روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة في الفكر الإسلامي "ثورات المتكلمين" .. بقلم: حسن سليمان قيلي
نشر في سودانيل يوم 04 - 04 - 2015


الملخص
أمام الانقسام الواسع في الأمة الإسلامية حول قضية الثورة والخروج على السلطان بين مختلف جماعات ومدارس المسلمين، تظهر الحاجة الملحة لدراسة تاريخ الجماعات الإسلامية وبوجه خاص مدارس المتكلمين في تاريخ الفكر الإسلامي المبكر لمعرفة مدى مشروعية الثورة والخروج على أئمة الجور وانحرافات السلاطين، ومدى أهمية الوقوف أمامهم ومحاولة ردهم إلى ما تريده الأمة من نمطٍ لسياسة أمرها وفق ما تراه وتريده. وقبل ذلك ضرورة إفساح المجال أمام أفراد الأمة لتحقيق خياراتهم وطريقة مشاركاتهم في الشأن العام. وأمام هذه المشكلة فإن الباحث قد ركز بصورة رئيسية على تاريخ الجماعات الإسلامية "الخوارج والشيعة والمعتزلة" التي تبنت مفهومات الثورة والخروج على السلطان
الكلمات المفتاحية: الفرق والجماعات ألإسلامية، الثورة و الخروج على السلطان.
ABSTRACT
. In front of the wide divide in the nation on the issue of the Islamic Revolution to the Sultan and out among the various groups and Muslim schools, show the urgent need to study the history of Islamic groups, particularly schools of speakers in the early history of Islamic thought to determine the legitimacy of the revolution and out on the injustice and the imams of deviations of the sultans, and the importance of standing in front of them and try their response to what you want the pattern for the nation of her policy according to what you see and want. Prior to that, the need to make room for members of the nation to realize their choices and how their participation in public affairs. Faced with this problem, the researcher had focused mainly on the history of Islamic groups "Kharijites, Shiites and Maat
Key words: teams and groups, Islamic Revolution and exit to the Sultan.
* دكتوراه فلسفة التاريخ رئيس قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة الخرطوم
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مقدمة
تستهدف هذه الدراسة مقاربة قضية من أشد القضايا المؤثرة في الراهن العربي الإسلامي، وهي قضية الثورة على أنظمة ومؤسسات الحكم وأشكاله المختلفة، ومدى المشروعية الفكرية لهذه الثورات وفق المنظور التاريخي للفكر الإسلامي، إذ أن الفكر الإسلامي بتحالفٍ بين الفقهاء والسلاطين وعبر قرون من الزمان سادت فيه مقولات عدم الخروج على ولي الأمر بل طاعته مهما بلغت ظلامات الأنظمة المتنوعة والمتعددة. إلا أن تراكم المظالم وضياع الحقوق الذي أدى إلى تفجر ثورات ما يسمى بالربيع العربي، أعاد النقاش وفتح أبواب الحوار حول مدى مشروعية الثورة أو الخروج على ولي الأمر، لذا ذهب الباحث إلى تاريخ الفكر الإسلامي منقباً ومحللاً ما جرى فيه من صلات الديني بالسياسي، وذلك من خلال دراسته لأهم تيارات المتكلمين والتي نشأت في صدر الإسلام والتي كان منشأها في الأصل سياسياً وليس دينياً وإن كان ليس من اليسير الفصل بين الديني والسياسي.ومن المؤكد أن علم الكلام لم يكن ليزدهر بالشكل الذي نعرفه لو لم تحركه الدوافع السياسية والسلطوية، وما كنا نعرف هذه الأسماء الكبيرة من علماء الكلام الذين يعتبرهم أرنست رينان ممثلي الفلسفة الإسلامية. وقد توقف الباحث في هذه النشأة متعرضاً لأهم المقولات الفكرية ( السياسية والدينية) لهذه الفرق وما تفرع عنها مع قدر من التركيز على رؤاها في إمامة المسلمين وسياسة أمرهم. وأخيراً حللنا نماذج من ثورات هذه الفرق والجماعات وخروجها على السلاطين والخلفاء، والذي وصل في بعض الأحيان إلى درجة الحروب الشاملة. وكما النشأة فإن هذه الثورات ظلت على الدوام تتفجر من أجل الشأن السياسي وإعادة الأمر إلى جادة الطريق ورد المعتدين والظالمين من الخلفاء وأتباعهم إلى جادة الطريق وفق روى هذه الفرق والجماعات
وتقوم الفرضية الأساسية لهذه الدراسة على أن مقولات الثورة والخروج على السلاطين الجائرين كانت اتجاهاً رئيسياً في التيارات والفرق الكلامية التي تنازعت الأمر مع الأئمة والسلاطين وحاورتهم حول قضايا في كيفية سياسة الأمة. بمعنى أن الثورات كانت أسسها في قضايا السياسة على الرغم ما أنها غير منفصلة عن القضايا الدينية. كما أن هنالك العديد من الثورات التي فجرتها مقولات المتكلمين ورؤاهم حول قضايا الإمامة وسياسة الأمة وصلت في بعض الأحيان إلى سلطان أو خليفة المسلمين. وأهمية دراسة هذه القضية في وقتنا الراهن، هو أن الثورة كطريق للتغيير وعلى الرغم من تفجر العديد من الثورات في العالم العربي والإسلامي فإن تياراً واسعاً من المسلمين يرى أن طريق الثورة والخروج على الحكام كطريقٍ للتغير هو الطريق غير الصائب وليس له من المشروعية الإسلامية نصيب. وقد رأى الباحث لمعالجة هذه القضية الأخذ بالمنهج التاريخي والوصفي والتحليلي. وأما عن الدراسات السابقة في هذا الموضوع فهي شحيحة إلا من بعض كتابات محمد عمارة ومحمد إسماعيل وغيرهما القليل.
أولاً: علم الكلام بين الديني والسياسي:
لم يعين النبي صلى الله عليه وسلم خليفة له وإنما جعل أو ترك الأمر للصحابة من بعده، وكانت هذه أول مشكلة سياسية تواجه الحضارة الإسلامية في مطلع أيامها. "وبالتالي فإن كثيراً من مؤرخي الإسلام القدامى يذهبون إلى أن الخلاف السياسي الذي نشب بين الصحابة أنفسهم بسبب مسألة الخلافة أو الإمامة هو الذي يثوي وراء ظهور الفرق والأحزاب الإسلامية." ويتابع المؤرخون المحدثون المؤرخين القدامى في تأكيد القول إن البؤرة السياسية هي التي فجرت الصراع وولدت الفرقتين الأوليين الكبريين اللتين تحمل أولاهما اسم "الخوارج" أو الشراة وتحمل ثانيتهما اسم "الشيعة" ثم إن الطريقة التي حسم بها اختيار أبو بكر خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت حينها من التدابير التي عصمت دماء المسلمين ومنعت بوادر الثورة على الرغم من أن بعض المصادر أشارت إلى موقف علي بن أبي طالب من خلافة أبي بكر وهنالك بعض الإشارات إلى أن المركز المدينة وما حولها أجمعت على خلافة أبي بكر إلا أن الأطراف كانت في حالة تمرد.
