بسم الله الرحمن الرحيم تناقلت وسائل الإعلام المختلفة تداعيات التظاهرة التي دعت لها ما يسمي بالقوي الوطنية لاجتماع جوبا وتصدي قوات الأمن والشرطة لها والحيلولة دون انفجار الموقف. لا أريد هنا التحدث عن تجارة صنع الأخبار الرائجة، ولا عن كيفية وصول الأخبار إلى وسائل الإعلام المختلفة، كما لا أريد التحدث عن تداعيات التظاهرة التي رأيناها وشاهدنا وسمعنا أخبارها وتداعياتها، بل أريد التعرض لمسببات هذه التظاهرة، للأوضاع التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم من فرقة وشتات، مع التركيز على دور الحركة الشعبية في كل ذلك. إن المؤتمر الوطني عندما جاء لسدة الحكم، جاء في ليل بهيم وبقوة السلاح. رغم أن الأوضاع آنذاك كانت محبطة، ولم يكن أحد يعرف إلى أين تسير الأمور، حيث نال السيد الصادق المهدي فرصته الثالثة في الحكم الديمقراطي وشكل أكثر من أربعة حكومات في ظرف شهور قليلة، مما يشير بكل وضوح إلى ضعفه من جهة وضعف الموروث السياسي لدي أحزابنا وقياداتنا السياسية. هذا بجانب تدهور الأوضاع في الجنوب والإهمال الذي عانته هذه القوات من القيادات السياسية مما دفع بالمؤسسة العسكرية إرسال المذكرة الشهيرة إلى رئيس الوزراء. لا أعتقد إن أي إنسان عاقل يؤيد الديمقراطية وينبذ الشمولية يدعم أي انقلاب عسكري على حكم ديمقراطي. ولكن هذا كان قبل حوالي عشرين عاما من اليوم. الآن نحن نعيش مرحلة مهمة من تاريخنا، وبلادنا تمر بمنعطف ستكون له انعكاساته على مستقبلها. • المؤتمر الوطني استطاع الاحتفاظ بمواقعه رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها العديد من الدول الكبرى بمساعدة من بعض دول الجوار لاقتلاع الحزب من جذوره وإحلال أحزاب أخري مواليه مكانه بعد أن فشلت في زحزحته عن مبادئه أو استمالته إلى أهدافها أو دفعه إلى المحافظة عن مصالحها قبل مصالح السودان. وأعتقد إن السر وراء ذلك – رغم الفارق الكبير من حيث العدة والعتاد العسكري- كان في الزاد الروحاني وفي قدرة القائمين على الأمر بالاحتفاظ بهدوئهم. وهاتان النقطتان تمثلان جوهر الأشياء، حيث أن الله وعد بتثبيت من آمن بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. • ثم انتقل المؤتمر الوطني من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية وبدأ هامش الحريات في ازدياد مستمر ورافق ذلك عودة بعض القيادات السياسية المعارضة من الخارج لتواصل عملها من الداخل. وعودة هذه القيادات السياسية لم تكن لأن الأوضاع السياسية في السودان كانت قد وصلت إلى مستوي الديمقراطية المطلوبة، ولكنها أحست بفطرتها السياسية وروحها القيادية أن الأم جد خطير، ويحتاج إلى قرار جرئ، فكانت عودتهم إلى أرض الوطن، وذلك ليس تنكرا لمواقفهم ومبادئهم ولا ليضعوا أيديهم على يد الإنقاذ استسلاما أو رضوخا للواقع، بل لأنهم استشعروا أهمية الترفع عن الصغائر وتجاوز الذات والنأي عن المصالح الشخصية والحزبية الضيقة في سبيل حماية الوطن الذي كثرت عليه مخالب الأعداء بعد أن تداعت عليه الأمم. ونخص بالذكر – من بين آخرين كثر- هنا الشهيد الشريف الهندي – تقبله الله قبول حسن- الذي كان من الأوائل الذين واصلوا نشاطهم السياسي من الداخل. • كل من له بعض الإلمام والاهتمام بالسياسة يعرف أن القيادة تعني – بجانب الحكمة والدارية وأشياء