ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    الصليب الأحمر الدولي يعلن مقتل اثنين من سائقيه وإصابة ثلاثة من موظفيه في السودان    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    شاهد بالفيديو.. في مشهد خطف القلوب.. سيارة المواصلات الشهيرة في أم درمان (مريم الشجاعة) تباشر عملها وسط زفة كبيرة واحتفالات من المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أيام الطيب صالح (1): (كُلُّنا في النهاية نسافر وحدنا) .. بقلم: المحبوب عبد السلام
نشر في سودانيل يوم 14 - 03 - 2015


بسم الله الرحمن الرحيم
أيام الطيب صالح (1)
(كُلُّنا في النهاية نسافر وحدنا)
كُنّت قبل أعوام قد كتبت تحت سماء الخرطوم المُرّصع بالنجوم: (الطيب صالح كما هو شفقياً وشفيفاً كغمامة) أستعير العبارة من الفيتوري، و أستعيد ساعات قضيتها في حضرة الأديب بلندن .. و الآن في هذه اللحظة أرى بعينين تبصران الماوراء .. و أستدعي الفيتوري ثانية (لن تُبصرنا بمآٌقٍ غير مآقينا .. لن تعرفنا ما لم نجذبك فتعرفنا و تكاشفنا)، الفكرة تتجّلى في إنسان ما يزال و هو في بشريته يَشُع بإيحاءات الغمام .. السّاعة نحو التاسعة مساء ً و ليل لندن يشرع في بسط ظلاله الموحشة، و الطيب صالح بلحمه و دمه على أريكة مظلة صغيرة هيئت للناظرين الحافلات و في مدى النظر على بعد لا يتجاوز بضع أمتار أبصر أعمدة الحكمة السودانية الثلاث في هذه الغربة تجسدوا أيضاً بشراً من لحم و دم، أعرف هذه الاضواء و أراها تحثّ الخطى داخل (البالطو) الشتوي السابغ .. لا ريب أنهم هم الأستاذ محمد الحسن أحمد و الأستاذ محمود صالح عثمان و الأستاذ حسن تاج السر، و لا ريب أنهم ودعوا الغمامة قبل قليل، و لا ريب أنه ألحّ عليهم أن يواصلوا سيرهم و يتركوه وحده ينظر في أرقام الحافلات ينتظر خاصته. إنتصبت أمامي فرحة المفاجئة و لاح أمامي همّ .. قطعاً سيفيض علىّ إلهام الدقائق المقبلة و لكن كيف يوآنس الغمام ريثما يصعد إلى الحافلة؟!
كنت حريصاً أن أُدرك إفتتاح المعرض و لكن حبسني حابس الأرزاق. الفنانة صاحبة المعرض هي من بنات الأخت لشيخنا محمود صالح عثمان صالح، ثم هي كريمة صديقنا القديم عثمان بابكر .. وددت لو أنّي شاركت في المناسبة تحيّة لتلك الذكرى الجميلة .. صديقنا عثمان من عائلة عثمان صالح الأعرق في أمدرمان و له بالطبع نسبٌ مؤكد لكيان الانصار و حزب الامة .. كان أول من يشهد مناشطنا الأشق في برنامج الاخوان .. يأتي أول ليلة الجمعة قبل صلاة العشاء حيث تبدأ فور إنصراف المصلين ما كنا نسميه في ذلك الزمان (بالكتيبة)، و هي لم تكن تعني إلا إقامة الليل في تلاوة القرآن و الصلاة .. كنا قلة مستضعفة و مُضَيّقٌ عليها لأقصى حد بعد فشل إنقلاب المقدم حسن حسين في سبتمبر 1975م، كُنّا تلامذة في أول المرحلة الثانوية و كان هو في شرخ الشباب ثري و وسيم و أنيق .. كُنّا نعلم أن خاله الشيخ توفيق صالح عثمان صالح معتقل في ذات السجن مع الشيخ حسن الترابي و الشيخ ياسين عمر الامام و الشيخ توفيق طه، لكن ذلك وحده لم يكن سبباً كافياً أن يبدي لنا كل ذلك التضامن .. كان لا يقنع بتشجيعنا و لكنه يعزم علينا حتى نكمل خمسة أجزاء من الكتاب الكريم قبل آذان الفجر .. إبتسم الأستاذ الطيب صالح و قال: أنا كتبت عن هذه الروح المتسامحة المميزة لأهل أمدرمان و التي كأنما إستجمعتها من كل أنحاء السودان ثم فاضت بها عليهم .. لكن جماعتكم هؤلاء جماعة الخير طفقوا في حماس و همّة يبددون كل ذلك) .. نجحت إذا و لو قليلا في تسلية الغمام و قد وصلت الحافلة.