ويمكن اعتبار أن الموقف الكلامي في الإسلام منذ نشأته ورغم تناقضات مواقفه لم يكن خطاباً في اللاهوت فقط بقدر ما كان خطاباً في السياسية أيضاً، فالصراع على الخلافة والأحقية بالحكم ابتدءاً من الحرب بين علي بن أبي طالب وبين أصحاب الجمل، وبين علي ومعاوية أدى إلى تفرق المسلمين شيعاً وأحزاباً، ووقوع صراع دموي، وراح المسلمون يكفرون بعضهم البعض، و جاء الكلام في الدين بعد هذه الخلافات السياسية ليصب في رؤى دينية ذات مغزى سياسي.
أن دور السياسة في نشأة وتطور علم الكلام أمر لا يمكن إنكاره أو تجاوزه ولهذا يحق لنا أن نعرف علم الكلام بأنه العلم قراءات متعددة للعقيدة عكست بداخلها مواقف سياسية متباينة ومتعددة، أو هو العلم الذي يتكلم في العقائد بمنطق سياسي . وأن علم الكلام هو "هذا العلم الذي نشأ في أحضان الفرق الإسلامية التي ولدتها الخلافات السياسية الأولى في الإسلام" ويذهب أحد الباحثين إلى أنه يمكن اعتبار:"أن معظم الفرق التي ظهرت في الإسلام يرجع أصلها في المقام الأول إلى أسباب سياسية تتصل بالسياسة، والتنازع على الحكم" وبالتالي فإن "الاختلاف في العقائد النظرية نشأ في علم الكلام بصورة عرضية نتيجة الاختلاف في الأمور السياسية ومشاكلها العملية (....) فهو بالفعل موقف كلامي، ولكنه كلام في السياسة، وفي الكبائر السياسية خاصة." وقد أدى توظيف سلطة الفقه في تحريم علم الكلام واتهام من يمارسه بالزندقة والضلال إلى إرساء العنف والإقصاء المتبادل بين الفرق الكلامية بدعوى كل فرقة أو جماعة لامتلاك الحق المطلق وادعاء أن الآخر على غير الحق.
إذن فإن الكلام في الإسلام نشأ تدريجياً، ونشأ مسائل متفرقة تثير معرفة مسألة فيبدي فيها قوم رأياً آخر، ويكونون فرقة وهكذا.
وكانت الخصومات السياسية ذاتها تصطبغ بلون المناظرة الدينية دون أن يكون عكس هذا الأمر صحيحاً بالضرورة. وأن هؤلاء الذين كانوا يتقاتلون من أجل هدف سياسي كانوا في الوقت ذاته يناضلون من أجل آراءهم في الدين والإيمان.
إن السياسة في جماعات دينية لابد من أن تصطبغ بهذه الصبغة الدينية، ويمكن القول بأن الإنسان لا يستطيع أن يوجه عمله السياسي في وجهة تعاكس أو تخرج عن نطاق الاختلاف الذي يمليه عليه إيمانه الديني، وبهذا المعنى قد تتخذ المواقف السياسية دلالات دينية، وقد تعود بعض المواقف العقائدية إلى دلالات سياسية. وبالتالي فإن السياسة قامت بدور محوري في نشأة وتطور المذاهب الإسلامية عقيدة وفقها.
وبالتالي يمكن القول بأنه منذ الفتنة الكبرى حدث الخلاف السياسي حول الإمامة، ومن أحق بها، واتخذ هذا الخلاف السياسي أبعاداً دينية فنشأت الشيعة، والخوارج، والمرجئة، واختلط الديني بالسياسي بشكل واضح، ولم تتخذ هذه الفرق والأحزاب لا الشكل السياسي البحت ولا الديني الصرف. "وبدلاً من أن يسمى الحزب اسماً سياسياً يدل على المبدأ السياسي الذي يدعو إليه تسمى اسماً يدل على المذهب الديني: كشيعة، وخوارج، ومرجئة، وبدل من أن يتحاجوا بما ينتج عن أعمالهم من مصالح ومفاسد، تحاجوا بالكفر والإيمان، والجنة والنار، فقد اختلف المسلمون وانقسموا أحزاباً، هي في الواقع أحزاب سياسية وقد يرى كل حزب أن الحق بجانبه، وأن خير الأمة باستخلاف من يدعو إليه."
وخلاصة القول فإن: الاختلافات السياسية، سواء على منصب الحكم أو توزيع الأموال اضطرتهم إلى ذلك الطريق، طريق المواجهة الفكرية والاختلاف. ومعلوم أن هذا الاختلاف لم يشمل العقائد و(دقيق الكلام) إلا في مرحلة متأخرة نسبياً بعد أن ظل المشكل السياسي يشكل بؤرة الصراع وأساس الافتراق الذي سلت بسببه السيوف
ثانياً: الفرق الإسلامية وقضايا السياسة:
1/ الشيعة والخوارج:
لقد مثل علي بن أبي طالب رمزاً لمعارضي معاوية مؤسس الدولة الأموية، فقد رأى فيه مؤيديه أنه ذو قرابة روحية مع الرسول صلى الله عليه وسلم تتجاوز نسبه وقرابته الرحمية وتسمو عليها. ومن هنا شكل الارتباط بعلي والتشيع له أول مظهر من مظاهر التحزب والفرق الإسلامية، ويرى أبو زهرة "أنهم الشيعة ظهروا بمذهبهم في آخر عهد عثمان، وترعرع في عهد علي، إذ كلما اختلط علي بالناس ازدادوا إعجاباً بمواهبه، وقوة دينه وعلمه، فاستغل الدعاة ذلك الإعجاب وأخذوا ينشرون آرائهم فيه، مابين رأي فيه مغلاه ورأي فيه اعتدال" بمعنى أن الشيعة كانوا أول الفرق الإسلامية وأقدمها ظهوراً في تاريخ الحضارة الإسلامية ومازال حضورها قوياً وأثرها بارزاً. كما "نجد أن مسألة الإمامة والخلافة تشغل منزلة رئيسة في نشأتها لأن الإمامة أو خلافة النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة دفة المسلمين ورئاستهم كانت في رأي الشيعة مؤسسة ضرورية واجبة وهي تنتقل بالإرث غير المنقطع إلى الأبناء الذين اصطفاهم الله من ذرية آل البيت" . بمعنى أنه تلازمت نشأة الشيعة مع القول بالإمامة لأهل البيت، وإلى هذا السبب أرجع بعض الباحثين تسمية الفريق الرئيسي من الشيعة بالإمامية، بل إن قيام التشيع كتيار متميز ضمن الأمة الإسلامية يرجع أساساً إلى تمسك أتباع علي بحقه في خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم التسليم بالترتيب السياسي الذي توصل الصحابة فور وفاة الرسول ويرى ابن خلدون أن الشيعة بجميع طوائفهم اتفقوا على أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، بل هي ركن من أركان الدين، وقاعدة من قواعد الإسلام (...) والإمامة عندهم لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي، أو لسان الإمام قبله، وليست بالاختيار أو الانتخاب من الناس .
