[email protected] 2-2 ما ذكرت في مقالي السابق، تمشياً لما دعا له بروفسور يوسف فضل في مقدمته للكتاب بفتح آفاق جديدة لإثراء الحوار سأتناول ما أحسبه قصوراً في كتاب(لكنوز – التاريخ والثقافة). فما من كتاب وصف بالكمال إلا كتاب الله. وأول قصور فيه هو الإختيار غير الموفق للعنوان (التاريخ والثقافة) ولو كان لي حظ في اختيار الاسم لقلت ( الكنوز التاريخ المعاصر – والثقافة الهجين أو الثقافة المكتسبة). تاريخ معاصر لماذا؟ لأن الكاتب أجهد نفسه وحاول أن يجعل من بحثه بحثاً تاريخياً في أكثره، ولكنه خرج ببحث معاصر في أغلبه. وكل شهوده وأمثلته تأتي من الماضي القريب أو الحاضر الذي نعيشه، (النصف الثاني من القرن الماضي وبداية هذا القرن). فحظ ما استعرضه الكتاب من تاريخ قديم للكنوز حظ يسير، أقتصر جله على المعارك والتحالفات العسكرية مع الدولة الفاطمية أدت لقيام دولة الكنوز في منطقة أسوان ثم تلاشت تلك الدولة في العهد الأيوبي دون أن تترك أثراً ودون أن يبكي على زوالها أحد .لتعود بتحالف جديد في العهد المملوكي، وتقوم دولة الكنوز في منطقة دنقلا. ولكن عجز الكاتب ان يوضح لنا أثر تلك الدولة حضارياً وتنموياً وثقافياً على المنطقة التي حكمتها خلال الحقبتين. وأغلب الظن أن للكنوز أمارة أو مملكة، أعطها من الأسمين ما شئت، ولكن لا تقل دولة، لأنها لو كانت دولة لتركت أثراً تاريخياً نلمسه في الحضارة أو الثقافة أو السياسة أو الدبلوماسية. ولكن يبقى أعظم ما خلفه الكنوز من إنجازات في تاريخهم القديم هو إسهامهم بقدر كبير في نشر الإسلام في منطقة البجة. وهي الفترة التي بدأت فيها هجرة بعض فروع قبيلة بني ربيعة إلى السودان عن طريق مصر ثم إلى اسوان في القرن الأخير من الألفية الأولى. واستقر جزء منها في شرق السودان بمناطق البجة وأخرى بمناطق المحس، وسمي هذا الفرع من قبيلة بني ربيعة بالكنوز انتساباً لجدهم الأكبر كنز الدولة. أستاذنا الجليل بروفسور يوسف فضل اعتبر الفصل الرابع أمتع فصول الكتاب، لإتجاه الكاتب فيه البحث عن ثقافة الكنوز وأصولها وممارستها. يكون هذا اتجاه مفرح حقاًً جدير بأن ينال ما يستحق من ثناء إن كان البحث عن ثقافة النوبة. وبما أن البحث مخصص لثقافة الكنوز. لهذا أجده عندي أنه أضعف أبواب الكتاب، لأن كل ما أتي في هذا الباب يتحدث عن ثقافة النوبة التي تبناها الكنوز كثقافة لهم. فالباب الرابع هو خروج عن النص بصفة كاملة وهذا واحد من الأسباب التي دعتني لاقتراح تعديل اسم الكتاب إلى (الثقافة الهجين أو الثقافة المكتسبة) فالكاتب عندما يتحدث عن الثقافة لا نجد أثراً ولا عطاءً ثقافياً لهذه القبيلة، لهذا لم يجد الكاتب من منقذ إلا الهروب والاحتماء بثقافة النوبة التي اصبحت فيما بعد ثقافة بالتبني لقبيلة الكنوز التي نتجت عن الامتزاج والتصاهر بأهل المنطقة كما عبر عن ذلك بروفسور يوسف فضل. فحضارة النوبة حضارة سابقة لمجيء الكنوز إلى جنوب مصر وشمال السودان بآلاف السنين. فجذورها تمتد لأكثر من عشرة الاف عام، مما عزز تداخلها مع الحضارة الفرعونية مؤثرة ومتأثرة. فالكثير من الشواهد التي أثارها البحث تُضْعِفُ حجة الكاتب لأنها ترجع للحضارة الفرعونية. وما قصة سيدنا موسى وإلقائه في اليم (الماء) إلا مثال وشاهد يكشف أن الأحداث الثقافية التي استشهد بها الكاتب ليس للكنوز منها حظ، إلا حظ الذئب من دم ابن يعقوب. فلا رابط بين هذه الأحداث لا في المكان ولا الزمان ولا الإنسان. بل كل الذي نجده أن الكنوز قد عايشوا المجموعات والقبائل التي تمتد جذورها إلى ما قبل ولادة موسى، لهذا تبنوا عاداتهم وطقوسهم. فطن الكاتب في مقدمة الكتاب لهذا الاستلاب الثقافي لقبيلة الكنوز، في قوله وهو يهدي جهده المتواضع: "إلى عموم الكنوز .. وجميع النوبيين والمهتمين بالتراث والثقافة النوبية". أنظر