عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    اهلي جدة الاهلي السعودي الأهلي    أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وداعاً عاصم المقدام .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش/الدوحة- قطر
نشر في سودانيل يوم 04 - 02 - 2015

كلكم تعرفون الاديب الكبير ومعلم الأجيال والدبلوماسي المرموق الأستاذ جمال محمد أحمد طيب الله ثراه،فقد كان هذا الرجل من أوائل المهتمين بالأدب الإفريقي والثقافة الافريقية وقام بابرازهما للعالم في عدة كتب منها سالى فوحمر والمسرحية الافريقية ووجدان أفريقيا وعرب وأفارقة والجذور الفكرية للوطنية المصرية وأفريقيا تحت أضواء جديدة.وقد رثاه عدد من الكتاب والشعراء السودانيون، منهم على سبيل المثال فقط الكاتب الكبير الطيب صالح، طيب الله ثراه،والأديب الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم والعلامة البروفسور عبد الله الطيب، رحمه الله.حقاً لقد كان هرماً من أهراماتنا الأدبية والدبلوماسية والسياسية.
في عام 1986 كتب الأستاذ جمال بلغة ذات ألق وبهرة وبمفردات لم تزخر بها المعاجم، رثاءً في شقيقه الذى يصغره، رجل الاعمال المعروف، وأحد مؤسسي الصناعة في السودان المرحوم محجوب محمد أحمد طيب الله ثراه، ليلقيها في مناسبة أربعينه لكن كانت الاقدار أسرع حيث كان قد لحق بشقيقه المرحوم محجوب في صبيحة نفس يوم أربعينه فأصبحت المرثية أشبه بخطبة وداع،الا أنها ظلت كقطعة أدبية بل درة من رحيق الادب، حبيسة جدران مكتبته في منزله. وصف الأستاذ جمال في هذه المرثية شخصية شقيقه محجوب وصفاً أميناً ولخصها بأنه " كان لا يرضى أن يكون الأول ويأبى أن يكون الثاني" !!ولك أن تسرح بخيالك في هذا الوصف الدقيق المختصر حتى تدرك عبقرية شخصية محجوب..ثم أشار في ختامها مبايعاً شقيقه الباقي رجل الاعمال المرحوم سيد محمد أحمد طيب الله ثراه، أن يتولى الخلافة من بعد محجوب وأن يكون أباًلأبناء وبنات محجوب،يحرسه قلبه الكبير وهو بجانبه خادم لهم، يشدُّ من عضده الأبناء عاصم المقدام وسامى الحكيم..لكن يا للحسرة.. لم تتحقق وصية الأستاذ جمال هذه فقد شاءت إرادة الله أن يلحق بهما بعيد حين أيضاً شقيقهما الباقي سيد....كانت بحق تراجيديا خبأتها الاقدار للأشقاء الثلاثة...لم يطيقوا فراق بعضهم في الدنيا واَثروا أن يتقاسموا حتى طعم الموت فيما بينهم كما تقاسموا طعم الحياة بحلاوتها ومرارتها،ثم تسّلم عاصم المقدام زمام القيادة في الأسرة وسار بها الى أن اختاره الله الى جواره صبيحة يوم الخميس الموافق 15 يناير 2015 فذهب الى دار البقاء مبكياً عليه.
أرسل ليابنى محمد تعزية رقيقة في وفاة عاصم، حيث كنت في سفر بعيد، ثم طلب منى أن أكتب عنه تخليداً لذكراه فأكبرت فيه ذلك الشعور الوفي وانتباهته، فقلت له يا بُنى..موت عاصم أحرق فؤادي وألهب مشاعري منذ اللحظة الأولى وسرعان ما تزاحمت الكلمات والجٌمل في رأسي وخَرَجَتْ عجْلَى لتأخذ موقعها في قصاصات ورقية أمامي،وجفّ مداد قلمي قبل أن تجف قطرات المياه التي صبّها أخي عاطف على ثرى قبره الطاهر بعيد دفنه.وقلت له عندما أكتب عن عاصم فاني أدوّن تاريخ أسرة عريقة تميّزت بالحب الصادق والتفاني ونكران الذات الشيءالذى تجسد في شخصية عاصم المقدام.