وتستند نظرية الشيعة الرئيسية في الإمام المعصوم إلى أن الإمام رئيس الناس بتعيين الخالق، لا باختيار المخلوقين وأن هذا المنصب لا يستند بالضرورة إلى مصالح يدركها البشر، أو أن إدراكهم ليس حجة فيها، بل لمصالح يعلمها الله، وهذا الأمر موقع اتفاق أبرز بين فرق الشيعة.
2/ الخوارج:
ثم إنه وفي ظل تشكل فرقة الشيعة وغلواء بعضهم في علي، ظهرت الفرقة التي سميت بالخوارج الذين كان شعارهم الشهير هو (لا حكم إلا لله) والذين فتحوا الباب واسعاً لإثارة مسألة الإمامة وبالتالي قضايا السياسة المرتبطة بالدين على نطاق واسع. " وبدأ هذا الشعار (لا حكم إلا لله) يأخذ مضمونه السياسي عندما رفض الخوارج من الرجوع مع علي من الكوفة عاصمته واتجهوا بدلاً من ذلك إلى حروراء حيث نزلوا يتداولون في مصير حركتهم."
وتطورت أطروحات الخوارج من شعار (لا حكم إلا لله) إلى تحالف لا قبلي ضد مبدأ ( الأئمة من قريش) الذي كان هو السائد منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم " قائلين إن الخلافة ومنصب الخليفة من حق كل مسلم عادل حراً كان أو عبداً."
وقد رفضوا هذا المبدأ لمنافاته لروح الدين، فلا يعقل في نظرهم أن ديناً يساوي بين الخلق أجمعين تكون من بين مبادئه حصر الخلافة في قبيلة دون غيرها من سائر المسلمين، فالإمامة لمن توافرت فيه شروط الإمامة، وهي التقوى والعدل، وقد ورد في الحديث النبوي:" ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى" وفي الآية الكريمة ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴿ ﴿13سورة الحجرات﴾ هي شروط المفاضلة بين الناس، وليس النسب القرشي، فأجازوا إقامتها في غير قريش إذا كان القائم بها مستحقاً لذلك.
وبالتالي فإن الخلافة عندهم ينبغي أن تعقد لأفضل أبناء الأمة الإسلامية عن طريق الاختيار المطلق من كل قيد، فكل من اتصف بحياة صالحة ورعة وجانب الظلم واستمسك بالدين الصحيح جاز له أن يكون إماماً وخليفة من غير اعتبار الحسب والنسب... يستوي في ذلك القرشي والنبطي وإذا اتفق أن انحرف الإمام أو الخليفة عن السبيل السوي، وحاد عن الصراط المستقيم، وجب خلعه والانتفاض عليه بل قتله أيضاً، وقد انتهى بهم الرأي إلى نبذ فكرة الإمام والاستغناء عنه إذا اقتضى الحال وتعذر وجود الإمام الصالح النادر . وترى النجدات أحدى طوائف الخوارج ، وهم أصحاب نجدة بن عويمر الحنفي أن:" ليس على الناس أن يتخذوا إماماً، إنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهم بذلك يخالفون جميع أهل السنة وجميع الشيعة وجميع الخوارج الذين ذهبوا إلى وجوب الإمامة، وأن الأمة يجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم."
ولذلك نرى أن الخوارج هم أول من فتح باب النقاش حول أسس اختيار السلاطين والحكام وكانت آرائهم واضحة وصريحة حول عدم طاعة الإمام أو الخليفة أو الحاكم إذا خالف ما يعتقدون أنه الصراط المستقيم، كما أنهم كان أول من بذر بذور الثورة والخروج على السلطان متجاوزين مفهوم أن الخروج على السطان فيه فتنة المسلمين.
وخلاصة هاتين الفرقتين الشيعة والخوارج وعلى الرغم من أن الخلافة كانت سبباً في ظهور الشيعة كانت سبباً في ظهور الخوارج أيضاً. فإن الفرق بينهما شاسع " فبينما يقدس الشيعة علياً يكفره الخوارج ويرون عبد الرحمن بن ملجم، قاتله، من خير البرية....... وبينما يعد الشيعة من أصولهم التقية، يعد الخوارج من أصولهم الخروج على السلطان الجائر في غير مواربة، ومن غير نظر إلى قوة الخارج وقوة السلطان" وقد انقسم الخوارج إلى نحوٍ من عشرين فرقة، ويقول أبو الحسن الأشعري:"الذي يجمعها إكفار علي وعثمان وأصحاب الجمل ومن رضي بالتحكيم وصوّب الحكمين أو أحدهما ووجوب الخروج على السلطان الجائر."
3/ الأمويون وعقيدة الجبر:
ولما استولى الأمويون على السلطة في العالم الإسلامي بالشوكة والغلبة كان لابد لهم من توظيف العقيدة الدينية و إنشاء واختيار وتأييد بعض فرق علم الكلام لإيجاد المشروعية لحكمهم واستمراره وتوريثه ومن هنا ظهرت عقيدة الجبر، وأن ليس للإنسان يد في من يحكم ولمن تكون السلطة وإنما الأمر كله من الله. فقد روي عن معاوية بن أبي سفيان في بعض خطبه أنه قال:"لو لم يرني ربي أهلاً لهذا الأمر الأمر حسب لغة القرآن الكريم هو السلطة ما تركني وإياه، ولو كره الله ما نحن فيه لغيره، وكان يقول أنا عامل من عمال الله أعطي ما أعطى الله، وأمنع من منعه الله."
وقد نشط الأمويون في نشر تغطية أيديولوجية لتبرير سلطتهم الجديدة، خاصة تجاه مجتمع المدينة. باعتبار أن المدينة هي عاصمة الخلافة المجهضة، وهي تغطية تقوم على إستراتيجيتين اثنتين: أولاهما وهي التي تهمنا نشر مفهوم الجبر كعقيدة بين الأتباع والمعارضين.
يقول القاضي عبد الجبار: "ذكر شيخنا أبو علي رحمه الله أن أول من قال بالجبر وأظهره معاوية، وأنه أظهر أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه، ليجعله عذراً فيما يأتيه، ويوهم أنه مصيب فيه، وأن الله جعله إماماً وولاه الأمر. وفشى ذلك في ملوك بني أمية".