أفقت من الحضرة و الحضور و عادت شوارع لندن من جديد تعلن عن أمسياتها الموحشة .. هذا شارع ويست بون قروف و على بعد خطوات تقاطع (كوينز وي) الذي ينتهي وشيكاً عند شارع (بيز وتر) قبالة (هايد بارك) حيث جلست للغمامة اخر مرة .. طالعت من جديد الملصق الذي يعلن عن معرض الفنانة التشكيلية السودانية الشابة على مدخل القاعة التي تحمل إسم (الكوفة)، و التي هي بعض إمتداد لمكتبة (الساقي). أضحت الساقي معلما يرمز للثقافة العربية في لندن، و هي أيضاً دار نشر للكتاب قد تكون الاشهر في العالم العربي، اللبنانيون لا يقنعون بالواحد و لا يرضون إلا بالكبير، أو كما غنت (فيروز): بيقولوا صغير بلدي .. يا صغير و كبير .. يا زغير وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي. هكذا كلما جئنا على ذكر اللبنانيين و الساقي و كثيراً ما نفعل كان الطيب صالح يذكرني بما كتب عن شعب لبنان و عن شعب السودان، إنه يرى روابط بين هذين الشعبين و يأسّى لهما على نحوٍ خاص. فالسودان هو بلده الذي عَبّر أكثر من مرة أنه لا يمتن عليه بشيء لأنه ذرة من ترابه، رغم أنه لم ينل منه ما ناله أغلب مجايليه من السودانيين .. لم يذهب ممنوحاً في بعثة دراسية و لم يعمل طويلاً لدى حكومة السودان و لم يتزوج من سودانية و مع ذلك لا سبيل للمَنِّ على الوطن. أما لبنان حيث نشرت أعماله الادبية أول مرة و حيث ذاع صيته و أنتشر أسمه مثل ضوء النهار في عالم العرب من عمان الى القيروان وفق تعبيره. يقول الطيب صالح: مبعث أساي على شعب لبنان و شعب السودان هو الناس الطيبين البسطاء في كلا البلدين الذين لا يريدون علوّاً في الارض ولا فساداً .. يكدون ليل نهار من أجل اللقمة الحلال و هم يقدمونها للأبناء و الأهل عن طيب نفس، هؤلاء الطيبون يدفعون ثمن حماقات الساسة و طموحات الكبار و صراعاتهم جميعاً في سبيل القوة و المجد .. تطحنهم الحرب الاهلية كل يوم بالجوع و النزوح و الامراض و الأوبئة، قليلون في هذه النخبة مثل حمد ود حليمة في (مريود) عندما دعته نفسه للمجد زجرها.
***
لسبب ما لا أعرفه إعترت صديقنا الدكتور مجاهد الحسن سكينة و هدوء رغم طبع له مشهور بالحماسة المفرطة و الانفعال في أيّما نقاش خاصة اذا كان موصولا بشؤون السياسة أو شؤون الفكر. الجلوس أمام الطيب صالح يُنزل على الناس (ذوي الحسّ) كما يقول جمال محمد احمد، أمنّاً و طمأنينة، فرغم أن صديقنا الطبيب بعيد عن مجالات فنّ الرواية و نقدها فانه محب للموسيقى و موصولاً بالسياسة و الفكر .. لم أفق من عمق ذلك السكون إلا بصوت الطيب صالح يفجر عمقا آخر بكلماته التي تمشي الهوينا:
- بعد مائة عام من الآن إذا تأملنا تجربتكم في حكم السودان .. ما هو المجيد و البطولي فيها؟
إختار الاديب الكبير أشد الأوصاف الانجليزية قوة و مباشرة: ما هو ال Heroic.. و لأسباب أخرى اعمق من يُدرك كنهها، كان الطيب صالح –كذلك- في مزاج رائق و نفس متصالحة و هو يتأمل خلف نظارته السميكة المشهد الهاديء، و كذلك لأسباب لا أعيها واتتني اللحظة و جاءني الرد هادئاً :
- لو طرحت علي السؤال قبل سبعة أعوام من يومنا هذا كنت سأستفيض في الرد، كنت سأقول لك أنهم كانوا بضع أفراد لأول تاريخ هذه الحركة، و كانوا في أضعف حلقات النخبة، بمعنى أنهم كانوا طلاباً في المدارس الثانوية ثم في الجامعة، و عندما دخلوا السجن مع إنقلاب النميري في 1969م تركوا خلفهم تاريخ من نائبين أو ثلاثة نواب في البرلمان، و عندما عادوا في 1986م الى ذات القبة كان حصادهم نحو 53 نائباً، أي أن الحزب الأكبر في تاريخ السودان زاد عليهم ببضع نواب، فالاتحادي كان له واحد و ستين نائباً. حدث هذا في أقل من عشرين عاماً، كانت رؤيتي قبل أعوام أن البطولي أن تشق جماعة على هامش الحياة طريقاً جديداً في تربة تقليدية صلدة و تعيد تركيب معادلات السياسة. كان السودان كأنه موزع بالقسط بين طائفة الختمية و طائفة الأنصار و خرج من بيوتهم جيل جديد شق طريقاً جديداً.