للذين لا يعرفون عاصم طيب الله ثراه، فهو الابن الأكبر للمرحوم الأستاذ جمال محمد أحمد،أشقاؤه بالترتيب العمرى دكتور عادل طبيب استشاري يعمل في جدة بالمملكة العربية السعودية ودكتور عارف أستاذ جامعي في جامعة"بيركلي" المشهورة في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الامريكية ثم أصغرهم السيد عاطف ويعمل باحثاً في التراث في منظمات الأمم المتحدة بالخرطوم،وشقيقاته كبراهن السيدة عايده حرم السفير والدبلوماسي المرموق الأستاذ مصطفى مدنى أبشر والسيدة علويه حرم البروفسير الدكتور عاصم إبراهيم المغربي أستاذ العلوم بجامعة الخرطوم وهى تعمل مستشار أول البيئة والسكان بمنظمة الأمم المتحدة بالخرطوم ثم صغراهن الاستاذة عالية اخصائى أول قوانين العمل بمنظمة العمل الدولية بجنيف.
ولد عاصم بمدينة الخرطوم في فبراير 1942وتخرج من الكلية الحربية ضابطاً في القوات المسلحة السودانية في عام1965،وفي عام 1967 اقترن بقريبته السيدة الفضلى سهير، الابنة الكبرى للأستاذ الكبير صاحب الجمرات محمد توفيق أحمد طيب الله ثراه، وهو غنى عن التعريف، وأبناؤه وليد وصديق وأحمد وعمر وبناته السيدة سارة حرم رجل الاعمال السيد معتصم داود عبداللطيف والسيدة ايمان حرم السيد محمد إسماعيل الحاج موسى.
عندما وصف الأستاذ جمال ابنه عاصم بالمقدام،وهى تعنى في اللغة جريء في الحرب فعال لما يقول ولايهاب،لم يأتِ ذلك الوصف من فراغ أو بدافع الفخر بالأبناء، فلقد تابعت مسيرة عاصم في الحياة حتى أعرف أصل هذا الوصف الذى خصه به من دون اخوانه، وحقاً وجدت أن حياته كانت تزخر بمواقف الاقدام والشجاعة..شجاعة في مهنته، شجاعة في آرائه،شجاعة في مواقفه أياً كانت سياسية أم اجتماعية أم أسرية بل وحتى شجاعة في ملاقاته للمرض والموت وهو الذي منه تفرون.وسوف أذكر لكم هذا الجانب من حياته باختصار شديد حتى تقفوا معي على الحقيقة ثم نقول جميعاً لقد صدقت الوصف يا جمال..
منذ أن أدرك عاصم سن الشباب كانت لديه الرغبة فى الالتحاق بسلك العسكرية،وفى المرحلة الثانوية كان مبرزاً في حصة "الكديت" حتى أصبح قائداً لطلبة "الكديت" في المدرسة ثم التحق بالكلية الحربية في أمدرمان عام 1963، وكان التحاقه بالكلية الحربية آنذاك مثار دهشة لمن يعرفونه، لا لعيب في الكلية الحربية أو العسكرية انما لعدة أسباب أوجزها لكم أولها: أنهم كأسرة أو قبيلة أو النوبيين عموماً بطبيعتهم لا ينجذبون لمهنة العسكرية ولذلك تجدهم حتى الآن قلة في هذا المجال، وهناك قصة حقيقية حصلت ربما يكون من المناسب أن أذكرها هنا على سبيل التأكيد والطرفة ليس الا، حيث كان عاصم ورفاقه ركاباً في قطار سكة حديد السودان متجهين الى غرب السودان في مهمة عسكرية وعندما أصابهم الجوع ذهبوا الى المطعم (الاسطراطور كما كانوا يسمونه آنذاك)،والذى كان في عربة خاصة في مقدمة القطار، بزيهم العسكري،رفض الشيف أن يخدمهم،وهنا أالتفت الرفاق، سوياً في نفس اللحظة، الى عاصم، وكأنهم أٌمروا عسكرياً، وأشاروا اليه ليتدخل في الأمر ويستعمل كلمة السر وقد كان،ثم استعجب الشيف وسأله بذات اللغة من أنت ؟ فعرّفه عاصم أنه ابن جمال محمد أحمد فكانت كافية للشيف،بل كان ردة فعله محتجاً ومستنكراً:"وايه لماك على هؤلاء العساكر"!! ثم أنزل عليهم ما لذ وطاب من الاكل والشرب حتى وصلوا الى وجهتهم مسرورين ومتغذين.