ومعنى ذلك أن الأمويون كانوا يرون أن الله ساق إليهم الخلافة بسابق علمه، قضاءً وقدراً، أي أنه كان يعلم منذ الأزل أنهم سيستولون على الحكم، وعلم الله نافذ، فيكون الله هو الذي حتم عليهم أن يقاتلوا على الخلافة. وتذكر المصادر أن معبد الجهني وعطاء بن يسار دخلا على الحسن البصري باعتباره مرجعية رئيسية في الأمة حينها في مسجده بالبصرة فسألاه:( يا أبا سعيد، إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فأجابهما الحسن بقوله: "كذب أعداء الله") . ومن هذا نجد ان الخطاب موجه ضد الأيديولوجيا التي يبرر بها الأمويون عسفهم في الحكم واحتكارهم للأموال.
3/ المعتزلة:
لقد كان ظهور المعتزلة في وقت مبكر من تاريخ الإسلام، إذ نما مذهب الاعتزال داخل مدرسة الحسن البصري، في حدود القرن الأول الهجري. عندما أقدم واصل بن عطاء هو وأصحابه الذي اعتبر مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، على اعتزال مجلس الحسن البصري الذي كان يقول أن مرتكب الكبيرة مجرد فاسق لايعرى من الإيمان الذي كانت تقول به الأمة بأسرها في مرتكب الكبيرة وغيره. ولكن الذي يتفق عنده كثير من الباحثين هو أن الثورة السياسية وما ترتب على الصراع السياسي من مواقف حول اسم المؤمن والكافر وصفتهما تظل في مبدأ نجوم هذه الفرقة وأن ما حدا واصل بن عطاء أن يقول بالمنزلة بين المنزلتين اعتبارات سياسية في الدرجة الأولى(...) "وقد لاحظ بعض الباحثين أن واصلاً وجميع المعتزلة كانوا أخصاماً للأمويين وأن موقف واصل كان هو الذي اتخذه العباسيون بعد وصولهم إلى الحكم، وقد ناصر العباسيون المعتزلة طيلة قرن كامل." بمعنى أن المعتزلة نشأت في نفس الجو الذي نشأت فيه الشيعة والخوارج. ويقول أحد الباحثين أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة الأنصاري وأسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، أنهم اعتزلوا عن علي وامتنعوا عن محاربته كما رفضوا المحاربة معه، فسموا بالمعتزلة وهم أجداد جميع المعتزلة الآخرين. ويرى البغدادي أن أهل السنة هم الذين دعوهم معتزلة، لاعتزالهم قول الأمة في مرتكب الكبيرة من المسلمين، وتقريرهم أنه لا مسلم ولا كافر، بل هو في منزلة من منزلتي الكفر والإيمان.
وقالت المعتزلة إن الإمامة يستحقها كل من كان قائماً بالكتاب والسنة.... والإمامة لا تكون إلا بإجماع الأمة واختيارها. ويقول المقريزي: "المعتزلة الغلاة في نفي الصفات الإلهية، القائلون بالعدل والتوحيد، وأن المعارف كلها عقلية حصولاً ووجوباً قبل الشرع وبعده، وأكثرهم على أن الإمامة بالاختيار."
والواقع أن نشأة وتطور المعتزلة لم تكن مستقلة عن الصراع السياسي الذي كان قائماً في العصر الأموي حول الإمامة، ولا بمعزل عن الآراء السياسية التي أبديت خلاله من جانب الشيعة والأمويين والخوارج والمرجئة وأهل السنة. وأن الخلاف الذي وقع بين واصل وأستاذه الحسن البصري حول مرتكب الكبيرة هو خلاف ذو أصل سياسي مهما بدا في طابع ديني عقائدي، وقد ظهر اسم المعتزلة سياسياً في حروب عليّ وأصحاب الجمل وفي حروب عليّ ومعاوية، ولكنه لم يستخدم لطائفة معينة بذاتها. ومن ثم فإن المعتزلة المتكلمين إنما هم امتداد للمعتزلة السياسيين، الذين وقفوا موقف الحياد في النزاع بين أنصار عليّ ومعاوية، ثم بين ذرية أنصار عليّ والخلفاء الأمويين فيما بعد. ويرى النشار أنهم "هم سموا أنفسهم معتزلة، وذلك عندما بايع الحسن بن عليّ عليه السلام معاوية وسلم إليه الأمر، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس، وذلك أنهم كانوا من أصحاب عليّ، ولزموا منازلهم ومساجدهم، وقالوا: نشغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك معتزلة."
ثالثاً: ثورات المتكلمين:
لقد شعر المسلمون المهزومون سياسياً وعسكرياً بضرورة إعادة إنشاء بديلهم الفكري والسياسي وذلك عن طريق إنشاء نظامهم على المستوى المعرفي ولابد أن يتضمن هذا البديل المفتقد بصورة أساسية البحث عن المشروعية المجهضة من قبل سلطة الأمويين، لذلك انطوى نموذج مدارس وفرق المسلمين على قضايا شديدة الاتصال بعصرهم ومشاكله (عصورهم ومشاكلهم، وقد نافحت هذه الفرق عن تلك القضايا باللسان والنقاش العقلي المبني على المنطق الذي اقتنعت به هذه المجموعات، ولما كانت هذه القضايا تمس جوهر ولب السلطة/ السلطات الحاكمة كان لابد من اللجوء إلى السيف إن لم يكف اللسان والبيان.
وقد ذكر الأشعري في مقالات الإسلاميين من خرج ( الخروج نستخدمه في هذا البحث بمعنى الثورة) من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم على أولي الأمر، أي الحكام بالأمر الواقع، وهم في الواقع ثاروا على الأوضاع السياسية، وثاروا على ما رأوه ظلماً من السلطان في عدم سياسته للأمة وفقاً لما اقتضته مشروعية السياسة الإسلامية، من طريقة الاختيار والسير على هدى الإسلام. ونذكر أهم هذه الثورات التي بلغت أربع وعشرون ثورة هي. :
1/ خرج الحسين بن علي بن أبي طالب، منكراً على يزيد بن معاوية ما أظهر من ظلمه، فقتل بكربلاء. وقتل معه ابنه ( علي)، وعبد الله/ والقاسم/ وأبو بكر أبناء الحسن بن علي. وقتل معه من إخوته العباس/ وعبد الله/ وجعفر/ وعثمان/ وأبو بكر/ ومحمد أبناء علي بن أبي طالب وغيرهم وغيرهم. إلى أن وصل إلى ....
2/ ثم خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بالكوفة على هشام بن عبد الملك، فقتل ودفن، ثم نبشه والي العراق يوسف بن عمر وصلبه، ثم أمر هشام بأن يحرق، فحرق، ونسف رماده.
