البشاعة والوضاعة تعتذران للنهود    وزير الداخلية ومدير عام الشرطة يتفقدان مركزي ترخيص أبو آدم وشرق النيل    (مليشيا البيع العشوائي من الرصيف للأمن القومي)    قواعد اشتباك جديدة : الإمارات تنقل الحرب إلى ميدان الاقتصاد.    وزير الداخلية ومدير عام الشرطة يتفقدان مركزي ترخيص أبو آدم وشرق النيل    توقُّف تكية الفاشر عن استقبال التبرعات نسبةً لانعدام السلع الأساسية في أسواق المدينة    نقل جمارك حاويات سوبا الى منطقة قري شمال بحري    قرعة بطولة دوري أبطال إفريقيا .. المريخ يبدأ المشوار من الكونغو والهلال من جنوب السودان    قرعة أبطال افريقيا..الهلال السوداني في مواجهة سهلة نسبيًا أمام جاموس جنوب السودان.. والمريخ في اختبار صعب أمام وصيف الكونغو    ثنائي ريال مدريد مطلوب في الدوري السعودي    عدد من الوزراء يؤدون القسم أمام رئيس مجلس السيادة    شاهد بالفيديو.. والي نهر النيل: (سنهتم بالسياحة ونجعل الولاية مثل جزر المالديف)    يعني شنو البروف المنصوري في طريقه الى السودان، عبر السعودية، وياخد أيام    مجلس الإتحاد المحلي الدمازين الرصيرص يجتمع ويصدر عددا من القرارات    موسى حسين (السودان): "المشاركة في بطولة "شان" توتال إنيرجيز حُلم طفولتي وسأسعى للتتويج بلقب فردي بقوة"    شاهد بالفيديو.. في تصرف غريب.. فتاة سودانية تقتحم حفل رجالي وتجلد نفسها ب"السوط" بعد أن رفض الحاضرون الإستجابة لطلبها بجلدها أسوة بالرجال    شاهد بالصور والفيديو.. وسط حضور جماهيري مقدر العافية تعود لشيخ الإستادات السودانية.. إستاد الخرطوم يشهد مباراة كرة قدم لأول مرة منذ إنلاع الحرب    شاهد بالفيديو.. ردد: "شكراً مصر".. طفل سوداني يودع القاهرة بالدموع ويثير تعاطف الجمهور المصري: (ما تعيطش يا حبيبي مصر بلدك وتجي في أي وقت)    شاهد بالفيديو.. ردد: "شكراً مصر".. طفل سوداني يودع القاهرة بالدموع ويثير تعاطف الجمهور المصري: (ما تعيطش يا حبيبي مصر بلدك وتجي في أي وقت)    شاهد بالفيديو.. القيادي بالدعم السريع إبراهيم بقال يهرب إلى تشاد ويظهر وهو يتجول في شوارعها والجمهور يسخر: (مرق لا زوجة لا أطفال حليلي أنا المآساتي ما بتتقال)    شاهد بالصور والفيديو.. وسط حضور جماهيري مقدر العافية تعود لشيخ الإستادات السودانية.. إستاد الخرطوم يشهد مباراة كرة قدم لأول مرة منذ إنلاع الحرب    "باشات" يكشف عن دلالات سياسية واستراتيجية لزيارة رئيس الوزراء السوداني لمصر    "الكتائب الثورية" .. إقامة أول مباراة كرة قدم في استاد الخرطوم الدولي منذ اندلاع الحرب    النيابة المصرية تصدر قرارات جديدة بشأن 8 من مشاهير «تيك توك»    تقرير أممي: «داعش» يُدرب «مسلحين» في السودان لنشرهم بأفريقيا    كارثة تحت الرماد    رئيس المخابرات حمل رسالة ساخنة.. أديس أبابا تهدد بورتسودان    رافق عادل إمام في التجربة الدنماركية .. وفاة الفنان سيد صادق عن عمر يناهز 80 عامًا    ضبط عدد 12 سبيكة ذهبية وأربعة كيلو من الذهب المشغول وتوقف متهم يستغل عربة دفار محملة بمنهوبات المواطنين بجسر عطبرة    والي النيل الأبيض يزور نادي الرابطة كوستي ويتبرع لتشييّد مباني النادي    لجنة أمن ولاية الخرطوم تشيد باستجابة قادة التشكيلات العسكرية لإخلائها من المظاهر العسكرية    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذ أنور أدهم فقد وطن وأمة .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 27 - 10 - 2015