تانياً: أن أسرته واخوته من أولئك الذين واصلوا التعليم حتى نهاياته بل أصبحوا أساتذة في الجامعات،كما ولا ننسى أن والده الأستاذ جمال كان معلماً في معهد بخت الرضا ومدرسة وادى سيدنا الثانوية والتحق بكلية غردون الجامعية عام 1937 ودرس في جامعة أكسفورد عام 1954وكان عميداً للطلاب بجامعة الخرطوم عام 1949،ثالثاً: كان هناك بعض الطلاب الناجحين لدخول الجامعة يفضلون الالتحاق بالكلية الحربية على الالتحاق بالجامعة لظروف عائلية وحاجة آنية للعمل، الا أن عاصم لم يكن ضمن هذه الفئة.ذكرت تلك الأسباب لأبرز لكم تفرد عاصم في اتجاهاته ورغبته في العسكرية كمجال خصب يفجر فيه طاقاته ورغباته الكامنة.
كان عاصم طالباً حربياً مميزاً بين أقرانه في الكلية حيث كان يواظب على النظم العسكرية بحذافيرها مع الاحتفاظ بشخصيته الثورية التي لا تقبل الظلم والمهانة،وهناك عدة قصص ومواقف بطولية أثناء الدراسة في الكلية يتندر بها أبناء دفعته في جلساتهم حتى الآن وكان عاصم هو مركز الالتقاء بالنسبة لهم حتى بعد أن أحيلوا جميعاً الى المعاش.
وبعد تخرجه من الكلية الحربية ضابطاً لم يكتف عاصم بوجاهات وبريق تلك المهنة آنذاك بل جاب كل ربوع الوطن شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً طواعيةً، واشترك في العديد من العمليات العسكرية لإطفاء نار التمرد في الجنوب والشرق،وعرف عنه بين أبناء دفعته بالجسارة والشجاعة ولذلك تدرج في الرتب العسكرية ونال عدداً من أنواط الجدارة والتمّيز القيادي.
زد على ذلك أنه كان ضمن كتيبة القوات السودانية المسلحة التي مثلت السودان في الحرب ضد إسرائيل وكان مرابطاً بأرض سيناء في مصر حيث كان قائداً لفرقة قتالية كانت تقف في الصفوف الأولى في مواجهة العدو ورفعت اسم السودان عالياً بين الدول العربية التي شاركت في هذه القوات المشتركة، ذكرني ذلك بحادثة أخرى أيضاً مشّرفة للقوات المسلحة السودانية، نشرت في جريدة الوطن الكويتية لابد أن أعيد ذكرها هنا،فعندما حشد الرئيس العراقي الأسبق عبدالكريم قاسم قواته في أوائل ستينيات القرن الماضي وهدد باجتياح دولة الكويت أرسلت الجامعة العربية قوة عربية مشتركة ضّمت كتيبة سودانية وعندما انتهت مهمتهم واصطفوا في المطار ليستقلوا طائرتهم عائدين، تقدم أحد أمراء أسرة الصباح وسلّم كل عسكري ظرفاً محشواً بالمال والساعات الفاخرة،وعندما انتهى الأمير من التوزيع صاح اللواء صديق الزيبق بأعلى صوته موجهاً النداء لقواته "أرضاً ظرف"أي ضعوا الظروف على الأرض، ونفذ جميعهم الأوامر دون تذمر، وعندما صاح اللواء الزيبق "معتدل مارش" تحركوا وركبوا طائراتهم تاركين الظروف والساعات على الأرض، ووقف كل من حضر هذا الموقف العجيب مشدوهاً.كانت الرسالة التي أراد قائد القوة أن ينقلها للأشقاء الكويتيين أن "لا شكر أو مال على واجب.نحن لسنا مرتزقة"!! وبسبب ذلك الموقف الرائع للزيبق وقواته، ولما عرف به الجندي السوداني وقتذاك من بسالة واقتدار،استعانت دولة الكويت فيما بعد بعدد من الضباط السودانيين لإنشاء أول كلية حربية بدولة الكويت وكان من بينهم الزيبق نفسه وآخرون.هؤلاء هم الرجال الحقيقيون اللذين مثلوا السودان ورفعوا رؤوسنا عالياً، سواء كان عاصم ورفاقه في أرض سيناء أوالزيبق وجنوده في دولة الكويت أو أينما ذهبوا.