وكل هذه الثورات أخمدت في غالبها بعد حروب قتل فيها من قوادها من قتل، وأسر من أسر وهرب من هرب من هؤلاء الثوار.
ثم تطورت بعد ذلك الثورات في صدر الإسلام إلى أن جاء عهد الخليفة وإمام المسلمين عثمان بن عفان، فثار عليه المسلمون، وكانت الثورة تطلق على نفسها أنها في سبيل الله ضد الخليفة، ومن أجل الحق والعدل ضد فساد الحكم وظلمه. وهي كلمات لم تستخدم ضد عثمان بل ضد كل سلطان كما زعمت يضل عن سواء السبيل. فاستخدمها الخوارج ضد عليّ نفسه، فانفصلوا بهذا عن شيعته وصاروا الخوارج. فالثورة التي أتت بعليّ إلى الخلافة والإمامة لم تتهاون معه حينما ضل الطريق كما يرى الثائرون على عليّ
وبعد أن اغتصب بنو أمية الخلافة، وأحالوها إلى ملكٍ عضوض فقد رأت جماعات وفرق من المسلمين ضرورة مواجهة هذا الوضع وفقاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي أخذت به معظم الفرق المعارضة، فسل السيف لدفع المنكر وإقرار الحق على خلاف أهل الحديث الذين حرّموا استخدام السيف حتى ولو جار السلطان.
وقد اختلفت الفرق الإسلامية في تطبيق مبدأ الخروج الثورة على الأئمة: فالخوارج يرون ضرورة الثورة واستخدام السيف ضد أئمة الجور دون مواربة أو انتظار. وبعض الشيعة قصروا الحق على الإمام فقط دون الأمة فلها إسداء النصح فقط. ووقف المعتزلة موقفاً وسطاً بين الخوارج والشيعة، فاعترفوا بحق الأمة في رد المنكر بالسيف مع بعض التحفظات على حد قولهم:" إذا كنا جماعة وكان الغالب عندنا أننا نكفي مخالفينا، وأن يكون الخروج مع إمام عادل." فلا يصح الخروج عندهم إلا عند غلبة الظن بنجاح الثورة.
1/ ثورات الخوارج
الخوارج كانوا حزباً سياسياً ثورياً كما يدل على ذلك اسمهم، ومذهب الخوارج هو مذهب سياسي هدفه تقرير الأمور العامة وفقاً لأوامر الله ونواهيه، بيد أن سياستهم ليست موجهة نحو أهداف يمكن تحقيقها، بل رؤيتهم "لتكن عدالة ولو فنيت الدنيا بأسرها"، وهو أمر لم يكونوا يجهلونه. إذ لم يكونوا يعتقدون بانتصار مبادئهم على الأرض، وإنما يرضون أن يموتوا مجاهدين. إنهم يبيعون حياتهم ويحملون أنفسهم على سوق ثمن أرواحهم فيه الجنة. ولذلك سموا بالشراة.
وفرقة الخوارج من أشد الفرق الإسلامية تحمساً لأفكارها وأكثرها دفاعاً عن مقولاتها وآرائها، وهم في دفاعهم عن مبادئهم تمسكوا بمقولتهم الرئيسة (لا حكم إلا لله). وانطلاقاً من هذا فقد تبرءوا من عليّ ومن عثمان، وتبعوا ذلك باستبرائهم من حكام الدولة الأموية، وعلى الرغم من قناعتهم بعدل عمر بن عبد العزيز إلا أنهم خالفوه لأنه لم يعلن البراءة من أهل بيته الظالمين. ولم تقف بهم الحماسة والتمسك بالألفاظ وإنما امتازوا بحب الفداء والرغبة في الموت.
بمعنى أن الخوارج ابتدأوا مسيرتهم كفرقة مائزة بالثورة على السلطان، ويمكن القول: إنه إذا كانت الخوارج أول فرقة إسلامية منظمة ولدت في إطار مبدأ (مشروعية الثورة) في الفكر الإسلامي، فإن الأسس الفلسفية والنظرية التي استندت إليها هذه الفرقة، كي تبرر انشقاقها وثورتها قد تبلورت في المجتمع الإسلامي منذ الثورة على عثمان. وأن مشروعية الثورة وما يستدعي قيامها يتمثل في ظهور الفسق، أو الجور أو ضعف الإمام، لذلك ثاروا على عليّ لأنه ضعف عن قتال البغاة، وثاروا ضد البغاة الذين جمعوا إلى البغي الفسق والجور.
وتذكر المصادر أن ذا الخويصرة وهو حرقوص بن زهير السعدي الذي ذكره الطبري في الصحابة كان أول خارجي خرج في الإسلام. وكان ذو الخويصرة هذا أحد الرؤوس التي دبرت الفتنة (الثورة) على عثمان وشاركت في المؤامرة على الخليفة عثمان، إذ كان يقود ثوار البصرة، كما أنه كان من قادة الخوارج الذين انشقوا على عليّ بعد معركة صفين، وكان من أشد الخوارج على عليّ، وجادل علياً لقبوله التحكيم الذي اعتبره خطيئةً وذنباً، وطالب عليّ بالتوبة منه، وكان حرقوص مع الخوارج الذين قاتلهم عليّ وقتل في معركة النهروان سنة سبعٍ وثلاثين من الهجرة النبوية.
وقد قاتل علياً الخوارج في بداية عهدهم بعد صفين في معركة النهروان وأباد فيها جزءٌ كبير منهم، ولكن معركة النهروان لم تضع نهاية للخوارج بل أذكت في من بقي منهم روح القتال وكانت ذكرى تلك الموقعة دافعاً لهم إلى مزيدٍ من الثورة والعنف،الأمر الذي أدى بهم إلى التخطيط لقتل عليّ وتنفيذ ذلك.
ولما جاءت الدولة الأموية استمر الخوارج كقوة مناهضة لها، وخاضوا كثيراً من المعارك الانتحارية ضد الأمويين، ولم تكن ثورات الخوارج أيام معاوية أقل ولا أخف من ثوراتهم أيام عليّ، وإنما مضوا على سنتهم تلك لم يريحوا ولم يستريحوا. وكان الخوارج أيام عليّ يخرجون من الكوفة، فإذا تهيئوا للحرب لحق بهم إخوانهم من أهل البصرة. فأما أيام معاوية فقد نصّب خوارج الكوفة لأمراء الكوفة، ونصّب خوارج البصرة لأمراء البصرة. ولما تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز حاول أن يردهم ....مواصة هنا.