أغراني الصمت الكبير و التأمل المهيب و رأيت طيف السكينة ثانيةً خلال الدخان المتصاعد، فاستأنفت حديثي:
- أعلم أنك تقصد (البطولي) في تجربة الدولة، و كذلك اذا سألتني السؤال قبل بضع أعوام، كنت ساقول لك أننا أخذنا الحكم إنقلاباً و إستلاباً بالقوة، لكننا أنقذنا بلداً من التمزق، ثم في بضع أعوام أوقفنا زحف تمرد شرس كان يريد أن يقسم البلاد، و أننا طبقنا نظاماً اتحادي في بلد مترامي الأطراف كانت كلمة الفيدرالية بمثابة (تابو) لدى آبائه الوطنيين المؤسسين، و يمكن أن أذكر إنجازات أخرى غير ذلك قد تلحقنا (بالمجد) أو (البطولات) كما سميتها، لكنني اليوم و بعد مكابدة عشر سنين مع الحكم أجد في نفسي التزام تام تجاه قضية الحرية، و هو في جوهره التزام فكري موصول بالضمير (INTELECTUAL)، أقايس به حتى سابقات التاريخ الاسلامي و انظر به لمنجزات ما عرف بالحضارة الاسلامية، و رغم إستصحابي للسياقات التاريخية و النفسية لتلك المرحلة من تطور الانسانية، فإني أعجب من السنوات القليلة التي كان الحكم فيها يسمى راشدا .. عندما عدت الى السودان من فرنسا كنت على إطلاع وافٍ على (ميشيل فوكو) و كنت على قناعة لا بأس بها من نجاعة منهجه الذي يفكك الخطابات ليرى ما هو (أيدلوجي) أو ما هو (سياسي) موصول بالانحيازات و الإكراهات و الطموحات الشخصية، لكني لم أطبق المنظومة المنهجية التفكيكية على الخطابات التي كنت أنتمي إليها، و لذلك كتبت في مقال لي نشر في جريدة الحياة قبل أسابيع أنني ألوم نفسي بسخاء في ذلك كما يقول إدورد سعيد، و أنني أشعر بالخجل من نفسي و من الآخرين أنني أوليت أولئك النفر كل تلك الثقة لكل تلك الفترة الطويلة .. أكملت مرافعتي و الأديب الكبير ما يزال غارقاً في صمته، ثم لعلني أفلحت في توجيه نظره ناحية أخرى، أو لعل روح الفنان قد غلبت على رؤى المفكر، أي غلبت الفكاهة على الصرامة كما يفعل الفن دائماً وفقاً لميلان كونديرا، و سمعت الصوت العميق يأتي من مكان آخر غلبت فيه المودة على أسئلة البطولة و المجد:
- في طريقي اليكم قابلت واحداً يبدو أنه من جماعتكم إستوقفني بصحبة زوجته أمام (الوايت ليز) و حيّوني بمودّة بالغة و عبروا عن سعادتهم برؤيتي.
قلت: نعم هو طبيب من جماعتنا.
عندها تنهد الأديب الكبير و أرسل تعليقه الذي سمعت الكثيرين يَقصُّونه بعد ذلك و كان قد سارت به الركبان:
- يا أخي جماعتكم ديل يحيروا، مثلاً أنت و عبد الوهاب الافندي أعرفكم من مدة طويلة و أرى انكم ناس جيدين جداً، ثم عرفت مهدي ابراهيم و غازي صلاح الدين و قبلكم كنت صديق لمحمد يوسف محمد و أحمد عبد الرحمن، أنتم واحداً واحداً ناس كويسين، ما الذي يحدث إذن عندما تجتمعون..