أنور أدهم...عندما يرن هذا الاسم على مسمعي أرى أمامي الرجل القامة السامقة مجسداً في شكله ومضمونه..هوذلك الأسمر فارع الطول وضاح المحيا وضىء القسمات صاحب الابتسامة البيضاء والضحكة الرنانة وذو الهندام الأنيق..لا تملك إلا أن تعطيه كل الاحترام والتجلة بمجرد أن تراه أمامك حتى بدون سابق معرفة. هو إنسان ذو قلبين أحدهما كان صلباً لمسيرة نضال سياسي طويل، والآخر كان عاطفياً لمسيرة حياته التي كانت ملكاً للآخرين..وكما قالصادقاً أحد تلامذته فقد عناه الشاعر الكبير إدريس جماع حين قال: هين تستخفه بسمة الطفل ....قوي يصارع الأجيالا. هو ذلك الرجل ذو العقلية الراجحة والعلم الغزير والقلب الكبير.. قضى أكثر من نصف عمره مناضلاًمن أجل الحرية والعدالة الاجتماعية ومكافحاً عن الوطن والمواطنين ومن أجل حقوق الفقراء والمساكين في بلادي ودخل السجون وتغرّب مكرهاً في بلاد أخرى حينما ضيقوا الخناق عليه وعلى أمثاله من المناضلين الشرفاء.
الأستاذ أنور أدهم هو شخصية قلّ من لا يعرفها أحد من أبناء جيله وأجيال كثيرة من بعد جيله، فقد كان هو ومكتبهمدرسة وقبلة للقانونيين، فهو قانوني ضليع بل موسوعة في القانون والسياسة والسودان. تخرج من كلية الحقوق بجامعة القاهرة الأم في عام 1959 وبدأ ممارسة العمل القانوني في جنوب السودان منذ تخرجه وساعد فى قضايا الجنوبيين بل أكثر من ذلك ساعد أيضاً ثوار الكونغو وتعاون مع الزعيم "لوممبا" ورفاقه آنذاك. وعاصر كثيراً من النخب والسياسيين والقادة الجنوبيين وتربطه علاقة صداقة بالكثير منهم مثل الراحل جون قرنق وسلفاكير ومولانا أبيل أليروالراحل جوزيف قرنق وإدوارد لينو. في الستينيات من القرن الماضي انتقل مكتبه للعمل في الخرطوم وذاع صيته كمحامي قدير وسياسي محنك تولى الدفاع في قضايا السياسيين وطلاب الجامعات المعتقلين كما دافع عن البكباشى على حامد والبكباشى يعقوب كبيدة ورفاقهما من العسكريين المتهمين في المحاولة الانقلابية ضد حكم الفريق عبود. وقد عُرف عنه دعمه المتواصل للعمل الوطني من خلال مشاركاته الفاعلة وبذله الجهد والمال والعطاء المتجرد.
في أوائل السبعينيات انضم إلى مكتبه رجل قامة مثله ألا وهو الأستاذ المرحوم أبوبكر أبوالريش خريج جامعة الخرطوم وجامعة "ييل" الأمريكية في القانون عام 1967، وكان قبلها يعمل أستاذاً محاضراً في مادة القانون التجارىفي كلية التجارة بالمعهد الفنى (جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا حالياً) وأسسا مكتب "أدهم وأبوالريش المحاميان" (صار لاحقاً أدهم وأبوالريش وشركاهم)، الذي كان قد أصبح واحداً من أكبر مكاتب المحاماة في السودان، على نسق شركات المحاماة العالمية المكونة من شريكين مثل Baker and McKenzie وAllen & Overy وClifford ChanceوWhite and Case الخ... ولم أر في حياتي ثنائياً منسجماً في كل شيء : في الفكر والعلم والسياسة والشجاعة والحنكة والأدب وخفة الروح والصرامة والجسارة مثل هذين الأستاذين العملاقين. وربما لهذه السمات المشتركة فحتىأصدقاء المرحوم أبوالريش أصبحوا بصورة تلقائية أصدقاءاً للمرحوم أدهم والعكس تماماً، ومنهم على سبيل المثالالزعيم حجازي محمد حسن طيب الله ثراه، وهو أحد أعلام وأقطاب النوبيين في حلفا، لدرجة أن المرحوم حجازي أطلقاسم "أدهم" على واحد من أبنائه، تيمناً بالأستاذ، واستشهد أدهم الصغير غرقاً في ريعان شبابه، يرحمه الله.