(اللعنة غلى الذكرياتكادت ان تقتلني ) مقطع من البحث عنالزمن المفقود لاميل بروست توفي جدي وهو يلمع لوحة القطار الزيتية، بمنديله المزركش العريض. قضى شبابه برمته موظفا في محطة قطار قرب الأهرامات النوبية وترقى فيما بعد ليصبح ناظراً. ظل يهذي في سنواته الأخيرة بالقطار، بالمحطة تلك التي عمل فيها جل حياته. لا أعرف عن هذه المحطة الكثير فقد اندثرت أو بالأحرى هي الآن أطلال وسط الصحراء لم يبق منها سوى قضبان القطار كنصب تذكاري لآخر معلم يذكر بها. لم تندثر محطة القطار أو تغب لحظة واحدة من يوميات جدي. ظل يهذي بها، بقطارها والمسافرين، وأسماء لا أعلم من أي عالم هبطت (ود النقعة، البرشغ، الماحي الرمة، البلوم). سألت أبي عن جدي فقال إنه ترك كل شيء وراءه ليهب حياته لهذه المحطة. شيد بيته هنا على مضض فقد أراده جوار المحطة إلا أن الحكومة رفضت ذلك لكون المنطقة أثرية ولأن جزءاً منها مشروع مياه جوفية. في كل مساء أجلس جواره ليحدثني عن ذكرياته، أو ما يعيده إلى الماضي الذي أغرم به إلى حد الثمالة. كان في البدء بعقل وذاكرة سليمة يقص لي عن محطة القطار والمسافرين والمؤن التي كان القطار يجتازها وبعض سائقيه وثلاثة من موظفي المحطة الذين فقدوا أبناءهم في حرب الجنوب أو تقاعدوا لضعف نظرهم وصحتهم. شاخ جدي بمرور الوقت فأصبحت الأشياء تلتبس عليه ومثلما نسي الأسماء، نسي أنه جدي.!!! سألني: - هل أنت موظف جديد في المحطة؟. - أنا حفيدك يا جدي!! ألا تتذكرني؟. - لسنا بحاجة إلى موظف جديد. كعادته ظل يترنم للقطار: يا قطار الشمال يا قطار الجنوب يا قطارا صدئت بلون المحطة نمت استرحت أمام البيوت ويخرج منديله المزركش العريض ويجلي الغبار عن لوحة القطار الزيتية المثبتة على الجدار قبالة سريره الخشبي المنخفض. لم يعد جدي يتذكر إلا مفردات محددة: (القطار، إسماعيل سائقه، المحطة)، ما من حديث بعد يشده أو رغبة انس مع أبي المدرك تهويمه في نثار الذاكرة، فيسأل الله أن يحفظ كبره هو من الهذيان إن عمّر مثله. أسند إليّ دور العناية به. كان جدي ثقيل السمع لا يستجيب لي إلا عندما أحدثه بصوت عالي ، ويقرأ شفتي إن قلت: القطار، المحطة، إسماعيل فأبصره من جديد على مسرح الحياة مؤتلق الأسارير ولكن بنظرات حزينة، تود أن تفضي إليّ بشيء فترتد حسيرةء. لا أدري تماماً كم عمره، ولكن أبي يزعم أنه تجاوز التسعين. أنا الآن وحدي وجدي واللوحة الزيتية وبعض أشيائه المتناثرة بفوضى في أرجاء غرفته كإبريقه النحاسي المذهب، وغطائه الأبيض الثقيل، والحقيبة الحديدية العتيقة التي ظل يبعثر محتوياتها ويعدها كما لو ضاع منه شيء ما. نظرت إليه وهو مستلق يتأمل سقف الحجرة فتذكرت تلك الأمسية التي قص لي فيها عن المحطة. كان صوته خفيضاً وذاكرته قوية فتواتر يسرده كما لو كان في تحد لذاكرته.