قال الاديب كل ذلك بروح الفن و أدخلني في حالة المرح الذي تُحييه فكاهة المفارقة و طفقت في الضحك الداخلي بلا صوت قبل أن يوالي الأستاذ خطوات العودة الى الفكر و الجدية:
- أنت قوّمت المجد و البطولة بالموقف من الحُريّة و أنا أوافقك على ذلك، لكن تذكر أننا تناقشنا من قبل حول كتاب (الهوية الفرنسية) ل فرناند برودل و أني أوصيتك بأن تبعث بنسخة الى شيخ حسن.
- نعم فعلت
- إنني حتى قبل أن أقرأ هذا الكتاب أعتبر أن المكان شيء أساسي، فرنان برودل قرأ هوية فرنسا في ضوء المكان و الجغرافيا، نحن في السودان قدَّر الله لنا أن نكون في طرف العالم الاسلامي، أنا قلت أكثر من مرة أننا لسنا مثل العراق أو سوريا أو الجزيرة العربية أو حتى مصر، لو أراد الله لنا أن نؤدي دور القيادة لكُنّا هنالك. أشار برودل –كذلك- الى دور الاطراف في صنع الهوية الفرنسيةThe peripherique) )، كلها كانت ترفد القلب فيزداد ثراءً، و عبر تاريخ طويل من هذه العملية الهادئة تكونت هويّة فرنسية .. يا أخي أنا و الله أستغرب جداً في شخص يستيقظ مبكراً و يعتلي دبابة و يقول أنه يريد أن يحكم و أن يُغيّر البلد، حتى الذي يقول أنه يريد أن يحكم الناس بالشريعة أقول له أن الله – سبحانه- هو الذي يقدر ذلك لو أراد للناس أن يتحاكموا بالشريعة. فالمكان له منطق قوّي تَكوَّن عبر القرون ولايمكن لشخص أن يأتي و يقول أنه يريد بقرار سياسي أن يُعيد صياغة هذه المسألة. نحن في أطراف العالم العربي و دورنا هو أن ندخل بينهم بالحسنى و أن نتوسط كما فعل محمد أحمد المحجوب بعد نكبة 1967م، كان كل الزعماء العرب في بيته و هو رجل عظيم فتوسط بين أكبر زعيمين –يومئذٍ- في العالم العربي و أنهى قطيعة طويلة بين الملك فيصل و الرئيس جمال عبد الناصر رحمهم الله جميعاً. السياسة أخذت عباقرة السودان فلم ينتفع السودان منهم كما ينبغي. الترابي من عباقرة السودانيين و كذلك محمود محمد طه و الصادق المهدي و منصور خالد، وحده المحجوب كان يعتبر نفسه شاعراً أولاً حتى و هو منخرط الى أعماقه في السياسة حتى و هو منشغل بها عن كل ما عداها.
***
أعاد إلي ذلك اللقاء الهاديء المحفوف بالسكينة ذكرى لقاء آخر مع الأديب الكبير. كانت حالة نادرة خرج فيها الأستاذ عن صمته و كأنه يستدعي كل ما في نفسه من شراسة، أو لعله أراد أن يصفي حساب له قديم مع الشيخ حسن الترابي. أختار الأستاذ مناسبة غداء دعانا إليه الأستاذ حسن تاج السر في فندف (كمبرلاند) ناحية (ماربيل آرش)، على شرف قدوم الأستاذ غازي سليمان الى لندن بعد فترة إعتقال قاسٍ تعرض له، فكانت السياسة بالطبع أول طبق نضعه على نحو تلقائي قبل أن تتوافد على المائدة صنوف الطعام. همز هامزٌ في نفس الطيب صالح فتدفق موجات من الهجوم، و نحن في العام الثاني أو الثالث من الألفية الجديدة و قد غادر الشيخ الترابي السلطة الى محابسه يلبث في السجن منذ بضع سنين:
- أعرف الترابي من قديم، أذكر أنه جاء الى هنا و قد تزوج حديثاً الى السيدة وصال المهدي و علمت من شقيقها عصام –رحمه الله- بذلك و قد كان مقيما بسويسرا. أذكر أن دعوتهما الى غداء أو عشاء و كان الرجل يبشر بأملٍ ما، لكني قابلته بعد ذلك و لم أر فيه حتى تواضع المسلم. قابلته في عمان بالاردن بين مجموعة من الإسلاميين من الاردن و فلسطين و غيرهما. كانوا يسألونه عن السودان و إلاسلام و كان يجيب، كانوا جميعاً ذوي أجسام ممتلئة و كان الترابي وسطهم نحيلاً لا يكاد يبين، و كنت أقول في نفسي كيف لهذا النحيل أن يأتي بلإسلام و الخلافة لهؤلاء السِمّان، لعلهم كانوا يسخرون من ذلك و كان هو مصدق ..