وإحتفاظاً لذات الإسم والعلاقة أطلق اسم أدهم أيضاً على حفيد المرحوم حجازي. ولذلك عندما رحل عن الدنيا صديقه وشريكه أبوالريش مبكراً، وهو في عقده الخامس، ترك في رفيق دربه الأستاذ أدهم ألماً وحسرةً لازمته حتى آخر أنفاسه ولذلك سوف تجدون أينما ذكر اسم الأستاذ أدهم يقترن معه اسم الأستاذ أبوالريش فقد صنعا كثيراً من الأحداث الهامة سوياً وتبادلا المراكز فعندما يكون الأستاذ أدهم في مكتب الخرطوم يكون الأستاذ أبوالريش في المحطات الخارجية في صنعاء أو مسقط أو لندن والعكس تماماً. وكان من الطبيعي أن يذيع صيتهما وأن يعملا كمستشارين لأكبر الشركات التجارية والبنوك وشركات التأمين في السودان كما عملا مستشارين لشركات أجنبية كبيرة كانت لها مصالح أو قضايا في السودان. والجدير بالذكر أن هذا المكتب كانت له إشراقات كثيرة سوف أعدد لكم بعضها على سبيل المثال، فهو من المكاتب التي كانت تعتبر مدرسة تخرجت منها أجيال كثيرة من كبار المحامين والمستشاريين القانونيين يعملون الآن في السودان وخارجه فأكثر من 90% من كبار المحامين والمستشارين القانونيين الذين قابلتهم داخل السودان وخارجه علمت منهم أنهم تدربوا في مكتب "أدهم وأبوالريش المحاميان". وعلى سبيل المثال لا الحصر أذكر بعض الأسماء التي عاصرتها هم الأساتذة البشرى عبدالحميد وأحمد بكري ومصطفى حسن محجوب ومحمد عبدالكريم وصلاح مختار وباولينو وعلي زين العابدين وعلي قيلوب وهشام ومحمد المرتضى حامد وعبدالرحمن ساتى والدكتورة أسماء عبدالحليم وعمر أحمد و المرحوم عبدالسلام حسن عبدالسلام وعباس توفيقوغيرهم الكثير من الأساتذة. وسوف أحكى لكم واقعة حصلت لما فيها من معانٍ عميقة وقد حكاها الأستاذ عباس توفيق بنفسة حيث قال : " إلتحقت بمكتب أدهم وأبوالريش المحاميان فور تخرجى من الجامعة بواسطة صديق لهما .. لم يكن مكتب محاماة فقط بل كانت مدرسة تعلمك كيفية ممارسة هذه المهنة بأخلاق ومُثل.. وبعد أن تدربت وتعلمت في هذه الجامعة إلتحقت بالهيئة القضائية قاضياً بسهولة.. وفى يوم ظهر أمامى في الجلسة الأستاذ أبوالريش محامياً في دعوى قضائية فكتبت في ملف الدعوى (محامى أحد الأطراف أستاذى تعلمت على يديه ولكى لا يعترينى ضعف أو إنحياز أمام حججه أرجو إحالة ملف الدعوى لقاضٍ آخر حتى ينظرها بحياد). هذه كانت أخلاقيات المهنة التي تعلمتها الأجيال المتعاقبة من مدرسة أدهم وأبوالريش أيام زمان، ولذلك كان حلم الكثيرين من القانونيين الالتحاق بهذا الصرحالذائع الصيت. وبما أن هذا المكتب كان متخصصاً أيضاً في قضايا التأمين والتعويضات فقد أرسى سوابق قضائية وقانونية كثيرة في مجال التأمين والتعويضات والمسئوليات القانونية والتعاقدية والتي أصبحت تدرس في كلية القانون بجامعة الخرطوم بل تحصل عدد من الدارسين فيها على درجة الماجستير في بعض هذه السوابق وهنا لا بد أن نذكر القضية الشهيرة الخاصة بحرائق الاقطان في ربك بعيد حوادث الجزيرة "أبا" والدعوى القضائية التي أقامها مشروع الجزيرة ضد "شركة التأمينات العامة" للتعويض تحت الغطاء التأميني لأخطار