( من كل صوب، تجمع القانطون ليشيدوا المحطة بلا مقابل، وأخذوا ينادون (بالنفير)، في طرقات الحي. كانت الآمال التي عقدوها لحلول القطار، تذلل من وطأة العمل. تجمعوا من كل صوب مشمرين عن سواعدهم، لحمل الطوب وجرار الماء. حتى النساء تجمعن بأيديهن الدفوف، يضربنها بإيقاع حماسي حتى أثرن همة المرضى والمسنين والقاعدين عن العمل فطفق صرح المحطة يعلو رويداً رويداً طي الصحراء. أخيراً حل القطار فاصطفوا على جانبي القضبان، وأتى البعض بطعام، ظاناً أن القطار من الآكلين. كان لهدير عجلاته وقع سحري في آذانهم، خلدوه في ألحانهم ورقصاتهم، لاسيما الفتيات؛ فقد ابتكرن رقصة باسمه، ووقعنها بأنفاسهن العطرة. يتمايسن، وتهتز نهودهن، وتتمايس خصورهن كالقصب البري في الريح فيما كن يدرن وجوههن الخلاسية الرائعة يميناً، ويساراً، ثم ما يلبثن فيستقررن في اتجاه الشمال.. .. (الشمال الحياة). حل القطار بآمال القانطين، محملاً بهبات الحقول والمنسوجات والجازولين، فانتعشت البقعة لفترة وجيزة تقاعس فيها المزارعون وأصحاب الحرف عن أعمالهم. كانت الأيدي تشير دائماً إلى اتجاه القطار، ودخانه السامق في الأفق كأحلى ما يكون من أمنية تحتضنها بركة السماء. ذاع صيت المحطة فعشقها المدرسون الموفدون إلى تلك البقعة، لا سيما أساتذة التاريخ واللغة العربية، وظلوا يدبجون لها المقالات الطوال، لا يهمهم عناء الكتابة في عمق الليل، فسحر المحطة تحت أشعة القمر وتبوؤها فضاءً سعيداً مطوقاً بلون الرمال التبري كان أثمن ما يتقاضونه من ثمن. فجأة احتجب القطار، فاعترى القاطنون ما يشبه يقظة من سبات عميق، وألفوا أنفسهم في العراء، إلا فئة ما استطاعت أن تنمو كنبت شيطاني. إثر يأس طويل حل القطار.. حلّ ثانيةً، ولكنه كان محملاً بالجنود فحسب، فأيقن موظفو المحطة بأفولها فسرحوا أنفسهم من وظائفهم وتفرقوا في شتى الأصقاع دونما أوبة، وبقيت أنا أغالب الأمل بعودة القطار يحدوني الحنين إلى الحياة التي كانت تدب هناك، بالمسافرين: الأسود والأبيض وأسيل الخد، والمفصود، والبدو، والجنوبيين.) جدي مستلق على سريره الخشبي (العنقريب) ونظراته مشدودة إلى سقف الغرفة، يحرك قدميه ويئن فاتجهت نحوه لأمسدهما قبل أن يضع طقم أسنانه الاصطناعي في كوب جواره ويحرك لسانه في حركة دائرية ويدلقه ليبل به شفتيه الرقيقتين. تأوه كعادته عندما ضغط على قدميه المخددتين. قال أبي إنه كان يقطع المسافات الطويلة في الصيف والشتاء ليجمع الحجارة ويحمل جوالات الأسمنت مع الآخرين لتشييد المحطة. تمعنت فيه وهو مطبق جفنيه (اللحية البيضاء والوجه المستدير والجبين الواسع المفصد بالتجاعيد) لا شك أنه كان وسيماً في شبابه وريما زير نساء. من يدري؟!! أبي لا يحب التحدث عن النساء ولا الخوض في ماضي جدي. بخور يماني يتصاعد من مبخره في زاوية الغرفة جوار حقيبته العتيقة ونباح كلاب وصياح وشتم يتعالى خارج فناء البيت. استيقظ جدي وحرك قدميه قليلاً ثم استسلم للهدوء مجدداً، التقت نظراته بنظراتي فقال بصوته الخفيض: - لماذا تأتي ثانية؟! نحن لا نريد موظفين جددا للمحطة. لا فائدة. جدي يهذي كما يشاء ويصرخ ويلعن ما إن رأى أحدا يلمس مقتنياته، كالحقيبة، أو المبخر أو اللوحة الزيتية الصامتة كصمت الجدار. ولكن الأمر خلاف ذلك كما يبدو! هذه اللوحة أعز ما