يضحك الاديب الكبير ضحكة خبيئة ممزوجة بسخرية لا تخفى و يواصل هجومه الضاري :
أنا كتبت لإخواننا هؤلاء أنهم لو سألوا راعياً للإبل في سهول البطانة أو راعياً للضأن في سهول الكبابيش لقال لهم إن الامر أسهل مما تظنون و أصعب بكثير مما تظنون. .
إلتزمت الصمت التام يومي، و لم أشأ أن أرد هجوم الكاتب الكبير أو أجيب عليه بأي صورة من الصور، فظل المسرح خالياً من مبارز آخر يقارع ضربات الأستاذ القوية أو خبطاته الناعمة .. إلا من تعليقات أستاذنا الكبير محمد الحسن أحمد عليه رحمة الله و هو دائماً لا يخشى في الحق لومة لائم :
- و الله يا الطيب إلى أن خرجنا من السودان كان الترابي أشد السياسيين تواضعاً، نزوره في بيته أو نذهب الى مكتبه في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار فلا يصدنا صاد أو يمنعنا مانع .. ندخل عليه و نجادله في كل الامور ولا نستشعر حرجاً.
لم يتدخل متدخل من الحاضرين سوى ذلك، و سوى نظرات متصلة من الاستاذ غازي سليمان ضيف الشرف توميء عن حرجه من الموقف و عدم رضاه، و كان ذلك كافياً لي في تلك اللحظة من ذلك اليوم. و بعد أكثر من عامين و في منزل الأستاذ حسن تاج السر بعد إفطار رمضاني إبتدرني الاديب الكبير و كأنه يعتذر عن ذلك اليوم:
- يا محبوب في تفسير الترابي للقرآن هل مررتم على سورة يوسف؟
- نعم.
- كيف فسرتم طلب يوسف من إخوته: (أئتوني باخٍ لكم من أبيكم) .. ألم يستغرب إخوة يوسف أنفسهم من الطلب و يسألوا كيف عرف يوسف و قد أصبح (العزيز) كيف عرف أن لهم أخاً من أبيهم لم يأتِ معهم؟
- نستصحب دائماً في تفسيرنا لقصص القرآن، أن القرآن ينشد العبرة و الموعظة و الاسوة و القدوة و ليس الحكاية و عندما تثور مثل هذه الاسئلة نعمُد الى تصور ربّما يساعد على ملأ الفراغ في أذهاننا، مثلاً نتوقع أنهم قدّروا أن العزيز ربما عرف من حديث له مع أهل القافلة القادمة معهم من ديار يعقوب، و أن يوسف بما رأوا من حسن أخلاقه رُبّما يسأل لأنه ظن أنهم منعوا أخيهم من صحبتهم لأنه من أبيهم.
- ثم القرآن لا ياتي على كثير من التفاصيل .. أعتقد أن الترابي و قد بلغ مرحلة تفسير القرآن سيعيد النظر في كثير من المواقف و الأفكار .. أنا قابلته في عمان بعد إنقلاب الانقاذ و تحدثنا قلت له السودان لا يمكن أن يقود فنحن لسنا مكة و لا دمشق و لا القاهرة و لا بغداد نحن أطراف العرب.
- نعم ذكر لي الشيخ ذلك.
- بالله ماذا قال؟
- قال أن الطيب صالح قال له السودان في هامش الدول العربية و لا يمكن أن يقود و أنا قلت له أن مكة كانت مستضعفة و العرب كانو على هامش الحضارة و تغيروا بعد القرآن، و أن الطيب صالح قال لي بأي حق أنتم اليوم تحكمون الشعب السوداني، و أنا قلت له بأي حق جاء الانجليز الآف الأميال و حكموا السودان؟
إبتسم الأستاذ الطيب صالح إبتسامة كبيرة و قال بمرح:
- بالله الشيخ ما يزال يذكر ذلك اللقاء.