ساءت أحوال الحكم في السودان وطغى الظلم والاستبداد في عهد الرئيس نميري،وجاهر عاصم بعداوته للنظام الحاكم، ورغم امتيازات فئة الضباط آنذاك، الا أنه كان قد انحاز لجانب الشعب ونادى بسقوط نميري علناً ثم كان انقلاب هاشم العطا ورفاقه في يوليو عام 1971، وكان عاصم من أوائل الضباط المؤيدين للانقلاب، وكان حينها مرابطاً بجبهة القتال في مصر فجمع توقيعات رفاقه الضباط بمؤازرة هاشم العطا وأرسلها الى القيادة العامة في الخرطوم،وعندما أحبط نميري الانقلاب وعاد الى الحكم مرة أخرى، تم استدعاؤه من مصر وأحيل الى المعاش مع عدد من الضباط المؤيدين .
شجاعة عاصم لم تكن في الحرب فقط بل كانت في السلم أيضاً، فحتى داخل الاسرة كان جريئاً في آرائه وشجاعاً في مواجهته لأي أمر لا يراه صحيحاً فينظره، حتى أن بعض أبناء الجيل الأصغر من الأسرة كان يعتبره قاسياً يميل الى تطبيق أسلوب العسكرتاريا في الحياة المدنية، الا أنه في الحقيقة كان شديد العاطفة في نفس الوقت، ورجل عائلة بسيط استمتع في حياته بأولاده وأحفاده وأسرته الكبيرة..ومما يؤسف له أحياناً أن الأجيال المتعاقبة في الاسرة اكتشفت الجانب الآخر من هذه الدرة في السنوات الأخيرة من عمره، حيث كان مهاباً عندهم لطبيعته العسكرية وشخصيته الجريئة، وما أدركوا أنه كان أيضا يحمل بين ضلوعه قلباً عاطفياً حيث كانت تجرى دموعه لأقل الأسباب،وكان حديث قليلاً واذا تحدث كان يتحدث بهدوء شديد ومنطق مقنع واذا كتب في موضوع يكتب بلغة سلسة وبأفكار مرتبة تفوق مذكرات المحامين ورجال القانون ويبدو أنه قد ورث أسلوب الكتابة الرصينة من والده رحمه الله.
في ذات يوم قبيل وافته، كان عاصم يستعد لمقابلة النطاسي البارع الدكتور عمر إبراهيم عبود،وفى درّج منزله كان متكئاً على كتف شقيقه عاطف حتى يقوى على الثبات،ثم حكى له حديث الرجل الحكيم في مجلسه،الذى عندما أتاه خبر وفاة والده كانت ردة فعله:" أن الشيبه (الشايب) قد ذهب..وعندما جاءه خبر وفاة زوجته قال: سوف أغير فراشي..وعندما أتاه خبر وفاة شقيقه قال: الآن قد انكسر ظهري..."،كانت هذه هي طريقة عاصم في التعبير عن حبه لك والتي لم يفهمها الجيل الجديد حيناًمن الدهر فظلم شخصية عاصم بل ظلم نفسه أيضاً..لكن يبدو لي، أنه في هذا الموقف بالذات، كان قد سرح بخياله بعيداً ثم أراد أن يبعث برسالة أو وصية أخيرة إلى أشقائه.
