عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) بسطتْ القوى الكولونيالية سلطانها على البلدان والشعوب المستضعفة، في إقليم الشرق الأوسط وقارة أفريقيا، قبل عقود طويلة، ولكن خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بلغت سطوتها شأواً بعيدا . لم يتراجع نفوذها كما هو ملاحظ، إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939-1945). إثر اتفاقيات "سايكس- بيكو" في عام 1916 ومظلومياتها، تشكّلت خريطة الشرق الأوسط من دول قطرية، بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية، وتفرّق سامر الخلافة أيدي سبأ.لم يكن من اهتمامات "سايكس" ممثل بريطانيا، ولا صنوه الفرنسي "بيكو"،النظر في طبائع تلك الأنظمة التي نحتوها على الأرض نحتا، ولا كان من هموم تلك القوى الكولونيالية ، الالتفات لمقومات بناء دولٍ، تشظّت من واقع انهيار الخلافة العثمانية، أو حماية شعوبها من الوقوع في فخاخ الاستبداد، الذي ينتظرها في منعطفات التاريخ. لم تبادر تلك القوى الكولونيالية لتأخذ بيد تلك الشعوب، فتعينها على رفع الوعي ببسط الحريات واحترام الشورى، وبناء أنظمة حكم عصرية بمقاييس ذلك الزمان، تتجاوز عبرها واقعها التقليدي ، وتخرج تلك الشعوب، من عباءة القبلية والعصبيات الطائفية، إلى أفق جديد . . (2) لم تحمل تلك المجتمعات البدوية والرعوية ، الغارقة في الإقتصاديات التقليدية ، في طيّات مكوناتها، ما يساعد على نشوء أنظمة، تعتمد هياكل حقيقية للشورى، وأسس للديمقراطية وللحكم الرشيد، في دول قطرية ، نشأت أصلاً عبرمخاض قسري وتدخلات خارجية طاغية. لكن ذلك الواقع الذي رزحتْ تحته أغلب شعوب وبلدان الشرق الأوسط، بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وجراحات التشظى الذي أحدثته القوى الكولونيالية، قد أحيت جميعها في الوجدان العربي،ذلك التوق الذي قد يعيد اللحمة العربية إلى سابق تاريخها . لعلّ هذا التوق- أو هو الشوق- هو ما يفسر جزئياً، إقدام الدول العربية المستقلة في عام 1945لإحياء حلم الوحدة من جديد، بإنشاء "جامعة للدول العربية"، على هدي ميثاق صيغ لتحقيق ذلك الهدف. كان المؤمّل أن تعين ثروات النفط لتحويل المجتمعات العربية للوصول إلى ذلك الهدف.. (3) غير أن واقع التشظي قد ولّد بذور الخلاف بين معظم الأنظمة السائدة ، فانقسمت الأنظمة العربية إلى "تقدميين" من جهة ، و"رجعيين" من جهة أخرى . تقلبت العديد من بلدان الشرق الأوسط وقلبه العربي، في العقد الذي تلا سنوات الحرب الثانية في نيران "الحرب الباردة"، وخلافات الاستقطاب، ثم انحدر بعضهاإلى هاوية الانقلابات العسكرية. فشل النخب المدنية في إدارة أحوال بلدانها، قدأغرى المؤسسات العسكرية في تلك البلدان للإطاحة بالنخب الفاشلة، وتولي القيادات العسكرية، زمام الأمور فيها. تلك كانت أعراض عللٍ مزمنة، أولها الافتقار لمقومات الحكم الرشيد وأصول الشورى التي تعطي الشعوب حقا في تسيير أمورها، وآخرها تصاعد أثر الإستبداد، بغير كوابح، وشيوع الفساد بلا محاسبة . الجامعة العربية- بسنواتها السبعين- هي "بيت العرب" الذي لم يبرح نطاق الحلم. منذ لحظةِ إنشائها في عام 1945، قد أحاطت بها الشكوك . سمعنا من ادّعى أنها هيكل بلا مضمون، بل وذهبت الرّيَب إلى حدّ ادعاء أنها صنيعة بريطانية، ألبسوها