أيام الطيب صالح (2)
كلنا في النهاية نسافر وحدنا
يختار الطيب صالح مباغتة يستهل بها الحديث كُلما لقيته، أذكر تلك المرة في ذات منزل الاستاذ حسن تاج السر و قد كان الحضور أكثر من المعتاد قليلاً. على مدى عامين كان ذلك المجلس يضم الأساتذة الاجلاء محمد الحسن أحمد و بونا ملوال و عبد الوهاب الافندي و الصحفي الراحل حسن ساتي رحمة الله، ثم أيَّما زائر يجود به صيف لندن و قد كان ذلك الصيف مِجوّاداً بوجوه كريمة، أذكر منهم الاستاذ الشاعر الدكتور علي شبيكة و الاستاذ السر قدور و الدكتور جعفر كرار. لا أدري لماذا اختار أستاذنا الطيب صالح ذلك الإستهلال:
- يا محبوب هل سمعت قول الحجاج بن يوسف (اللهم أغفر لي و قد زعم أُناس أنك لن تفعل).
غلبت ضحكتي المباغتة الأستاذ و أنا اتأمل عناصر المفارقة المجتمعة في مقولة الحجاج و مقدار السخرية حين أناسبها إلى حالتي من سُلالة الحجاج المعاصرين، ثم خطر لي أن أصرفه إلى موضوع آخر:
- كيف هي الصحة؟ لعلها بخير.
- الحمد لله، بعد السبعين الناس دائما تسأل عن الصحة.
- أقصد العصاة.
- نعم هذه تتوكأ عليها الرِكبَة تحتاج لسند.
كانت تلك أول مرة أسمع كلمة الرِكبَة بكسر الراء و سكون الكاف و الباء المفتوحة، و قبل أن استرسل في خاطرة اللغة، واصل الأستاذ و هو يحكم القبضة على العصاة و يهزها هزاً خفيفاً:
- العصاة أحياناً يقولون الصولجان ..تصلح للحكم أليس كذلك؟
لفظ عبارته الاخيرة و قد بدت منه ابتسامة ظاهرة تعلن بوضوح عن النية المضمرة من السخرية .. ثم رأيت أن أرد مخاطباً تلك البواعث الظاهرة و الخفية:
- أرى يا أستاذنا أن الحجاج ربما أصاب في دعائه، فالرحمة و المغفرة مثل أمور الملك و الحكم موكلةٌ أقدارها الى رب العالمين و ليس لأحدٍ من العالمين. عادت الجدية إلى ملامح الاديب الكبير و دخل من فوره إلى جوهر الموضوع:
- نعم و الله يا أخي .. تذكر أني حدثتك من عجبي لإنسان أو جماعة تستيقظ في الليل و تمسك بمقاليد الامور عنوة و تعلن أنها تريد أن تحكم و أن تصلح.
أردت أن أحفزه أكثر للحديث في ذات السياق:
- أعتقد أن أغلب هؤلاء الذين يستيقظون من منامهم ليحكموا الناس، إنما يوقظهم هاتف من غيرهم، ربما حزب أو ربما أيدلوجيا، زعيم طموح، يهمس لهم بوعود المستقبل و أحلام جنّة الأيدلوجيا أو رجاءات المشروع الحضاري، و هم في الآخر لن يعدموا خطاباً و لن تعوزهم حجة.
أجاب الاديب الكبير على الفور:
- نعم أنا كتبت ذلك عن النميري، قلت ربما لو لم يستجب لذلك النداء، كانت الامور ستمضي به رخاءً، كان سيصبح قائداً للجيش و عندما يبلغ السن القانونية يذهب الى المعاش معززاً مكرماً، لكنه ظن أنه مبعوث العناية الإلهية للشعب السوداني و أن أقدار الله بيده، فراح يخبط خبط عشواء مثل ثور داخل مستودع للخزف مليء بالقطع النادرة الجميلة، كنت أقول حتى الذين يقولون أنهم يريدون تطبيق شرع الله كيف عرفوا أن الله سبحانه و تعالى أراد أن يطبق شرعه في هذا الوقت بالذات و بهذه الطريقة.