والخوارج مع الثورة المستمرة والخروج الدائم وتجريد السيف ضد أئمة الجور... فعندهم أن الخروج ( الثورة المسلحة) يجب إذا بلغ عدد المنكرين على أئمة الجور أربعين رجلاً، وهذا عندهم هو حد (الشراة) الذين باعوا أرواحهم وعليهم الخروج "حتى يموتوا أو يظهر دين الله ويخمد الكفر والجور".. ولا يحل لهم المقام غير ثائرين إلا إذا نقص عددهم عن ثلاثة رجال.. فإذا نقصوا عن الثلاثة قعدوا، وكتموا عقيدتهم، فقد جعلوا المسالك عندهم أربعة وهي: الشراة، والكتمان، والظهور عند قيام دولتهم والدفاع وهو التصدي لهجوم الأعداء تحت قيادة إمام الدفاع. وأهم ما يميز فرقة الخوارج بجميع طوائفها أنهم متفقون على وجوب "إزالة أئمة الجور ومنعهم أن يكونوا أئمة، بأي شيء قدروا عليه، بالسيف أو بغير السيف."
وقد استمر الخوارج منذ نشأتهم الأولى في طريق الثورة والخروج على أئمة الجور ثم تصاعدت ثوراتهم، منذ حربهم لعلي في معركة النهروان، بعد أن كانوا قبلها في صفوفه، حتى تحولت ثورتهم إلى تحرك جماهيري مسلح ضد بني أمية، وبني العباس. وقد أشعل الخوارج في هذه الفترات العديد من الثورات أهمها الثورات الآتية على سبيل المثال لا الحصر... :
1/ ثورة الدسكرة بقيادة أشرف بن عوف الشيباني في سنة 38 ه.
2/ ثورة اليمن وحضرموت والبحرين، بقيادة نجدة بن عامر... في سنة 67ه.
3/ ثورة مكة والمدينة بقيادة حمزة الشاري، في سنة 130ه.
ومعنى ذلك أن ثورة الخوارج تطورت واستمرت إذ أن رؤيتهم بنيت على استمرارية الثورة ضد الأمراء متى ما رأوا منهم الظلم والعسف والحيد عن الصراط المستقيم. وعند الخوارج فإنه لا جماعة دولة على حساب الدين، إذ الجماعة إنما تصان بالعادة وتشمل الطيب وغير الطيب! ولا يعترف الخوارج بالجماعة التي يبرر وجودها الواقع التاريخي فقط، فالأمة الحقيقية عندهم هي تلك التي لا ينتسب إليها إلا المسلمون الصالحون سواء كانوا قريشيين أم نبطيين، ومع ذلك فهم ليسوا فوضويون وإنما يعملون من أجل وجود إمام صالح.
2/ ثورات الشيعة
لقد كانت ثورة الشيعة من بواكير الثورات ضد الأمويين (بعد معاوية)، فقد ثاروا مع إمامهم الحسين بن علي، ثم تتابعت ثوراتهم بعد مقتل الحسين، وكانت أولها هي ثورة التوابين، ثم ثورة الكوفة مع المختار، وكان السبب لهاتين الثورتين مزدوجاً من الأخذ بالثأر ومن كراهية حياة الذل واحتمال الضغط والاضطهاد. وبعدهما ثار زيد بن علي بن الحسين، وكان سبب ثورته هو مارآه من هشام بن عبد الملك وأمراءه، وعبثهم بحقوق الأمة وهتكهم نواميس الشرع. ومن أشهر فرق الشيعة في الثورة هي الكيسانية، وهم أصحاب كيسان مولى علي بن أبي طالب وقيل تلميذ محمد بن الحنفية، يعتقدون فيه اعتقاداً فوق قدرته ودرجته، من إحاطته بالعلوم كلها. وأشهر الكيسانية هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، وقد كان خارجياً، ثم صار شيعياً، وكانوا يقولون بإمامة محمد بن الحنفية بعد أمير المؤمنين علي، وقيل لا، بل بعد الحسن والحسين. وقد خرج (ثار) انتقاماً لمقتل الحسين بن علي في كربلاء، والقصاص من محاربيه وقاتليه، وقال:"وربك لأقتلن بقتله عدة القتلى التي قتلت على دم يحيى بن زكريا، ثم لحق بان الزبير وكان يستعد للاستيلاء على الحجاز وما والاه من بلاد الإسلام،وبايعه على أن يوليه بعض أعماله إذا ظهر، ثم رجع إلى الكوفة بعد موت يزيد وتفرق أمر المسلمين... وأخذ في محاربة قتلة الحسين وأعداء العلويين ... ولم يعلم أن أحداً اشترك في قتل الحسين إلا قتله... فالتف حوله الناس وقاتلوا معه حتى قتل."
ولقد أحرزت هذه الثورة التي استمرت سلطتها في الكوفة ستة عشر شهراً، نجاحاً ملحوظاً في تحقيق ما قامت لتحقيقه من أهداف.
ومن فرق الشيعة التي سارت على طريق الثورة هي فرقة القرامطة وهي إحدى فرق الشيعة التي يزعم أتباعها أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي وأن علي نص على إمامة الحسن بن علي وأن الحسن نص عل إمامة الحسين بن علي... إلى إمامة محمد بن إسماعيل. والقرامطة سميت بهذا الاسم لرئيس لهم كان من أهل سواد الكوفة من الأنباط، اسمه حمدان بن الأشعث المعروف بقرمط لقصر قامته ورجليه. وكانوا في الأصل على مقالة المباركية إحدى فرق الشيعة ثم خالفوهم وقالوا: لا يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم غير سبعة أئمة هم علي وهو إمام رسول، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر القائم المهدي. ومن أهم مقولاتهم أنهم استحلوا استعراض الناس بالسيف وسفك دمائهم، وأخذ أموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك، ورأوا سبي النساء وقتل الأطفال، وزعموا أنه يجب أن يبدءوا بقتل من قال بالإمامة ممن ليس على قولهم، وخاصة من بإمامة (موسى بن جعفر) وولده من بعده، وتأولوا في ذلك قوله تعالى ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً َ﴾ ﴿التوبة 123﴾.
وقد كثر عدد هؤلاء القرامطة، ولم تكن لهم شوكة ولا قوة، وكثر عددهم باليمن ونواحي البحرين واليمامة وما والاها. ويذكر الطبري خبر رجل من القرامطة: يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، "أنه اجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة، ثم قوي أمره وخرج فقتل من حوله من أهل القرى، ثم صار إلى موقع يقال له القطيف، بينه وبين البصرة مراحل، فقتل من بها، وذكر أنه يريد البصرة (.....)". وفي خبر الطبري من أن القرامطة كانوا يستبيحون القرى ويقتلون ويسبون النساء و....، وهذا يدل على أن القرامطة اتخذوا من الثورة والقتال مبادئ أساسية ومرتكزات رئيسية في طريقة تمكنهم من الأمر. وقد أصبح لهم في أواخر القرن الثالث خطراً يتهدد الخلافة جراء ثورتهم المستمرة وقد هاجم القرامطة البصرة والكوفة ونواحي الشام وانتشروا في اليمن ونواحي البحرين والقطيف واستطاعوا عبر الثورة أن يؤسسوا دولة في البحرين بقيادة أبي سعيد الجنابي، ودخلوا في مواجهات مع جيوش الخلافة العباسية وهزموها في عدة مواقع وأكثروا القتل والنهب والسلب للمسلمين خاصة في مواسم الحج. وبلغوا ذروة ثورتهم حين دخلوا مكة سنة 317ه تحت إمرة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي. إلا أن التاريخ يذكر لهم أنهم عندما أقاموا دولتهم، أقاموها على أساس من الاشتراكية وكانت الثروة في مجتمعهم ملكاً للأمة، كما ظل لمذهبهم الثوري أتباع حتى بعد زوال دولتهم.