الحرب وأعمال الشغب والاضطرابات والتى خسرها مشروع الجزيرة اثر مذكرة قانونية ضافية وتعريف دقيق عن ماهية تلك الاخطار من الاستاذين أدهموأبوالريش وقد حضر عدد من كبار رجالات معيدي التأمين من سوق لويدز العالمي للتأمين في لندن الى الخرطوم إثر هذه القضية خصيصاً حيث خلعوا قبعاتهم تحية وإعجاباً وتقديراً لهذين الأستاذين الذين وضعا سابقة قانونية فيقضايا التأمين أصبح يعتد بها في المحاكم حتى في خارج السودان. ومن الإشراقات أن هذا المكتب كان رائداً في إنشاء فروع ومكاتب خارج السودان في سبعينيات القرن الماضي في صنعاء ومسقط ولندن ومكاتب تمثيل في أمريكا حيث عملوا لصيقاً مع المكتب العالمي "هايل للمحاماة والاستشارات القانونية ". ومن الإشراقات أيضا أنهما تركابصمات مهنية واضحة في هذه الدول وقد كانوا رواداً في تخصص العلامات التجارية وإنشاء وتسجيل الشركات ومنازعات الطيران والنقل الجوي خاصة في صنعاء ومسقط والخرطوم كما تركا بصمات اجتماعية وقيادية أينما ذهبا.وأيضاً من إشراقات هذا المكتب الأداء الرفيع والالتزام الصارم بأخلاقيات المهنة الشيء الذي أضاف إلى رصيد سمعة مكاتبهم والسمعة الجيدة التي يتمتع بها القانونيون السودانيون بصفة عامة في الخارج.
وكان هذا المكتب أيضاً رائداً في إرساء قواعد الحقوق والتعويضات ونشر الوعي القانونى وثقافة جبر الكسر أو جبرالضرر بالتعويض المجزي في وسط السودانيين حتى لا يفلت المذنب أو المخطىء من العقاب. وكمثال لذلك أذكر أنه في بداية أيام عهد الرئيس نميري وفى صيف حار انقطعت الكهرباء في منطقة وسط الخرطوم والتي يقع فيها مكتب أدهم وأبوالريش المحاميان لمدة 5 أسابيع متواصلة حتى تم إستيراد الكيبل من الخارج وإصلاحه، فتعطل العمل في مكتبهم طيلة هذه المدة لأنهم كانوا يعملون أكثر ليلاً ولتعطل عمل المصعد..فأقاموا دعوى قضائية ضد الإدارة المركزية، التي كانت مسؤولة عن إمداد الكهرباء آنذاك، بالإهمال والضرر والتعويض المادي عن فترة توقف المكتب عن العمل بسبب انقطاع الكهرباء وتدخلت النيابة العامة بثقلها حتى لا تشجع هكذا قضايا ضد الدولة إلا أن المكتب كسب الدعوى في كل مراحل التقاضي وتم تعويضهم مادياً فكانت هذه سابقة قضائية وحديث المجتمع آنذاك وأبرزتها الصحف حينها على صفحاتها الأولى، ثم صارت قدوة للآخرين. ومثال آخر في حادثة حدثت لي شخصياً.. ففي عام 1973تعرضت لحادث سيارة في الخرطوم تسبب فيها باص خاص بالمعهد الفني .. وبما أنني قد تعرضت لكسر في الترقوة جراء هذا الحادث أقعدنى عن العمل لفترة مؤقتة طالب لي مكتب أدهم وأبوالريش المحاميان تعويضاً مادياً من السائق الذي تسبب في الحادث والمعهد الفني بصفته مالكاً للسيارة. وأيضا تبنت النيابة العامة الدفاع عن المعهد الفني في الدعوى المدنية لكن في نهاية الأمر كسبت الدعوى وتعويض قدره 1200 جنيه سوداني تنازل المكتب عن أتعابه فكانت كافية بأن أشترى بها سيارة لأول مرة في حياتي وأرجع الفضل لهذا المكتب العملاق. القصد من ذلك ليس هو مبلغ التعويض فقط بل أن تعى وتتعلم الجهات العامة والخاصة الشعور بالمسئولية وسلامة الآخرين فيكونوا أكثر حرصاً ودقة في أداء واجباتهم. واليوم نرى أكثر الناس تطالب بحقوقها من المتسبب حتى لو تعطلت ثلاجة صغيرةأو أي جهاز كهربائى آخر بفعل التيار الكهربائى العالى.