ثياباً عربية. ياله من ميثاق سامي، ويا لها من أهداف نبيلة، وما أبعدها من وحل العمالة. . ! غير أنها ظلت حبيسة جدران حلمٍ بعيد المنال. على عظم التحديات التي مرّت بأمّة العرب، واهتزت لها أحوال الشرق الأوسط ، من محيطه إلى خليجه، فإنك لا ترى حولك، إلا شعارات وحدة عربية معلقة في السماء ، ولم تتنزل إلى أرضٍ، ولم تخالط تراب الواقع. ترى وتسمع عن اتفاقيات للدفاعالعربي المشترك، ومعاهدات أخرى لتحقيق وحدة اقتصادية عربية ، بل ومبادرات لأشكال من الوحدة والاندماج، عبر بناء هياكل سياسية تلمّ الشمل، ومبادرات طموحة نحو حل المعضلة الفلسطينية، إلا أنّ جلّ ذلك أو أكثره، بقي في نطاق الحلم، تكتبه الأقلام، ويحرر في الصحف، وتحفظه الأضابير. . (4) الآن يجري التخطيط في أمكنة بعيدة، لرسم خرائط جغرافية وسياسية للشرق الأوسط، تحل محل الخرائط الموروثة منذ "سايكس- بيكو"، بذرائع مبتكرة. لن ترسم خرائط السيطرة بمعايير الجغرافيا وحدها، مثلما حدث في عام 1916. نحن في بدايات الألفية الثالثة، وتحت رايات حملات "مكافحة الارهاب الدولي" ، يجري تجهيز الخرائط الجديدة، وتتم صياغة الحيثيات ، وضبط المبررات ، واحتساب التداعيات. كاد رئيس أمريكي سابق أن يسمي الحملة "حرباً صليبية" جديدة. . ! تنبأت مراكز بحوث ودراسات سياسية عديدة في الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وفي أعقاب ما بات يعرف بهجوم 11 سبتمبر الإرهابي، بوقوع تغييرات كبيرة على خرائط تلك المنطقة التي انطلق منها الهجوم "الإرهابي" الأخطر، واهتزت له ركائز الحضارة الغربية، وأعلنت حالة الإستعداد الفكري الكبرى، وأيضاً حالة التغييرات التي ستعقب ذلك الاستعداد والتمهيد الفكري. . (5) إن تفكيك الفكرة، يستوجب عملاً فكرياً متواتراً، ينتهي في آخر يومه ، بتفكيك "الدول" نفسها التي شكلت حاضناً لتلك الفكرة القاتلة : "الإرهاب الدولي"، بنظرٍ أمني محض، تغافلاً عن التحليل المعمّق. لقد لفتَ نظر المراقبين، ذلك التعبير الغريب الذي استعمله بوعي كامل "باراك أوباما"، رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية، في حديثٍ صيغ بكلمات دقيقة منتقاة في أغسطس الماضي عن "العرب السنة"، فيما هو يعرض في الحديث عن أحوال الشرق الأوسط،وتداعيات الاتفاق التاريخي الذي أنجزه الغرب مع إيران الإسلامية ، بشأن البرنامج النووي لتلك الدولة الإسلامية. ذلك تعبير- وليس زلة لسان يُعتذر عنها-ينبي عن توجهات خطيرة قادمة، تؤشر بوضوح لاتجاهات حقيقية لرسم خرائط جديدة، ولتحالفات في منطقة الشرق الأوسط، تذهب إلى أبعد ممّا حققت اتفاقيات "سايكس- بيكو". المعايير هذه المرّة، تعتمد الخلافات المذهبية لرسم الخرائط الجديدة. . (6) إن الجامعة العربية ، وهي بيت افتراضي، أنشأه أصحابه لتحقيق أحلامهم في الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية ، قد انتهى أمرها لتكون بناية حقيقية في قلب القاهرة من طوب وأسمنت، يدير مكاتبها أمين عام مصريإسمه "نبيل العربي" وبضعة موظفين، يشكلون سكرتارية لأصحاب الشأن، الذين ذهب أكثرهم إلى غياب لم يساعد في علاج علل تلك الجامعة. بقي ذلك العربي النبيل وحيداً، كأنه يدير بيتاً للأشباح، فيما اللاعبون الأصليون ، من وراء البحار والمحيطات، يديرون أحوال البيت بالتحكم عن بعد، ويعدّون