3/ ثورات المعتزلة:
يذكر الأشعري أن المعتزلة قالت بأن إزالة أهل البغي وإقامة الحق واجب بالسيف
وقد ابتدأت ملامح الثورة عند المعتزلة مبكراً بوعظ السلاطين ومثال ذلك: "أن عمرو بن عبيد دخل على المنصور فقال له المنصور: عظني وأوجز، قال: يا أمير المؤمنين إن الدنيا بحذافيرها في يديك، فاشتر من ربك ببعضها، واعلم أن الله سائلك عن مثاقيل الذر(....) فبكى المنصور حتى مسح عينيه." حتى إذا لم تنفع الموعظة ابتدأ التمرد ثم الثورة. ثم إن فكرة الخروج والثورة عند المعتزلة مؤسسة بآراء زعيم الفرقة واصل بن عطاء التي تقول بتخطئة الفريقين أصحاب صفين وأصحاب الجمل، وبعدم تجويزه شهادة عليّ ومجموعته، وتجويزه أن يكون عثمان وعليّ على خطأ. ثم إن واصل كان غير راضٍ عن بني أمية الذين قضى في آخر أيامهم، وأنه كان يحلم بنظامٍ غير نظامهم.
كما أن جذور الثورة متوافرة في مبادئهم التي كانت تدين الجبر والإرجاء، الذي استند إليه الأمويون في تمكين دولتهم، وذلك عندما جعلوا العدل الذي يعني الاختيار والحرية والمسئولية أصلاً من أصولهم الفكرية الخمسة وعندما ربطوا بين الإيمان والعمل. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو واحد من أصولهم الخمسة، هو كذلك حافز على الثورة والخروج على أئمة الجور.
وقد اتفق المعتزلة على أنهم إذا كانوا جماعة، وكان الغالب عندهم أنهم يكفون مخالفيهم عقدوا للإمام، ونهضوا لقتل السلطان وأزالوه، وأخذوا الناس بالانقياد لقولهم،... وأوجبوا على الناس. كما أنه قد بلغ إيمان المعتزلة بالثورة وضرورتها الحد الذي جعلهم يؤيدون ثورة الثائرين ضد الظلم حتى ولو كانوا ضالين في عقيدتهم الدينية بشبهة دينية، "لأن الضال بشبهة أعدل وأقرب إلى الحق من الفاسق الجائر الذي تغلب على الحكم واغتصب أمر المسلمين دون شبهات."
يورد الأصفهاني أنه: "اجتمع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد في بيت عثمان بن عبد الرحمن المخزومي من أهل البصرة، فتذاكروا الجور فقال عمرو بن عبيد: فمن يقوم بهذا الأمر ممن يستوجبه وهو له أهل؟ فقال واصل: يقوم به والله من أصبح خير الأمة محمد بن عبد الله بن الحسن....."
وذلك يعني أن واصل منظر المعتزلة فتح آفاقاً للثورة والخروج على أئمة الجور وسلاطين والظلم.
ولعلنا نجد أهم مبادئ الثورة والخروج على أئمة الظلم في ما قاله أحد أهم منظري الاعتزال وهو القاضي عبد الجبار حينما قال:"وما يحل لمسلم أن يخلي أئمة الضلال وولاة الجور إذا وجد أعواناً، وغلب في ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور، كما فعل الحسن والحسين، وكما فعل القراء حين أعانوا ابن الأشعث في الخروج على عبد الملك بن مروان، وكما فعل أهل المدينة في وقعة الحرة، وكما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات معاوية، وكما فعل عمر بن عبد العزيز، وكما فعل يزيد بن عبد الملك، فيما أنكروه من المنكر..."
وهو نص صريح يوضح أن خروج المعتزلة وثوراتهم قامت على بينة من الرؤية النظرية، وهذا ما نراه من ثورات ظهرت بعد ذلك من أجل الوقوف ضد سلاطين الظلم ومحاولة إثناءهم عنه.
ففي عام 145ه أي بعد وفاة عمرة بن عبيد بعام واحد وذلك في خلافة المنصور خرجت المعتزلة مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وفيهم بشير الرحال فقتلوا بين يديه صبراً. وقصة خروج بشير الرحال هي:"وأول خبر خروجه مع إبراهيم أن السعر غلا مرة بالبصرة، فخرج الناس معه على الجبانة يدعون، فكان القصّاص يقومون فيتكلمون ثم يدعون، فوثب بشير فقال: شاهت الوجوه، ثلاثاً، عصي الله في كل شيء، وانتهكت الحرم، وسفكت الدماء، واستأثر بالفيء، فلم يجتمع منكم اثنان فيقولان: هل نغير هذا وهلم ندع الله أن يكشف هذا، حتى إذا غلت أسعاركم في الدينار بكيلجة* جئتم على الصعب والذلول من كل فجٍ عميق تصيحون إلى الله أن يرخص أسعاركم، لا أرخص الله أسعاركم، وفعل بكم وفعل." وهذا النص يشير إلى رؤية المعتزلة الواضحة في أهمية الخروج عند فساد الأئمة والحكام وأهمية الثورة على الظلم، وألا ينتظر الناس إصلاح حال الأئمة، واستجابتهم لحاجات الأمة بمجرد الدعاء والاستغاثة بالله رغم أهمية ذلك، وأن مبدأ تغيير المنكر المستوحى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أصول المعتزلة الخمسة، قد كان حافزاً للرحال وغيره من أعلام المعتزلة للخروج والثورة على ظلم وجور الأئمة. وقد خرج أيضاً مع الزيدية والمعتزلة أصحاب الحديث جميعاً وأنه "لم يتخلف أحد من الفقهاء."
ويقول الأصفهاني عن أبا حنيفة
(توفي150ه):"كان ممن يجهر في أمر إبراهيم جهراً شديداً ويفتي الناس بالخروج معه ..." كما أنه كان يحض الناس على الخروج مع إبراهيم ويأمرهم بإتباعه.
وهذا يدل على أن الثورة في أيام المعتزلة كان لها سند عظيم ليس من أهل الاعتزال وحدهم بل من أعظم أئمة المسلمين في الفقه، من أمثال أبي حنيفة.