في سبعينيات القرن الماضي تحصل رجل الأعمال المرحوم محجوب محمد أحمد على توكيل سيارات المازدا اليابانية وبما أن الأستاذ أنور أدهم كان مستشاراً لشركة التأمينات العامة التي كان يملكها المرحوم محجوب اشترى سيارة من أول إرسالية لسيارات المازدا. لكن بعد أسبوعين رأيت الأستاذ أنور مترجلاً من سيارته المرسيدس القديمة فسألت عن المازدا الجديدة فجاءتني الإجابة من غيره أنه دفعها لصديق له أحيل إلى المعاش سياسياً وحولها إلى تاكسي ليضمن رزق أولاده. هكذا كان الرجل باراً بأصدقائه ومعارفه وهناك أقصص كثيرة مماثلة لكني ذكرت تلك الواقعة، التي شاهدتها بعينى، كمثال للإيثار والتفاني الذين تحلى بهما. فهو صاحب أفضال على كثيرين وهذا جزء من إرث أسرته الكبيرة. وكما يعلم البعض أن حكومة نميري أيام التأميم والمصادرات تغولت على ممتلكات المرحوم محجوب وأقامت ضده دعوى بحجة أنه خالف الترخيص واستورد سيارات المازدا بحالة (إس كى ٍدي) بدلاً من (سي كى دي) وكان محامو هيئة الدفاع في هذه الدعوى الأستاذان أنور أدهم وعبدالعزيز شدو.
يستعجب البعض أن هذين الرجلين لم يتركا الممتلكات والعمارات وحسابات البنوك الفائضة لأسرتيهما رغم مكتبهما الكبير وأعمالهما القانونية الكثيرة. فقد ترك الأستاذ أدهم منزلاً متواضعاً في برى وهو ذات المنزل الذي عاد إليه وسكن فيه بعد غربة امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً. وقبله ترك الأستاذ أبوالريش لأسرته منزلاً غير مكتمل في ناحية المنشية أتمه الأهل والأصدقاء بعد وفاته، لكنني شخصياً لا أرى ثمة شيء يدعو إلى الإستعجاب فهناك عدة أسباب لذلك؛ أولاً كانت أتعابهما متواضعة جداً حتى على الشركات والمؤسسات وهذه سياسة اتبعوها، ثانياً كانا يصرفان من غير حساب على الأهل والأصدقاء، ثالثاً كانت مسؤولياتهما كبيرة تجاه المجتمع، رابعأ كانت ديارهما عامرة تفيض بالأريحية والكرم، وخامساً أفكارهما الاشتراكية كانت مطبقة في حياتهما ولم يفكرا في شيء اسمه الادخار. ولذلك، فإنهما لم يتركا شيئاً وراءهما غير المبادئ الثابتة والسيرة العطرة والذرية الصالحة.
الأستاذ أدهم ورفيقه أبوالريش وقفا في وجه كافة الدكتاتوريات التي مرت بالسودان منذ حكومة الفريق عبود ولم يخشيا في قول الحق لومة لائم وكلاهما دفعا الفاتورة سجناً وملاحقة من أجهزة الأمن والاستخبارات. وفى نظام الإنقاذ الحالى انضم الأستاذ أدهم إلى التجمع الوطني المعارض في القاهرة وأسمرا واختلف مع قيادة التجمع وانضمإلى حركة التحالف الوطني السوداني وقوات التحالف بقيادة العميد عبدالعزيز خالد في إرتريا وهناك التقى بالدكتور تيسير محمد أحمد، شفاه الله من وعكته، ثم اختلف مع القيادة وترك العمل السياسى مع حركة التحالف قبل اعتقالالعميد عبدالعزيز خالد وترحيله إلى السودان بواسطة الإنتربول ولم ينضم بعدها إلى أي من التنظيمات والأحزاب السياسية المعارضة وظل يعارض بطريقته حيث كان يحلم يوماتى بسودان عاتى ديمقراطي موحد يسع الجميع وبذل الغالي والنفيس حتى يتحقق ذلك الحلم.
وكان الأستاذان يمثلان الإنتفاضة كمحامون في كثير من الهيئات والتجمعات والمحافل والقضايا. وبعد الإنتفاضة أذكر أن نقابة مهندسى البترول قدمت الأستاذ أدهم في محاضرة في دار المهندس بالعمارات تحدث فيها باسهاب العارفعن مشتريات البترول في السوق السوداء بواسطة وزراء نميرى وبطانته كما تحدث لأول مرة عن جريمة دفن النفايات في السودان في ذلك العهد. حقاً كان الأستاذ أدهم يشكل موسوعة يحمل في جوفه أطنان من أسرار الحكوماتوالشخصيات التي حكمت السودان منذ عهد الإستقلال.