لقوله: "والمهتمين بالتراث والثقافة النوبية"، وليس بالتراث والثقافة الكنزية. هذا يعزز قولي بأن هناك تضاربا بين اسم الكتاب وما طرح في الباب الرابع منه. مثل هذا النوع من الكتابة والبحث يعد ضرباً من البوح المبطن المعبر عن الكوامن النفسية والحنين إلى الجذور واكتشاف الذات التي أتى منها الكاتب (كنزي). فدفعته وحفزته للكشف عن خزائن تراثه المطمور. فقبيلة الكنوز قبيلة صغيرة تبعثرت في داخل السودان وجنوب مصر لأسباب عزا الكاتب بعضها للتطلع للحكم، والبعض الآخر للظروف الاقتصادية وللغمر المائي الذي نتج عن بناء خزان أسوان. كل تلك الأسباب أجبرت إنسان هذه القبيلة على الهجرة في كل الاتجاهات. فأراد الكاتب ببحثه هذا أن يجعل لهذه القبيلة موطئ قدم معرفي ليس بين الأمة السودانية فحسب بل لأبناء وبنات هذه القبيلة الذين يجهلون الكثير عن تاريخ أجدادهم. وهو دافع يكمن في ذهن كل كاتب يسعى لكشف التاريخ سعياً للتنوير وكشف ما هو مطمور ومقبور. كما قال بذلك العقاد في كتابه (أنا)، أن الدافع لتأليف كتابه عن ابن الرومي هو "إبراز حق ضائع وحقيقة مجهولة" ففي تقديره أن ابن الرومي مجهول القدر مبخوس الحق. لعل التعقيد الذي عانته الدراسة كما أشرت، هو أن الكاتب أختار موضوعاً ليس له حظ من التوثيق التاريخي والمراجع مما يعين الكاتب بالإيفاء ببحث بمثل هذا الطموح، مما ولد قصوراً في البحث. ولكن رغم ذلك القصور وتلك المعوقات استطاع الدكتور عبدالعظيم أن يتجاوز ذلك النقص مستفيداً من الوثائق والمراجع التي توفرت له رغم قلتها، ودعمها باللقاءات المباشرة مع من يحملون معلومات شفهية وسمعية أحالها ببراعة لشهادة مكتوبة فأصبحت اقرب للوثيقة. كما أن امتلاك الدكتور عبدالعظيم لمهارات ووسائل وأدوات وفنون البحث التي أكتسبها خلال تحضيره لرسالة الدكتوراه في جامعة هيلسنكي بفلندا، أعانته بالخروج ببحث يعد ركيزة ونقطة انطلاق لعمل مستقبلي. ما أحسبه قصوراً فهو في الحقيقة يرفع من قيمة الكاتب والكتاب، لأنه وثق لقبيلة حظها يسير في كتب التاريخ ودار الوثائق السودانية. بهذا المعنى يصبح البحث مفتوحاً للأجيال القادمة لتضيف عليه. فالكتاب يعتبر بحق إضافة إيجابية للمكتبة السودانية، وتعريف بإيجاز غير مخل لقبيلة الكنوز التي تنحدر جذورها من قبيلة ربيعة العربية. إلا أن فرع القبيلة هذه ذاب إن لم يكن تلاشى وأصبح جزءا من القبائل النوبية القاطنة في شمال السودان وجنوب مصر. مما نتج عنه ازدواجية الإنسان الكنزي الذي فقد هويته العربية وأصبح نوبيا بلسان عربي. لذا يمكن القول أن كل كنزي نوبي، ولكن ما كل نوبي كنزي، لأن وجود الهوية الكنزية المعاصرة أصبح مستمداً من هوية وثقافة المنطقة النوبية. وأحسب أن هذه هي الرسالة التي تََكْمُنُ وراء بحث الدكتور عبدالعظيم. وكأني به يريد أن يوجه للأمة السودانية رسالة هي أحوج إليها في وقتنا الحاضر، الذي تبرجت فيه نعرة القبيلة والتحزب للعرق والدم، ورسالته تقول: "أن كل القبائل والأعراق في السودان تعايشت في السابق والحاضر، وتصاهرت وأمتزجت مع بعضها البعض لتولد إنساناً سودانياً بصفات وميزات اجتماعية وقبلية قل أن تجدها في الشعوب الأخرى. هذا ما يعزز الثقة في قدرة القبائل السودانية على التعايش والتصاهر والتمازج في حاضرها ومستقبلها، لبناء وطن واحد موحد". لعله من العرفان، والأدب، والوفاء، أن أشكر الدكتور عبدالعظيم مرغني الذي خصني بنسخة من كتابه وبإهداء منه، ومنحني الفرصة أن أعرف الكثير عن ما كنت أجهله عن جذوري الكنزية، وملكني وثيقة ستجد العناية عندي، لأنها أصبحت شيئا يخصني ومصدرا لفخري. وبما أن الدكتور عبدالعظيم قد أوتيَ أدوات البحث وعرف مسالك الطريق الوعر، ليته يكمل المشوار ويوسع في بحثه ليصبح الكتاب جديراً بعنوانه (الكنوز – التاريخ والثقافة).