لتعديلات خرائطه، ليس على الأطالس فحسب، بل على الأرض العربية، ببشرها وترابها ومواردها وثرواتها. . لقد تنامت قوة الأثر الخارجي على الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط، وعلى مصائر شعوبها، بعد أن تعززت، عبر ثورة الاتصالات والتواصل، مقوماتالشفافية ورسختْ أجواء الانفتاح العام، بما لم يعد معه التستر على فساد أساليبالحكم ممكناً، أوالتلاعب بأقدار الشعوب، مما لا ترصده عين . صارت هيئة الأممالمتحدة مطية لأجندات السيطرة وفرض الإرادة، رضيت الشعوب المستضعفة أم أبت. . تلميحات الإدارة الأمريكية الحالية، تشي بتبدل قادم في التحالفات ، وأن لا مكان لصداقات دائمة، ولا لعداءات مستدامة. . إن النظام العربي برمته يعاني من اختلالات بنيوية ، لعلّ أوضح معالمها غياب الدور الرئيس والمؤثر للمجتمع المدني العربي. ليس في تاريخ الجامعة العربية أو أمانتها، منذ سنوات التأسيس، ما يشير لدور يمكن أن تلعبه الشعوب بإرادتها ، أو يتاح لصوت كيانات المجتمع المدني أذناً تسمع، إن كان ثمّة أعذار في ضعف تلك الكيانات، في سنوات إنشاء الجامعة العربية في أربعينات القرن الماضي، فما العذر الآن. . ؟ (7) لعل أوضح معلم لإهدار النخب العربية فرصها ، وقد تولت أمر القضايا العربية منذ عام النكبة 1948، هو فشلها الذريع تجاه قضية إلغاء فلسطين من خريطة العالم ، وإن حققت نجاحاً خجولاً، بانتزاع اعتراف ضعيف من المجتمع الدولي. يكفي ما قد رأينا من جرأة إسرائيل الشريرة في حصار "عرفات" حتى مقتله، ومن استمرار محاصرة غزة وشعبها وفق إرادة إسرائيل ، وابتزازها للمجتمع الدولي، بلا حسيب ولا رقيب. تظلّ الجامعة العربية – والأوجب أن نقول تظلّ "أمانة الجامعة العربية"- على حال ضعفها، يتقزّم حجمها يوماً بعد يوم، إزاء التحديات المتعاظمة ، بدءاً من الانكشاف المعلوماتي من أثر العولمة، إلى العجز عن الاستجابة الحقيقية لحاجات الشعوب العربية، واستصحابها في الحراك التنظيمي ل"الجامعة العربية". . وإن فعلت ذلك بنية صادقة، فإنّ النظام العربي الماثل سيهتز، وقد لا يسمح بإضعاف سلطانه المكتسب تاريخياً. . (8) لعلّ ما لا يقدر عن الإفصاح به لسانٌ عربي ، هو الحاجة لانتزاع الإرادة العربية من براثن أنظمة عديدة، ظلت متحكّمة في المصائر العربية ، تناور في قضاياه لعقود خلتْ، وافتقرتْ معظم نخبها إلى الإرادة الحقيقية للتغيير، ولضبط البوصلة نحو مقومات حكمٍ رشيدٍ مقتدر، يحمي المصالح، ويستنير بالفكر . . ليس المطلوب ربيعاً على النسق المصري أو التونسي أو الليبي، بل ربيعاً عربياً يزلزل التاريخ العربي من أصوله، ويتخلّق عبر حراكه، جيلٌ عربي يفرز نُخباً تتصدى بكل جرأة، لحلحلة القضايا التي فشلت أكثر النخب العربية التقليدية، في التصدي لمداواة عللها، ورأب تصدعاتها. لقد انتهى الأمر بمصائر الأمة، أن صارت ألعوبة بيد القوى المتسترة وراء ما يسمى ب"المجتمع الدولي". تلك قوى تجاهر بالمناورات، تجاوزاً لإرادة أصحاب الشأن، وترسم الخرائط وفق أجنداتها، وتبتدع من التعابير الملتبسة، بما يتيح لها تحقيق مكاسب كبرى، تبدأ بالفكر الناعم عند الفجر الكاذب، وتنتهي باستغلال الموارد قبل الظهيرة. . ! علينا أن نعدّ لرسم خرائطنا بأنفسنا ، لا أن يعدّها بالنيابة عنا الآخرون. . الخرطوم – 3 سبتمبر 2015