في ذلك اليوم أيضاً أخذنا الحديث لزعيم آخر، السيد الصادق المهدي:
- السيد الصادق المهدي في روايته لسيرة حياته في حلقات مطولة مع الصحفي اللبناني غسان شربل الذي نشر مقابلات حول حياة الزعماء الذين جمعوا بين الساسة و الدين، و قد اختار شخصية السيد الصادق المهدي بعد النجاح الذي قوبلت به حلقاته مع الشيخ محمد حسين فضل الله بمجلة الوسط. قال السيد الصادق أن حياته بلاء، و أنه ولد في الخامس و العشرين من ديسمبر و أن عمه يحيى الذي كان في الثامنة من عمره كان يشير إلى بطن أمه و يقول أن مهاجر سيصل يوم الاربعاء و عندما كان يسأل من أين يصل كان يقول مهاجر سيصل من كبكابيه ، و أنه فعلاً ولد يوم الأربعاء، و عندما حمل نبأ الميلاد الى جده السيد عبد الرحمن و قد كان يقرأ في سورة ابراهيم من المصحف، فجاء طائر القمرية و حطّ على رأسه، و قد نوى الامام عبد الرحمن أن يسميه إبراهيم تيمناً بالسورة، لكن أحد الزوار أشار إليه أن يسميه بأحد أسمائه و قد كان.
رأيت رواية الامام و قد أخذت الاديب الكبير إلى تأمل عميق لم يلبث أن شق صمته الصوت العميق مثل أمواج البحر:
- هؤلاء الناس ولدوا في بيئة مليئة بالمثيولوجيا.
حاولت المحافظة على وتيرة العمق الذي خرج به تعليق الاستاذ:
- كلنا ولدنا في بيئة مليئة بالمثيلوجيا، و الدليل روايات الطيب صالح، أنت قلت أنك في عرس الزين ثم في بندر شاه و مريود سبقت جماعة الروائيين من أمريكا اللاتينية أمثال جبريال ماركيز الذين تنسب إليه إبتدار و إضافة الواقعية السحرية لعالم الرواية، فالواقعية السحرية جذورها في البيئة التي تزخر بالمثيلوجيا.
- نعم أنا ربما سبقت في ذلك بعقود، و أيضا قلت أن الاغريقي و ربما الاوربي المعاصر يجد ملاحمه في الإلياذة و الأُوديسا، لكني وجدت ملاحمي الاولى في جماعات المادحين لسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، نحن أطفال كانوا يطوفون القرى في الشمالية بملابس زاهية و لكن بأيقاعات تنفذ الى القلب، عندما يضرب المادح الطار تستشعره في قلبك، ثم القصيدة المادحة التي تحكي لك المغازي و السير في ذلك المناخ المهيب.
- و قلت أيضاً في زيارتك للحرم المكي و الحرم المدني: رحم الله حاج الماحي أراه و اسمع صوته كلما زرت هذه البقاع المباركة ..
- نعم نعم ، حاج الماحي القائل يصف بلح المدينة (أدوني تفاحتين بلح).
- نعم أنت كتبت ذلك و ذَكَّرتني بأبيات أحبها لنزار قباني حيث يقول: و أن يكون قلب الشاعر تفاحة يقضمها الاطفال في الأزقة الشعبية.
- نزار هذا شاعر، كلما لقيني يطلب مني أن أقرأ له من شعره، يحب أن يسمع شعره بصوتي و أنا أحب أن أقرأ شعره.
***
لم ألبث حتى جاءني الصوت هذه المرة عبر هاتف:
- السلام عليكم، معاك عمك الطيب صالح.
- مرحباً يا أستاذنا.
- مازلت تسكن ناحية نوتنغ هل قيت.
- نعم حيث كنت.
- غداً سأنزل إلى لندن، سأذهب لجريدة الحياة، أريد أن أسجل إشتراك معهم حتى تصلني للبيت، لا أجد وقت كثير لقرآءة الصحف لكني مهتم بقرآءة مقال أدونيس فهو ينشر عندهم كل إثنين. ما رأيك أن نلتقي في (بيز وتر) نفس الفندق غداً في العصر.
- بكل سروري أستاذي إنتظارك في الثالثة هنالك.
لعل الاستاذ قد سبقني بدقائق إلى الفندق كانت كافية ليعدّ لي مباغتةً جديدة:
- هل سمعت يا المحبوب قول إبن سينا:
- حرمت الخمر على الدهماء و حللت لأبي الحسن – يعني نفسه، لو عملت لنا فقه كهذا نعينك على الفور إماماً.
أخذتني المباغتة إلى الضحك قبل أن أعرف الموضوع:
- كيف سارت الامور في جريدة الحياة؟
- لا .. جيدة، الجماعة استقبلوني بحفاوة و أخذوني إلى مكتب رئيس التحرير جورج سمعان و قابلت صديقكم نزار ضو النعيم، و رفضوا حتى أن أدفع قيمة الاشتراك.