بعد أن ترك القوات المسلحة اتجه عاصم نحو العمل الحر وبدأ بالزراعة وتربية الابقار والدواجن في مزرعة والده وأعمامه في منطقة الباقير عام 1972 ونجح المشروع وأنتج،الا أن قطوعات التيار الكهربائي آنذاك كانت تكبده خسائر كبيرة، فاتجه الى مجال الصناعة، متبعاً خطى عمه المرحوم محجوب في هذه الناحية حيث كان وارثاً للذكاء الفطري لعمه، وقد نجح في هذا المجال أيضاً، وكان مشروعه الأكبر هو مطاحن الباقير للدقيق في المنطقة الصناعية في الباقير، حيث ساهم مع بعض الشركاء وأشرف هو بنفسه على انجاز هذا المشروع من الالف للياء، كما يقولون، حتى أنتج..وبذكائه ومتابعته اللصيقة لمراحله تعلم من تلك التجربة الثرة أساليب الهندسة والصيانة والادارة والمالية والتسويق حتى أصبح من الخبراء والمستشارين في هذه الصناعة الحيوية الا أنه كان،كما أوضحنا سابقاً، شجاعاً في آراءه فلم يسكت على الأخطاء والظلم ولذلك اختلف مع شركائه وانسحب من الشراكة وطرق مجالات أخرى حيث أنشأ معاصر أوتاشو للزيوت في منطقة الباقير في عام 1991 ثم معاصر عاصم ومحجوب للزيوت في نفس المنطقة.وفى عام 1998 بدأ في انشاء أكبر مطحن للدقيق آنذاك سماه "مطاحن نورتى"، ونورتى تعنى الدقيق باللغة النوبية، بتمويل من أحد البنوك الكينية ثم تعطل المشروع لفترة طويلة بسبب مشاكل بنكية مع الحكومة السودانية الا أن عاصم بذل مجهوداً شخصياً كبيراً واستطاع أن يحل المشاكل والآن البنك الكيني يعيد النظر في الاستمرار في تمويل هذا القطاع الحيوي وقد كان هذا المشروع هو حلمه وشغله الشاغل في الفترة الأخيرة، فنرجو أن يتحقق حلمه هذا على يد أبنائه النجباء خاصة وهم جميعهم طرقوا أبواب الأعمال الحرة.
المؤمن مصاب...ففى عام 2001 أصيب عاصم بمرض عُضال قال عنه كبار الأطباء في لندن أنه لا شفاء منه بل ذهبوا أكثر من ذلك وقرروا له أن حياته محدودة بأشهر معدودة.فعاد الى السودان وكأن شيئاً لم يكن فقد كان مؤمناً بقضاء الله وقدره فعاش حياته بكل تفاصيلها ومسئولياتها تجاه أسرته الصغيرة والكبيرة حتى اجتماعياته حافظ عليها رغم جسده النحيل المنهك وكانت اخر مهامه الاسرية أن وقع على عقد زواج"سجود" ابنة أخيه دكتور عادل في نوفمبر الماضي وكيلاً عنها..حقاً لم أر شخصاً بشجاعة عاصم في مقاومة مرض لا شفاء منه طوال أربعة عشر عاماً بل العجيب أنه كان يحكى دائماً بصراحة أن هذا المرض قد رحمه وأمهله سنين طويلة كان يعتبرها زيادة في عمره ويحمد الله على ذلك.كان شجاعاً حتى في مرضه وموته.
كانت آخر وصايا عاصم وقبل أن يشتد عليه المرض أن أيامه أصبحت معدودة ويفضل أن يدفن بمقابر فاروق جوار قبر والده ووالدته وأعمامه، ونفذت وصيته ورقد بجانبهم. فيا عاصم اذا كانت روحك في السموات العليا تسمعنا الان فقد غبتَ عن اسرتك الصغيرة والكبيرة وهم في أمس الحاجة لقيادتك والى كلمة الحق التي كنت تقولها ولا تتنازل عنها لو انطبقت السماء على الأرض،هذا كان أوانك فقد ضاعت كلمة الحق بين الناس بل ضاع الحق ذاته،غبت عن زوجتك المكلومة رفيقة دربك لأكثر من ثمانية وأربعين عاماً،غبت عن الاسرة وابنك البكر وليد ينتظرك أن تزفه بالعديل والزين الشهر القادم،غبت عنهم فمن يحل محلك ومن القدوة،غبت عن الحبوبات فمن سيزورهم ويسأل عنهم،غبت عن زملائك فمن بعدك يجمعهم ويبث فيهم الأمل والحماس في الحياة، غبت وستغيب عنى، اذا أطال الله في العمر،حيث كنت أصادفك دائماً في عاصمة الضباب وأنت في رحلات العلاج..أزورك وبصحبتي الأخ شيخ ادريس مبارك فتحكى لنا برنامج علاجك الطويل، فنخفف عليك قليلاً ثم نشفق عليك من تعب الجلسة ونغادر مسرعين لترتاح..ويا حسرتي.. ففي زيارتك الأخيرة في أكتوبر الماضي لم تسمح لى الظروف لمقابلتك، كما العادة،لكن عزائيأننيفي طريقي للمطار مغادراً تحدثت معك ومع زوجتك هاتفياً فطمأنتني كما كنت دائماً تفعل،فودعتك مطمئناً... وما دريت أنه كان الوداع الأخير.