وكان الأستاذ أدهم أيضاً يعيش هموم أهل السودان وهو يعيش خارجه ويحمل الوطن بين حدقات العيون وبجانب السياسة كان حريصاً على العمل الإنساني فأسس "منظمة أمل" التي سجلها في بريطانيا وكان لها دور كبير في تقديم الخدمات الطبية والإغاثية والتعليمية ووفرت الغذاء والدواء والكساء للمحتاجين في بعض المناطق في شرق السودان وجنوب النيل الأزرق.
التقيت بالأستاذ أدهم في الخرطوم أول مرة عام 1970 ومنذ ذلك الحين التقيت به في محطات كثيرة لندن صنعاءمسقط أبو ظبي، وفى المرة قبل الأخيرة التقيت به في مدينة الدوحة عام 2012، حيث كان قادماً من مسقط، في منزل الباشمهندس نزار عبدالسلام صالح عيسى حيث كنا نلتقي يومياً عنده كمجموعة تضم الدكتور الفاضل الملك والدكتور محمد عثمان والدكتور عبدالسلام صالح عيسى وآخرون وهو يمتعنا بحديثه الشيِّق في السياسة والأدب والفن والشخصيات السودانية بروح معنوية عالية رغم الوهن الذي كان بادياً على جسمه. وفى المرة الأخيرة التقيت به في سبتمبر 2014 في منزله في برى بعد أن عاد واستقر به المقام في السودان وفى نهاية جلستنا هذه أهداني جواز سفر أثرى للمرحوم أبوالريش كان محتفظاً به في حقيبته سنين طويلة وكأنه أراد أن يقول لي : الآن أحفتفظ به عندك فأنا سوف ألحق به بعيد حين. ودعته وفارقته وفى الحلق غُصة على أن أزوره كلما لاحت لي فرصة لزيارة السودان.
عاد الأستاذ أدهم وقرينته الفنانة الأستاذة كمالا إبراهيم إسحق وإبنه الأستاذ عادل من مسقط إلى السودان في منتصف عام 2012 واستقر بهم المقام في منزله في برى إلا أن مرض السكر كان قد أثر في صحته عموماً لكنه مع ذلك ظل ذلك الأنور يجذبك بحديثه العميق وعلمه الغزير وقفشاته الذكية ثم بروحه المعنوية العالية.
لا ينتهى الحديث عن الأستاذ أنور أدهم ولكنى لا أجد الكلمات لأعبر لكم بها عن عظمة هذا الإنسان فحياته كانت مليئة بالأحداث لأنه كان شخصاً ديناميكياً ليس في مهنته فحسب بل في الحياة العامة وله مسيرة وطنية نضالية طويلة يجب أن نوثق لها ليس من منطلق الوفاء فحسب بل لتعم المعرفة والفائدة ولتسترشد بها الأجيال القادمة وتستلهم منها القدوة والأسوة الحسنة. ولذلك أكتفى بهذه اللمحات المضيئة من حياته و سيرته العطرة.
في الصباح الباكر من يوم 11 يونيو حزيران 2015 جاءني الناعي من أمريكا حين رثاه أستاذي الجليل الطيب السلاوي في جريدة الراكوبة فكان خبراً مجلجلاً للكثيرين فاتصلت بالأستاذة كمالا الحزينة التي أخبرتني برحيل ابنعمها وصديقه عمر محجوب إسحق وقبل أن يوارى الثرى لحق به أنور وكأنهما روحاً واحدة في جسدين، فأصبح العزاء في ذات السرادق والألم يعتصر ذات القلوب. يا إلهي... بالأمس افتقدنا الأستاذ أبوالريش فحزنا عليه حزناً شديداً لكن كان عزاؤنا أن نصفه الآخر ما يزال موجوداً معنا واليوم افتقدنا النصف الآخر الأستاذ أدهم فأصبحنا دون سند ودون مرشد.
العزاء الحار لقرينته الأستاذة الفاضلة كمالا وإبنه الأستاذ عادل والأخ أمين أدهم ولآل أدهم وإسحق ببرى وأمدرمانوالأبيض، والعزاء الحار موصول أيضاً لقبيلة القانونيين وأصدقاء المرحوم في السودان وخارجه ورحم الله الراحل العزيز بقدر ما قدم لهذا الوطن وبقدر ما أحبه وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
شوقى محى الدين أبوالريش
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.