أخري- القدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح وتحمل المسئولية. ليس مسئولية منسوبي الحكم الذين مهما كثروا فهم يمثلون جزء من هذا الشعب الأبي وليس كل الشعب، بل تعني- فيما تعني- النظر إلى مصلحة الحزب من خلال المصلحة العامة. إي إن مصلحة الحزب لا يمكن أن تكون ضد مصلحة الشعب والدولة، وفي حالة وجود أي تعارض فإن مصلحة الشعب والدولة لها الأولوية، حتي ولو اضطر ذلك الخروج عن الحزب وتكوين حزب جديد يعمل من أجل مصلحة الشعب والدولة. • الإنقاذ مرت بظروف حرجة، اعتقد لو مرت بها أي حكومة أخري في أي دولة لسقطت لا محالة، ولكن الشعب السوداني الذي كان يستشعر بصيص من الأمل في نهج وتوجه الإنقاذ صبر وصمد وقد المال والنفس في سبيل الذود عن حيض الوطن، نعم حتي إن من بين الذي قدموا أموالهم وأنفسهم من يدينون بغير الإسلام وينتهجون سبل سياسية يفترض إنها تفرقهم عن الإنقاذ، ولكنها المسئولية والشجاعة على اتخاذ القرار، والحكمة والبصيرة التي تفرق ما بين الحاكم والوطن، وما بين الحكومة والدولة، وما بين أبن الوطن الذي أختلف معه في شيء وبين العدو الذي اختلف معه في كل شيء. وشاء الله أن يسخر لبلادنا دولة الصين لتكون لها علاقة مع الإنقاذ. وقدر سبحانه أن تثمر هذه العلاقة الاستراتيجية في إنتاج النفط وتصديره. وأصبح الذين كانوا يتمنون سقوط الإنقاذ بالأمس يقولون ويكأن الإنقاذ حكومة قوية والسودان بلد غني، وأصبحوا يسعون لخطبة ودها. فكان الحوار السوداني الأوروبي من جهة والسوداني الأمريكي من جهة أخري. وكانت نهاية العزلة السياسة والدبلوماسية وكثير من المقاطعات والعقوبات الاقتصادية. • ورغم إن الإنقاذ كان بوسعها بعد تدفق النفط في أرضها والانفراج الاقتصادي الذي شهده السودان منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، أن تقبض أكثر على زمام الأمور حتي لا تنفلت من يدها، إن هي جاءت حقا من أجل السلطة والسلطة فحسب. ولكن جاءت قرارات الإنقاذ لتثبت للعالم أجمع أن هذه العصبة من الناس لمَا جاءت لدفة الحكم لم تكن تسعى لسلطة أو جاه أو منفعة شخصية أو حزبية، بل جاءت لترسيخ قيم معينة وثقافة أصلها ثابت وفرعها في السماء، جاءت لتحمي عرين هذا الوطن الجريح الذي تكالب عليه الأعداء من كل صوب. فهيأت الإنقاذ للتحول السياسي بالسماح بتأسيس الأحزاب والدعوة للمشاركة في انتخابات برلمانية ورئاسية فتح باب المشاركة فيها لكل من أرد. • نعم قد تكون القوانين التي كانت تنظم العمل السياسي آنذاك- في نهاية التسعينيات- مقيدة بعض الشيء ولكنها قطعا أفضل من ذي قبل. حيث أن قبل ذلك لم يكن مسموح بالعمل السياسي على الإطلاق. قد يقول أحدهم ولكن لماذا كان التحرك العسكري أصلا. وهذا قطعا مخالفا لفهم الواقع الذي فرض نفسه ووجب علينا رفضه وفي ذات الوقت التعامل معه بحكمة. • والإنقاذ تعيش أكثر أيامها قوة واستقرارا والشعب السوداني بدأ ينال بعض الخير من صبره مع الثورة والعداء السافر من كثير من دول الخارج مع تورط بعض من يسمون أنفسهم بالقيادات السياسية والتاريخية ببلادنا، أوفي المؤتمر الوطني بوعده بالحل السلمي للحرب في جنوب السودان. وقد كان ذلك بالتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار بمشاكوس، ثم تبعه اتفاق نيفاشا الذي وضع حد للحرب وفتح صفحة جديدة للسلام والمحبة بين شمال السودان وجنوبه. • يمكن القول بأن الإنقاذ صبرت على محاربة الحركة الشعبية وأعداء الداخل والخارج خلال سنين عجاف كانت عصيبة عليها وعلى الشعب السوداني، فماذا التوقيع على اتفاق السلام والموافقة على منح الجنوب حق تقرير المصير في وقت تشهد فيه البلاد انفراجا كبيرا على كل المستويات والأصعدة؟ إنها الرغبة في الوفاء بما قطعته الثورة على نفسها منذ مجيئها، وليس رضوخا لضغوط واستجابة لظروف معينة فرضت عليها التوقيع على اتفاق السلام الشامل، وإلا كان الأجدر أن ترضخ في فترة الجفاف والسنين العجاف. • أعتقد إن الكثيرين يتفقون معي إن موقعي اتفاقية نيفاشا – حالهم كحالنا - لم يكونوا يعلمون الغيب عند التوقيع على الاتفاقية! وإن ما فعلوه كان جهد سنين من الحوار والنقاش واضعين مصلحة الوطن نصب أعينهم، متجاوزين مصالح الذات والأحزاب. وإن الاتفاق الذي تم بين الطرفين برعاية إقليمية ومشاركة دولية ومباركة أممية كان ملزما للطرفين اللذين اتفقا على أن يكونا شريكين في الحكم، والعمل معا من أجل مصلحة الوطن العليا في سبيل جعل الوحدة جاذبة. ولا أعتقد إن هناك من يختلف معي في أن لا تضارب بين العمل من أجل مصلحة الوطن العليا والعمل من أجل جعل الوحدة جاذبة! حيث أن مصلحة الوطن العليا تقتضي أن يكون البلد موحدا. وحمد لله أن أشتمل الاتفاق على أن يرضي الطرفان بنتيجة الاستفتاء الذي يفترض أن ينظم في جنوب السودان بعد فترة انتقالية تستمر ست سنوات. حيث أن هذه الفقرة قد تعني أيضا أن مصلحة الوطن العليا تقتضي انفصال الجنوب عن الشمال – لا قدر الله- إن هم أرادوا ذلك، تفاديا للعودة مجددا للحرب. • قدر الله أن يقضي زعيم الحركة ومؤسسها قرنق بعد أيام قلائل من توليه منصبه الجديد نائبا للرئيس ورئيسا لحكومة الجنوب. وأن يخلفه السيد سيلفا في مواقعه المختلفة. وشاءت الأقدار أن يسفر غياب قرنق عن ظهور جوقة جديدة قليلة التجربة السياسية والأدب السياسي العام. • أعلاه ذكرت أن من البديهي أن لا يكون هناك تعارض بين مصلحة الحزب الضيقة ومصلحة الوطن. وإن حدث ذلك فهذا يعني إن هناك شيء خطير يجري وسط القائمين على هذه الأحزاب. حيث أن الوطنية تعني الوطن أولا، وإن لم يكن الوطن الأم أولا، فذلك يعني أن هناك خلل كبير في مفهوم وحجم الوطنية لدي هذه العصبة! ثم إن هناك علاقة مباشرة بين مصلحة الوطن والمواطن، هذا يعني أن الفئة التي لا تراعي مصلحة الوطن فهي بالضرورة لا تراعي مصلحة المواطن! إذا ماذا تكون عساها أهداف حزب لا يراعي مصلحة الوطن ولا مصلحة المواطن؟ أي مصلحة إذا يسعى لتحقيقها هذا الحزب؟ • إن الحركة الشعبية بعد رحيل قرنق – سبق أن كتبت أكثر من مقال حول هذا الموضوع نشر على هذا الموقع الأقر "سودانايل"- لم تعد هي ذاتها الحركة الشعبية قبيل رحيله. حيث تبدلت القامات وتلتها الهامات والهمم والأهداف والوسائل. تبدل كل شيء في الحركة حتي لم نعد ندري أهي ذاتها الحركة التي كان قد أسسها الراحل قرنق أم هي نبت آخر لا ندري أصله. • إن الحركة اليوم فشلت في التحول إلى حزب سياسي، وفشلت أن تكون جزء من الحكومة فألتبس عليها الأمر ولم تعد تدري أحزب حاكم هي أم معارض أم حركة مسلحة. وهذا يتضح جليا من خلال تصريحات قياداتها وعلى رأسهم أمينها العام الذي تدفعني تصريحاته ومواقفه للتساؤل إن كان قد نال حظا وافرا من التعليم السياسي يؤهله لمثل هذا المنصب الحساس؟ كما أتساءل إن كان بوسعه أن يشغل هذا المنصب في حياة الراحل قرنق؟ • لم أسمع في حياتي قط أن يخرج حزب مشارك في حكومة ائتلافية للتظاهر ضد الحكومة ذاتها. إنه والله لشيء عجاب! لا أريد أن أقف في صف المؤتمر الوطني ولكن تصرفات الحركة الشعبية الطائشة تجعل من هو في أقصي اليمين لا يستغرب من يقف في أقصي الشمال. كيف يمكن لأمين حزب مشارك في الحكم أن يهدد شريكه في الحكم بالخروج إلى الشارع في تظاهرات مليونية؟ أين السياسة؟ أين فن التفاوض؟ أين الدبلوماسية في التعامل؟ أين الحكمة؟ أين وأين وأين؟ كيف للحركة أن تسحب أعضاءها بالبرلمان وتطالب البرلمان بإجازة قوانين يفتقد البرلمان النصاب القانوني لإجازتها بسبب انسحاب أعضاءه من الحركة؟ كيف للحركة أن تطالب بتعديل نتائج التعداد السكاني في الجنوب وهي من قامت بتنفيذه بمراقبة دولية؟ كيف للحركة أن تطالب بتعديل قانون الصحافة وهي التي صاغت بنوده الأكثر تشددا بيراعها؟ كيف وكيف وكيف؟ • لقد بددت الحركة الشعبية كل طموحات وآمال الشعب السوداني وطموحاتنا وآمالنا والتي عقدناها على ناصيتها بالتحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة وقيام دولة القانون والحكم الرشيد. • كثيرا ما أتساءل هل كان يمكن للراحل قرنق أن يذهب إلى واشنطن ليطالب الإدارة الأمريكية بعدم رفع العقوبات المفروضة على بلاده، بل والمطالبة بتشديدها أكثر وأكثر؟ لا والله لا أعتقد إنه كان يمكن أن يفعل ذلك! هل كان يمكن للراحل قرنق أن يهدد بالنزول إلى الشارع وهو في سدة الحكم؟ هل كان يمكن للدكتور قرنق أن يصيح بأعلى صوته بأنه يؤيد الانفصال، ولما تنقضي الفترة الانتقالية بعد؟ هل كان لقرنق أن يرى العائدين إلى الجنوب طوعا يعودن أدراجهم مرة أخري من حيث أتوا لغياب أداني متطلبات الحياة في الجنوب؟ هل كان لقرنق أن يصمت على الفساد داخل الحركة وحكومة الجنوب الذي أصبحت تشتكي منه حتي الدول الصديقة المانحة؟ • بعض الأحزاب تقول إنها غير مستعدة الآن للمشاركة في الانتخابات! وهي لذا تطالب بتأجيلها!!! من البديهي أن تطالب أحزاب المعارضة بإجراء الانتخابات في موعدها، بل وتطالب في كثير من الدول بإجراء انتخابات مبكرة في محاولة للوصول إلى دفة الحكم. أما أن تنادي الحكومة بالانتخابات ونجد أحزاب المعارضة تعارض قيام الانتخابات فهذا ما لم نسمع به في آباءنا الأولين. • أعتقد إن المصلحة العامة تقتضي قيام الانتخابات في موعدها المحدد وبمراقبة دولية وأممية في كل مراحلها. وعلى الأحزاب التي تعتقد بعدم قدرتها على المشاركة في الانتخابات الحالية بمفردها أن تدخل في ائتلافات مع حزب أو أحزاب أخري، حيث أن المهم الآن قيام الانتخابات في موعدها، لأن قيام الانتخابات هو قطعا خطوة مهمة للغاية في طريق التحول الديمقراطي وحفظ الحقوق وقيام دولة القانون والحكم الرشيد. وكما سبق وقلنا أعلاه فإن مصلحة الحزب الضيقة لا يجب أن تكون فوق مصلحة الوطن. فإن كان هناك تعارض مرحلي بين مصلحة الحزب والوطن فإن مصلحة الوطن هي الأولي، ومصلحة الوطن تقتضي قيام الانتخابات الرئاسية والتشريعية في موعدها استعدادا لمرحلة قادمة تحمل بين أحشائها تحديات كثيرة ليس أقلها الاستفتاء في الجنوب. ولنا عودة،،، karima kookoo [[email protected]]