4/ ثورة الزنج
من الثورات المهمة والتي كان لها أثر عظيم في تاريخ الفكر والحضارة الإسلامية، ما أطلق عليه ثورة الزنج يروي الطبري في تاريخه أنه: "ظهر في فرات البصرة رجل يقال له علي بن محمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب، وذلك في عام 255هجرية، وجمع إليه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ، ثم عبر دجلة، (...) ثم انتقل إلى الإحساء، ثم إلى البحرين، وقد أحله أهل البحرين من أنفسهم محل النبي، حتى جبي له الخراج هنالك ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه ... فتنكروا له، فتحول عنهم إلى البادية، ولما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين." وهذا النص يدل على أن قائد الثورة هذه كان من آل بيت الإمام علي بن أبي طالب، وهم الذين كانوا على امتداد فترات التاريخ الإسلامي في القرون الأولى يرون أحقيتهم في قيادة الأمة الإسلامية، ثم إن هؤلاء الزنوج الذين آزروه كانت أوضاعهم الاجتماعية متدهورة على أيام الدولة العباسية، مما يؤشر أن المسلمين كانوا يثورون من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية بالإضافة إلي الأوضاع السياسية التي ارتبطت مع رؤاهم الدينية. ثم زحف علي بن محمد بقواته خارجاً على سلطة الدولة إلى البحرين وقد انتصرت عليه الدولة في وقعة في موضع يقال له الردم، فانسحب إلى البصرة واتبعته جماعة يقال لهم بني ضبيعة وحاربوا معه. ولذا نرى أن ثورة الزنج كانت بمثابة الخروج المستمر على سلطان الدولة. وقد طاردته الدولة وألقت القبض على أغلب أنصاره... ثم غادر علي بن محمد البصرة إلى بغداد فأقام بها حولاً وبعدها حدثت بالبصرة فتنة بين طائفتين، أسفرت عن إطلاق مناصريه من السجن، فغادر بغداد ووصل ضواحي البصرة ليواصل ثورته من جديد.
5/ دولة الزنج:
لقد أدار ثوار الزنج عشرات المعارك ضد الدولة العباسية، انتصرت الثورة على الدولة، وتأسست كثمرة لهذه الانتصارات للثورة دوله قامت فيها سلطتها، وطبقت أهدافها، وقد بلغت دولة الثورة هذه درجة من القوة فاقت بها كل ما عرفته الخلافة العباسية قبلها من أخطار وثورات. وكانت ثوراتهم عنيفة وذات مضامين اجتماعية استطاعت أن تجمع حولها الفئات المستضعفة اجتماعياً واقتصادياً، وقد كان عمال دولة الزنج يجمعون الخراج لسلطانهم حتى لقد خيف على ملك بني العباس أن يذهب وينقرض.
وتعتبر ثورة الزنج من أخطر الثورات التي شهدتها الحضارة الإسلامية وقد استمرت أكثر من أربع عشرة سنة حتى قتل قائدها. ومن مظاهر عنف هذه الثورة واستمراريتها أنه قضي أثناء ثورة الزنج أعداداً كبيرة "وقد تكلم الناس في مقدار ما قتل في هذه السنين من الناس فمكثر ومقل، فأما المكثر فإنه يقول: فني من الناس ملا يدركه العدد، ولا يقع عليه الإحصاء، ولا يعلم ذلك إلا عالم الغيب(...) والمقل يقول أفني من الناس خمسمائة ألف نفر، وكلا الفريقين يقول في ذلك ظناً وحدساً، إذ كان شيئاً لا يدرك ولا يضبط".
خاتمه:
حاول الباحث من خلال هذه الدراسة جمع مادة ذات علاقة بقضية الثورة والخروج على أولي الأمر من السلاطين والخلفاء وتحليل هذه المادة، وإيجاد رؤية نظرية تختلف عن الرؤية السائدة عن تاريخ الفكر الإسلامي من هذه القضية ، يمثّل ما نرجو أن يكون إضافة نوعية في هذا المجال. ويمكن في هذه الخاتمة تسليط الضوء على بعض النتائج الرئيسية التي توصل إليها الباحث:
النتيجة الأولى:
أن نشأة الفرق والجماعات الإسلامية في تاريخ الإسلام المبكر كانت ذات طبيعة سياسية في المقام الأول على الرغم من تداخل الديني والسياسي في الإسلام وان تداخل الديني والسياسي هو من القضايا التي يجب أن يخصص لها الباحثين ومؤسسات الفكر قدراً كبيراً من الجهود العلمية.
والنتيجة الثانية:
أن المجتمع الإسلامي في القرون الأولى من تاريخ الإسلام كان يتمتع بحيوية فكرية وسياسية بصورة كبيره وأن المسلمين كانوا رواداً في مناهضة الظلم ومنافحة الخلفاء والسلاطين وأن العلماء والمفكرين في ذلك المجتمع كانوا يقودون حركات التغيير ولم يكونوا تابعين لمؤسسات السلطان كما صاروا بعد ذلك.
والنتيجة الثالثة:
لقد شهدت العصور الإسلامية الأولى كثيراً من علماء الكلام الذين أثروا ساحات العمل الاجتماعي ليس أبستمولوجياً فحسب وإنما أثروها في جانبها الواقعي والعملي بل إن أعظم المتكلمين في تاريخ الإسلام كان مدار بحثهم الإنسان والمجتمع وليس الميتافيزيقيات والتهويمات التي لا يعرف الناس من علم الكلام إلا هي.
النتيجة الرابعة:
ويمكننا بناء على ما سبق أن نتقدم خطوة أبعد في هذا الاتجاه فنستخلص أن مفهوم "الثورة" في الإسلام يتخذ معنى الانخراط في عملية متواصلة من أجل إقامة نظام اجتماعي عادل ومستقيم على هدى الإسلام ثم استمرار حمايته من الانحراف وفق أهواء أولي الأمر.
أما النتيجة الأخيرة فهي أن القوى الاجتماعية التي كانت تقود الثورات كانت من المسلمين الذين تمثلوا المقولات الأساسية في الإسلام وهي كانت تمتلك من المعرفة الإسلامية ما ينفي عنها أنها كانت تثير الفتن والشقاق في الأمة.
ولا يفوتنا أن نذكر أخيرا أن هذا البحث قد يفتح الباب لإجراء بحوث أخرى تجيب على السؤال الرئيسي الذي تعامى عنه المسلمون قروناً طويلة من تاريخ المسلمين وهو كيف للأمة أن تقاوم جور حكامها و ظلم سلاطينها؟ وكيف يكون الثوار سبباً للإصلاح الاجتماعي والسياسي وليسوا سبباً للفوضى والفتن على حد المصطلح التاريخي؟
الهوامش:
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.