عندما توفى المرحوم محجوب عام 1986 فاض الحزن بشقيقه المرحوم سيد، فبكاه بكاءاً مراً فاق بكاء الخنساء على أخيها صخراً، ووصفه،فيما وصف، بعمود البيت الذى تكسر واصبح ركاماً، فأمسك به شقيقهما الاكبر المرحوم جمال وضمه اليه قائلا له "يا شقيقي الباقي كُف عن البكاء وأحفظ قواك فأمامنا شغل..." ولم نفهم كلمة شغل آنذاك لكن فيما بعد عرفنا أنه كان يقصد مسؤليتهما معاً تجاه أبناء وبنات المرحوم محجوب،وكما تعلمون فقد هجم النظام العسكرى الحاكم الانعلى أسرة المرحوم محجوب في ديسمبر عام 1989 هجمة شرسة و قتل ابنهم الشاب الشهيد مجدى محجوب ظلماً وبهتاناً حين تعدوا واعتدوا على منزلهم في حي الخرطوم 2 وعثروا على حفنة من الدولارات كانت محفوظة في خزانة والدهم كجزء من مال الورثاء ثم ألصقوا بمجدي تهمة الاتجار في العملة، من عسكري كنيته "دولار" انها سخرية الاقدار، ليكون ضحية عنتريات عسكر جوفاء وها هي لعنات مجدى تطّوق النظام الجائر من كل الانحاء، وحتماً سوف تطال هذا التائب العائد الى الحظيرة..الشاهد هنا.. أما كان جمال محقاً عندما قال لشقيقه "أمامنا شغل؟"وكأنه كان يعلم ما تخبئه الأقدار وما تدبره الأنظمة العسكرية المستبدة والغاشمة تجاه أسرة محجوب بل تجاه الشعب السوداني قاطبةً.يا إلهى..ما أشبه الليلة بالبارحة..فيا أخي عادل..أمامك شغل كبير تجاه أسرة عاصم،فامسك بناصية الركب يعينك، بعد الله،شقيقاك عارف الواثق، وعاطف العطوف.
عاصم انسان نادر لن يكرره الزمان مرة أخرى ولذلك لا أستطيع أن أكتب عنه كما طلب منى ابني محمد، فصرت بين أمرين أحلاهما مرٌ،فاذا كتبت سوف لن أوفيه حتى اليسير من حقه، وإذا لم أكتب فقد أكون قد ظلمته بل ظلمت الأجيال القادمة من خير قدوة...وأكتفي بهذه اللمحات من المضيئة من سيرته العطرة وأقول له وداعاً أيها الحبيب والأخ والصديق المقدام والمعلم وما علينا جميعاً الا أن نمتثل بأبيات شعر صارت أنشودة:
نم قرير العين يا أقسى فراق
لجوار الرب طاب الالتحاق
كل ما في هذه الدنيا يزول
ليس في العالم غير الله باق
أجزل الله ثوابك يا عاصم يا من أبتليت بالمرض الشديد فصبرت وشكرت وتحملت الآلام والأوجاع بنفس راضية ولسان شاكر حامد لله بما قدره الله عليك من البلاء والمرض، فاللهم أجعل مرضه كفارة لجميع ذنوبه واجعل آخر عذابه عذاب الدنيا. ودعواتنا لأهله وأصدقاءه ومحبيه المكلومين في كل مكان الصبر والسلوان والرضاء بقضاء الله وقدره، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.
شوقى محى الدين أبوالريش
الدوحة- قطر
31 يناير 2015
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.