هذا المقال هو في حقيقة الأمر البداية التي أتمنى لها الاستمرارية بين المثقفين السودانيين الذين لازال دورهم غائباً في تشكيل الوعي المجتمعي على اختلاف أطيافه السياسية والثقافية والاجتماعية .... وهو أيضاً جزء من بحث طويل أسعى لتحصيله ليشمل تفكيرنا السياسي والاقتصادي في ظل غياب مشروعنا الوطني والرؤية المستقبلية منذ قيام الدولة السودانية وحتى الآن . والغرض من ضربة البداية هذه , هو إفساح المجال أمام النخب السودانية بأن تقول بما لديها من أفكار ومرئيات من منظور علمي ليس للأدلجة السياسية أو النظرة الجهوية او التفكير المجرد الآني الخالي من الموضوعية أية مجال أو دخل , بل هي أفكار موضوعية ذات خطوات قابلة للقياس بعد كل مرحلة وأخرى منطلقة نحو أهداف وطنية سامية تعلو على الذاتية لما يجب أن يكون عليه السودان فلتقل بعد عشرين أو خمسين سنة قادمة ... ليس مهماً من يحكم السودان طوعا أو كرهاً , تراضياً ام غصباً ولكن المهم أن تسير القافلة في الدرب الصحيح لتحقيق تلك الرؤى والاهداف الوطنية ....... بمعنى أن لا نبدأ من جديد بنهاية وبداية كل حقبة جديدة , بل يجب أن يكمل للاحق السابق مادام الجميع قد توافق منذ البداية على تلك الرؤى بأهدافها ومساراتها الوطنية المعروفة ... ويتطلب ذلك بالضرورة نقد منهاجناً السابق في التفكير ونظم الحكم والتربية والبالي من عاداتنا وتقاليدنا , بل وإعادة النظر في قراءة تاريخنا المروى والمحكى والمكتوب ونمط حياتنا واسلوب تفكيرنا وتناولنا للأشياء بالتحليل والتقييم والتجريب والتعديل الذي يجب أن يكون ... وأولى خطوات هذا النهج هو نقد العقل السوداني .... فماذا نعني بنقد العقل السوداني ؟ يعتبر الفيلسوف الألماني عمانويل كانط (1724-1804) أول من تناول فكرة النقد الفلسفي للعقل في كتاباته المبكرة ومنها كتاب ( نقد العقل الخالص )عام 1781م ، وكتاب ( نقد العقل العملي ) عام 1788 , ومن ثم قام بتقليده عدد من الفلاسفة والكتاب منهم ""جوفروا "" وجون لوك""و""لينتز"" وفي عالمنا العربي " زكي نجيب محمود "" ولكن أكثرهم شهرة في هذا المجال "" محمد عابد الجابري " في كتابه ( نقد العقل العربي ) بأجزائه الاربعة . ورغم التباعد الذي قد يبدو ظاهراً بين ما هو فلسفي وما هو سياسي , إلا أن المنطلقات النقدية واحدة من حيث المبادئ الأساسية خاصة في جوانبها الاخلاقية التي يجب أن تحكم ما هو سياسي إذا أردنا المصداقية في التوجهات والمنطلقات الوطنية , فقد خلص " كانط " في تحليلاته الفلسفية الى المبدأ الأخلاقي الذي عرف به وهو الارادة الصالحة ... البعض قد يعتبر ذلك تعبيراً فلسفياً لا يعتز به , ولكنه في حقيقة الامر فالإرادة الصالحة هي ارادة العمل بمقتضى الواجب , أي الواجب وحد ودون أي اعتبار آخر .. وقس على ذلك بقية أعمالنا ... وهنا أترك الباب مفتوحاً أمام سؤال كبير إن كانت أعمالنا منذ فجر الاستقلال تقوم بمقتضى الواجب الوطني وحده دون أي اعتبار آخر ؟!! نقد الفكر السياسي ما بين قيام السلطة الزرقاء , بدايات الحكم السياسي الوطني في السودان , في منتصف القرن التاسع عشر وحتى مدخل الألفية الثالثة , باستثناء فترة الحكم الاستعماري للسودان , لم يعرف السودان فكراً سياسياً يمكن التأسيس عليه بما في ذلك حكم المهدية الذي كان يمكن ان تتلمس فيه بعض الملامح ذات الطابع الديني الجهادى الذي لا يخلو من الدروشة والغيبيات , ولكنه سرعان ما تلاشى وانطفأ بعد تولي الخليفة عبد الله التعايش شئون الحكم في البلاد ... ولا اعتقد أن فترات الحكم الشمولي عسكرية كانت ام مدنية كان لها الطابع الفكري المميز . إذن , لم يعرف السودان في تاريخه الطويل معنى الفكر السياسي القائم على اصول الحكم بأي شكل من أشكاله , ولم يكن له في أي وقت مضى مشروعا سياسيا أو وطنياً أو رؤية مستقبلية منذ نيله الاستقلال وحتى الان . وهنا نترك الباب أيضاً مفتوحاً أمام السؤال الذي يفرض نفسه : متى يكون للسودان مشروعاً وطنياً شاملاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً ؟ لماذا لا تساهم النخب السودانية من أهل الفكر والثقافة في بلورة هذا المشروع بعيداً عن كل الاهواء والتطلعات الجهوية والاثنية ؟ دعونا معاً نحدد الاطار العام لهذا المشروع الوطني بأن نحدد الأهداف الوطنية العليا والغايات التي تخدم انسان السودان وتحقق طموحاته ورفاهيته في المستقبل الذي نحدد معالمه .... ماذا نريد وكيف بعد عشرين او خمسين سنة أن يكون حال المواطن السوداني في الصحة والتعليم والتوظيف وبناء الاسرة السليمة ؟ كيف حال اقتصادنا الوطني ... وهل نحن أرباب صناعة أم أهل رعي وزراعة .... وكيف يكون ذلك بما يحقق متطلبات التنمية المستدامة ؟ باختصار هي محاور أربعة رئيسية بدأت تظهر بشكل جلي في معظم طموحات ورؤى الدول المتطلعة الى الحياة , وأعني بذلك الإنسان أولاً واخيراً وما يرتبط به من محاور وهي التنمية البشرية , والاقتصادية والاجتماعية وشئون البيئة .. دعونا نكتب ...ونتحاور ونتناقش , وكيف نشارك بذواتنا وتجمعاتنا المتجردة من كل هدف الا مصلحة الوطن في بلورة ورسم الخطوط العامة لهذا المشروع الوطني الذي أحسب أنه سيكون أقوى من أي دستور أو تشريع أو قانون عرفه السودان ... باعتباره المشروع الوحيد الذي يتوافق عليه أهل السودان ويسيرون على نهجه بغض النظر عن الذي يحكم السودان ... ودعونا مبدئياً ان نطلق عليه اسم ( رؤية السودان الوطنية 2056) مائة عام على استقلال السودان فماذا نحن فاعلون ؟