- نعم نزار صديق قريب من قديم و له قصة مع اسمه في جريدة الحياة، أول ما عمل في هذه الصحيفة قبل سنوات إقترح عليه الاخوة اللبنانيين يختصر إسمه بدل نزار ضو النعيم إلى نزار نعيم، و لكنه إستعصم بأسم أبيه كاملاً و رفض التغيير البتّة.
- ليه يا أخي ضو النعيم إسم جميل..
ثم إستغرق الاستاذ في ثوانٍ من الصمت قبل أن يأخذني الى الضحك مرة ثانية:
- أنا طبعاً عندي ضو البيت.
- هل قرأت الخبر الذي نشرته الاهرام القاهرية قبل أيام أنك في رحلتك الاخيرة إلى القاهرة شرعت في كتابة رواية جديدة بعنوان (جبر الدار).
- بالله ياريت يا أخي الكلام دة كان يكون حقيقة، و قد جئنا قبل قليل على ذكر ضو البيت، و هي الجزء الاول من بندر شاه و مريود هي الجزء الثاني، و هي في تخطيطي لها مشروع ربما يأخذ اربعة أو خمسة أجزاء.
نجحت إذاً في أخذ الاستاذ الى عمق الموضوع و أردت أن يمضي إلى الاعمق:
- أنت يا استاذ في حديثك عن أسم بندر شاه قلت أن بندر ترمز إلى البندر التي تعني (المدينة) و كلمة شاه ترمز إلى (الحكم) أو (السلطة)، لان قضية السودان في تقديرك هي السعي للمدنية ثم البحث عن صيغة لحكم أنفسنا.
- نعم قلت ذلك، بل منذ دومة ود حامد و هي قصة أشار كثيراً من النقاد إلى أنها قصة سياسية، قلت أن المكان يسع الدومة و الباخرة و طرمبة المياه. هناك مساحة للجميع، لكن حتى الذين يأخذون السلطة بأسم العدالة و بأسم العمال و الفلاحيين لم يفوضوهم لذلك و لم يطلبوا منهم أن يتولوه إنابة عنهم.
أعادتني كلمات الأديب الكبير إلى مشهد في مريود من أشد صور الأدب التي تفيض بالسخرية و المفارقة و تدعوا إلى الضحك، لأني أؤمن مع ميلان كونديرا أن الفكاهة هي العمق الأعمق للرواية، و آثرت أن أستثير الاديب بكلماته:
- أنت قلت في مريود في سؤال على لسان أحد الفلاحين: إنت العمال و الفلاحيين ديل بلدهم – وين؟! و زيادة الانتاج دي شنو؟ و رد عليه الاخر: الانتاج ياهو السجم البنعمل فيهو دة و زيادة الانتاج يعني تخت السجم فوق الرماد. ثم جاء التعليق من أحد الفلاحين: ما دام ونستنا دي بقوا يجيبوها في الجرايد و الاذاعات، يمكن الحاصل دة خير.
- نعم هذا الذي أدعو له، رغم أن ذلك في مجمله كان تعليق على مناخات كانت تسود أيام النميري و ثورة مايو، لكني لا أرى أن من حق إنسان أن يدعي أنه يمتلك الحقيقة كاملة، أنا أدعوا للإعتدال و التسامح مع الاخر و على المستوى الشخصي أقبل الناس على علّاتهم.
شجعني الاستغراق النادر من الأديب الكبير في الحديث عن أدبه أن أُبحر معه إلى عمق جديد:
- أنت منذ عرس الزين كنت تدعوا إلى شيء من ذلك، حتى أن أحد النقاد وصفها بأنها (زغرودة طويلة للحياة) و لكني أرى فيها دعوة للتسامح.
- نعم هي دعوة للتسامح فالذي يصلي و الذي يغني و الذي يسكر كلهم يسعهم المكان إذا أتسع الوعي بأتساع القلوب.
لم أبرح حتى بثثت الاديب الكبير همي الاكبر.
- متى تعود لكتابة الرواية.
- عندي الرغبة للعودة للرواية و لكني كمن فقد الشهية.
- عندي رأي، إنك لن تعود إلى الكتابة إلا إذا عدت إلى كرمكول و عشت بين الفلاحين و تحدثت إلى بسطاء الناس ذوي الحس كما يقول صديقك جمال محمد أحمد.
صمت الاديب مليّاً، قبل أن يفاجئني بالرد.
- نعم ربما هذا أصوب رأي حتى أعود إلى الكتابة، كتابة الرواية.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.