليط؟ ما هذا التناقض؟ ما هذا التهريج؟! (5) يبدو لي - والحال كذلك - ان عدد الذين تطالهم شبهات (غياب الفكر الراشد وعدم الاتساق في الممارسة) كما جاء في السلسلة العثمانية اكبر بكثير مما كنا نظن. ولأن القائمة كما رأينا وهيطة (تسع من الحبايب ألف)، فأنني ارجو من صاحبي عثمان ان يدرج اسم الراحل الكبير الاستاذ بشير محمد سعيد، واسم القاضي جلال على لطفي ضمن (المُضيّعين). وذلك حتى نأتيه ببقية الاسماء، وهي كثيرة بغير ريب. وأظننا سنحتاج للوفاء بذلك الغرض الى دفتر كبير متعدد الصفحات! (6) أما أنا شخصياً فأحمد لله أنني لم أكن حاضراً عند زمان الازهري الاول. ولم أكن ولسنوات طويلة بعد ذلك العهد من الشاهدين الراشدين أهل التكاليف والمسئوليات. وبالتالي فلا يمكن لأحد ان يتهمني بأنني أسهمت في (ضياع) السودان بأى صورة من الصور. أنا أجد ملاذي في حمى أغنية ام كلثوم: "اللي شفتو قبل ما تشوفك عينيّا / عمر ضايع يحسبوه ازاي عليّا"؟! وما ضاع وطن وراءه صحافي لحوح، مثل عثمان ميرغني، يصرخ بصوت عال (من ضيّع السودان)؟! نقلاً عن صحيفة (السوداني)