يمتلكه جدي.. رسمها له (نعمان) من أبناء القرية، أغرم جدي بموهبته ليرسم له المحطة مقابل نخلة، وقربه إليه فكان يلتقيه مرة كل أسبوع فيتحدثان عن المحطة إلى منتصف الليل. انقطع نعمان عن زيارة جدي لقناعته – دون شك – بأنه لم يعد يتذكر إلا القليل، يضيق ويجذل وفقاً لمزاجه. التقت نظراتي بنظرات جدي فأشاح ناظرا في اللوحة. هل كان من الممكن لهذا الرسام أن يرسم المحطة على هيئة أخرى غير مطابقة تماماً، لها رمزية أو سريالية وانطباعية مثلاً؟.. أن يترك غموضاً ما، يشد إليه النظرات المتأملة لفك طلاسمها أو تجنح بالخيال؟. البني هو اللون الغالب فيها، لون- الصحراء. منازل أشبه بأكواخ حول المحطة ورصيف في المنتصف يخرج منه بعض المسافرين والبعض ينتظر تحت أفياء الشجر، وفتى وفتاة يسرعان لتطويق بعضهما البعض. محطة مطوقة بالصحراء، تحت سماء صافية مرصعة بالنجوم وقرص قمر كالشمس مشع البهاء. ولكن لماذا رسم الفتاة والفتى بألوان زرقاء كلون النهر فيما هيمنت الألوان الكالحة على تفاصيل اللوحة؟ لماذا؟! أطبق جدي جفنيه وغاص مجددا في نوم عميق. هكذا هو كالنعاس تفسه لا يمهد له , يباغته فيستسلم له، قيترهل فكه ويندلق لسانه فوق شفتيه الرقيقتين. سألت نعمان - أبو المواهب كما ينعته أهل الحي - ذات مرة عن جدي لإحساسي بأنه يضمر سرا ما في تلافيف ماضيه. سألته لأن جدي جالسه طويلا ويثق فيه ويحبه كحب نعمان للنخلة التي حباه بها جدي. كان يقضي معه ساعات طويلة يضحكان ويهمهمان ويتوقفان فجأة عن الحديث ما إن يدلف أو يستأذن ضيف ما. - ماذا تريدني أن أقول لك؟. - أظن.. أظن أن جدي يضمر سراً ما، لا أدري! - ليس هناك سر، أنت تتخيل فحسب. - ولكن لماذا لونت اللوحة هكذا؟!! وماذا عن الفتى والفتاة؟ صرف نعمان نظره عني وصمت برهة وهو يخطط بقدمه على الرمل، ثم عقد أنامله الطويلة ألانيقة. لا شك أنه لم يعمل عملا خشنا كمعظم أهل القرية. - حسناً، جدك مغرم بالمحطة. استجبت له فرسمتها وفقاً لتصوره. ولكن كان مصمماً على إاجادة رسم الفتى والفتاة. - لماذا؟. - هذه تفاصيل لا أدركها إلى الآن. فرح كثيرا حين رأى اللوحة. وتلمس بأنامله الفتى والفتاة كأنهما على قيد الحياة وطفرت الدموع من عينيه وقال كما لو يناجي ذاته: "انتظرتك طويلا طويلا إلا. .. إلا أنها لم تأت". لأول مرة رايته يبكي. سألته عنها أكثر من مرة فلم يجبني رغم أحاديثنا العديدة عن المحطة والقطار والمسافرين. هل أحب جدي امرأة؟ أيكون حقاً من هؤلاء المحبين المغرمين؟! تمايس دخان البخور في فضاء الغرفة بغنج، وجدّي نائم. أود أن أنام قريراً كنومته هذه. أحب بعمق وأصمت مثله وأموت كفراشة... تغيرت مجريات الحياة هنا ولم نشهد بئرا جوفية واحدة في المشروع المقترح. شيدت محطة جديدة، ليست للقطار، إنما للسيارات الخلوية والشاحنات. اندثرت محطة القطار بكل ذكرياتها دون أوبة، ولم أعد أحدث جدي ويحدثني؛ فقد انكفأ على ذاته ولم يرغب إلا في الخلوة والتمعن في لوحة القطار الجدارية. مات وهو يلمعها بمنديله المزركش العريض. [email protected]@gmx.de