ثمة أغنيات شكلت وجداننا وصنعت ذائقتنا تجاه الوطن نحن أبناء السبعينات الباكرة والحق ان ذلك لم يكن حصرا علينا وحدنا ، فقد شكلت الاغنيات وجدان أجيال ثمة أغنيات شكلت وجداننا وصنعت ذائقتنا تجاه الوطن نحن أبناء السبعينات الباكرة والحق ان ذلك لم يكن حصرا علينا وحدنا ، فقد شكلت الاغنيات وجدان أجيال وأجيال من أهل بلاد السودان الساكنين بين خطي العرض 22 و 3 الي حين اشعار اخر . وقتها كانت الاغنيات تبث من هنا امدرمان زمن لم يك ثمة من اذاعات اخري غير اذاعة امدرمان . وكانت هنا امدرمان في ذلك الزمان عدا كونها مصدرا لتشكيل وجداننا ، كانت مصدرا لثقافة الناس ومصدرا لمعرفة أحوال الموت والحياة في بلاد السودان ، أذ كان من الدارج ان تنتهي نشرة الاخبار بتلك اللازمة : أيها السادة : ومن أخبارنا المحلية ، توفي اليوم بالفجيجة فلان الفلاني والد كل من فلانة وفلانة وفلانة وعم كل من .....ويقام المأتم بالفجيجة غرب شندي ... الخ مما بدا لي أنه قد اختفي الان بظهور الموبايلات وتحسن خدمات الاتصال . كان يكفي أن يغني عبدالعزيز المبارك "بتقولي لأ " لتنفطر قلوب الصبايا السودانيات ، أو يغني زيدان ابراهيم " أخونك " لتفعل تلك الكلمات فعلتها بمستعربي السودان من الجنسين . وبالنسبة لي وكون اني واحد من مستعربي السودان او سكان السودان الشمالي فقد راقت لي فكرة الغناء زمنا ليس بالقصير ايام طفولتي الاولي . وظني أنه قل ان تجد من لم يغن او تحدثه نفسه بالغناء يوما ما تحت شمس هذه البلاد المشرقة ! لا أزال أذكر للان تلك التربيزة الحديد التي كنا نجعلها كآلة ايقاع ونغني علي انغامها انا وامي وجارتنا عفاف . كانت عفاف وقتها في نهايات المرحلة المتوسطة أو بدايات المرحلة الثانوية فيما يبدو لي الان . وقتها لم تكن ارتفاعات الحوائط او الجدران بين الجيران قد بلغت ارتفاعها الان . لا أزال أذكر ذلك وكأنه بالأمس: كانت عفاف تطل علي أمي من حيطة منزلهم الواطئة مستندة علي بنبر اختفي الان ضمن ما اختفي من تفاصيل حياتنا . ثم كنا نبدأ بالغناء . كنت وقتها نجم حفلتنا المصغرة صادحا بأغنيات دربتنا هنا امدرمان علي الاستماع اليها فطورت ذائقتنا قبل أن يتسلط عليها من لا ذائقة لهم ولا احساس . والان واذ اتأمل تلك الاغنيات اجدني ممتنا لاولئك الشعراء والمغنين ، بل وأجدني متعجبا من تفرد تلك الاغنيات . لقد صاغ السودانيون من الغناء ما ان توفر لناس ذوي همة في الترويج لأنفسهم لبلغوا في ذلك الأمر شأواً عظيما . انظر بالله لتلك الكلمات وتذكر حمد الريح وهو يغني : " فيها ايه لو كان جفاك بحسن نية ؟ " ! وربما كان حمدالريح هو اول من اراه من الفنانين عيانا بيانا او وجها لوجه ان شئت الدقة اذ كان في وقت من الاوقات صديقا لوالدي بحكم عملهما معا بمكتبة كلية الطب بجامعة الخرطوم حينا من الزمن. كانت اغنيات حمد الريح محملة علي الدوام بذلك المزيج الحراق من الاسي والحنين ، انظر اليه في " اوعي ليل الغربة ينسيك ريحة الطين في جروفنا" ، والحقيقة انه ربما بدا لك مثل ذلك الكلام وتلك التعابير محض بلاغة شعرية ، غير انك لا شك مكتشف حفر تلك المعاني فيك عميقا ان تسني لك الرحيل خارج البلاد ، أو حتي ان هجرتك الحبيبة . كنت دائما ضد تلك المقولات الفطيرة التي تقلل من وطنيتنا نحن اهل السودان والحديث عن لا انتمائنا، والا فقل لي كيف كتب اولئك الناس تلك الاغاني او كيف تفعل تلك الكلمات بهؤلاء الناس مثل هذه الافعال ! وماهي الوطنية ياهداك الله ان لم تكن بعض ذاك الحنين ، قال قائلهم : يارمال حلتنا زولا كان بزورك ياحليلو ... الخ ! من المؤسف انه قد تسلط علينا طوال تاريخنا من لم يقدر اغنياتنا وتاليا لذلك لم يقدرنا نحن ذاتنا . سعدت طفولتي وأقراني من أولاد الخالات بحضور عبد العزيز العميري في بواكير أيامنا . كان العميري صديقاً حميماً لأخوالي عمر وعلي أبوراس . وكثيراً ما بقي عندنا بالبيت لعدة أيام . اجترح العميري ذلك الغناء العجيب بصوته الرخيم الفخيم : يا قمر أنا ما باطولك .... أديني من نورك شعاع .... وكتب العميري أغنيات عجيبة هي الأخري : دي حتي الأغنيات قبلك .... حروف أبياتا كانت ساي ! قلت مرة للفنان عثمان مصطفي انني لم أجد أستعمال ساي هذه مرة أخري في أية أغنية الا ما يشابهها في أغنيته آسرني يا مياس : ما لقيت في دنيا الناس / ساكت شبه زيك . ظلت أغنية الثلاثينات والأربعينات بل وحتي العشرينات من القرن الماضي ملازمة لنا في طفولتنا بل والي يومنا هذا . كانت تلك الأغنيات أو ما اصطلح عليها بأغنيات الحقيبة قصة أخري من قصص النوستالجيا الشجية لمستعربي السودان . كتب محمد بشير عتيق " جسمي المنحول براه جفاك / يا مليح الزي" وقت لم يعرف الناس للصبيات زيا غير توب الدمورية ، فاذا بتلك الكلمات تلازمنا الي حين غنتها الصبيات ذاتهن ! كذلك كتب العبادي " ياعازة الفراق بي طال / وسال سيل الدمع هطال " . عطر ايامنا بصوته وبأغنياته وبألحانه الفارقة زمنا طويلا شرحبيل أحمد. باستعماله موسيقي الجاز وتوظيفه لالات الجاز وتلك الكلمات الشجية .غنت بلاد السودان زمنا طويلا ولا تزال ياللابس البمبي والليل الهادي وستار ياليل... وغيرها. واحدة من تلك الأغنيات قام بسرقتها واحد من فناني مصر ونسبها لنفسه ، ذات المغني الذي صرخ في هواتف فضائيات بلاده أيام هزيمة الجزائر لبلاده بالخرطوم أو أمضرمان ان شئت التحديد: احنا بنمووووووووت ! فتأمل! وعلي ذكر الجزائر فلن تكتمل ذاكرة أغنياتنا دون المرور بأغنية اسيا وافريقيا للشاعر تاج السر الحسن وقت يصدح بها عبدالكريم الكابلي: يا جزائر .. هاهنا يختلط القوس الموشى / ها هنا من كل دار .... كل ممشى ، كانت تلك واحدة من أغنياتنا التي اختفت الان بعد أن تحول السودان الي وطن ذي رسالة للعالمين ، كانت الاغنية تبدأ هكذا: عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمة / ويطل الفجر في قلبي على أجنح غيمة /سأغني آخر المقطع للأرض الحميمة / للظلال الزرق في غابات كينيا والملايو/ لرفاقي في البلاد الآسيوية .. للملايو ولباندونق الفتية ... غني السودانيون بعربية فصيحة وبكلمات غاية في العذوبة ولكن اذان العرب كانت في شغل عنهم . الأغنيات بأي عصر لم تكن منقطعة عن مجمل الحياة بذلك العصر. كنت لا أزال بالمرحلة الابتدائية وقتها حين كان خالي علي ابوراس يصطحبني لحوض السباحة بنادي الاسرة . وهو النشاط الذي فشلت فيه تماما – أعني السباحة - ، في المسافة من البيت للنادي كان علي دائما ما يغني ذات الاغنية : الجاني منك / ومن تباريح الهوي / وصفو بصعب ياجميل .... تلك كانت هي الاغنيات ايام كانت نوادي الاحياء تحتفي بحمامات السباحة ! كبرنا وكبرت أحزانا كما قال المغني والتقيت وتعرفت بعدها بالفنان محمد ميرغني ذات نفسه ، كان شبيها بأغنياته والحق أن كل فنان يشبه أغنياته بدرجة ما . طغي علي ذاكرتي ولون ذكرياتها لفترة الظهيرة في ذلك الزمان صوت المعتصم فضل الذي قدم لسنوات برنامجا باذاعة امدرمان كان اسمه " ألحان" . كانت مقدمته كالتالي: " ألحان ، معتصم فضل " . ارتبط ذلك البرنامج في ذاكرتي بحصة البيوت أوموعد العودة الي البيت من مدرسة الاتحاد الأبتدائية بنين ، أذ كنت حالما أصل البيت تصدح الاذاعة بتلك المقدمة . الأغنيات كانت ولا تزال واحدة من مكونات وجداننا ، الكتابة أعلاه جزء من كتابة طويلة أرهقتني ، وددت لو حالفني المزاج فأتممتها ، فللمغنين من لدن بادي محمد الطيب بل وقبله من زمن ود الفكي وليس انتهاء بالحوت محمود ما يستحق الكتابة . الي حين ذلك : تصبحون علي أغنية . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.