[email protected] الحديث عن التغيير حديثٌ يُعبِر عن الرغبة الإنسانية الطبيعية للوصول إلى حالة مُثلى من العيش المُستطاب، تضطرد تلك الرغبة وتتعاظم شغفاً يتناسب مع مستجدات المعاش التي تجعل الفرد أدعى لأن يتأهل لما لم يدركه في سالف كسبه، و تجعل الجماعة متأهبةً للوصول إلى واقعٍ يضمن لها مقاماً أرقى و مأمولاً أطيب بين الأمم، لذلك فإن مطلب التغيير يتعاظم كلما قويت شوكة الإرادة أو تعاظم استشعار النفوس لضرورة المضي نحو الأمام استجابةً للأستفزاز الذي تغذيه حقيقة مكثها في دركٍ لا يليق بآمالها العريضة و طاقاتها العظيمة، وفي الأمر مفارقة عجيبة :إذ أنه في الزمان الذي نشهد فيه من العالم السبق إلى الإنجاز والتجويد والإتقان والسمو بالخير، فإن الفؤاد ليأسى لحال يجدُ فيه محيطَه -الذي يحب- وأمته -التي يهوى- بعيدين كل البعد عن إعمال هذه الإنجازات ناهيك عن إنتاجها، والأسى ليس لأن الأمة أزيحت عن مكانها الطليعي ودورها الريادي (فحسب)، بل لتوهج إحساس بالتقصير وترسب يقين بوجود أخطاء كان من الممكن تداركها!، فطاقات أمتنا وافرة و خلاّقة تجعل مستوجبات النهضة والعمار ممكنة وفي النوال، بيد أن هذا الضمور الحضاري المؤلم قد يبدو واقعا جزئيا و لكن الذي يرسّخه ويركِّزه هو التهاون في تداركه و التعامل (غير الجاد) معه، أو أن الحركة التصحيحية تقوم (خبط عشواء) بلا دراسة بينة مستوفية أركان الإصحاح ومناحي التغيير السليمة. خلال السنين المنصرمة عاشت أمتنا العديد من الأزمات السياسية التي ألقت بظلالها على حياة المواطنين الإقتصادية وامتد أثرها إلى مؤشرات القياس المعتمدة عالميا لقياس حركة نمو الأمم وأفرادها فأضطربت هذه المؤشرات و المقاييس وعكست بناء على ذلك (الوضع)، هبوطاً حاداً وتردياً مريعاً تعددت أسبابه وتمايزت ولكن يُرجح البعض أن ( الحرب) كانت أهم عوامل هذا الإضطراب (أو) التردي بما تفرزه من مناخ أياً كانت دواعي هذه الحرب أو مداها، لذلك فإن الفترة عُقيب توقيع (اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا) التي شهدت هدنةً من الحرب ووهدة لأركانهابدأت معها المؤشرات بالصعود وتحقيق بعض التقدم (الزاحف) في ظل هدوء وستقرار نسبي، إذ أن نيفاشا عُدت بشارة خير لكونها ميثاقٌ جديد يضمن استقرار الوطن تميز بأنه رشح عنه وضع تبدت فيه بشريات حياةٍ أفضل (لأهل السودان) و تقاسم عادل أو (متراض عليه) للثروة، ومهدت كذلك لمقدمات بسط الحريات وشيدت آليات لتفعيل عملية التحول الديمقراطي، فبدأت الأمور في التقدم نحو براح خيّر انعكس على بعض فئات المجتمع. ولكن الإضطرابات في قراءة مؤشرات الأمة كانت تعود بعودة المشاحنة التي توتر الجو الوفاقي فتخلق حالة من عدم الإستقرار السياسي الذي يُعد مهدداً للنشاط الإقتصادي والإجتماعي وغيره مما يمس معاش المواطن والمستثمر الأجنبي والزائر المقيم. اتسقت اتفاقيات عديدة مع اتفاقية نيفاشا منها ما عالج شأن جهة من البلاد بعينها ومنها ما كان قومياً في الطرح فجاءت هذه الإتفاقيات في مجملها مكملةً لنيفاشا ومتممة لنقصها فكان من ضمن القوميات من هذه الإتفاقيات ما وقع في مصر الشقيقة بين الحكومة السودانية والتجمع الوطني الديمقراطي ، وكانت كلها تصب في خلق مناخ وفاقي يُمهد لعملية التحول الديمقراطي بطريقة سلسة بعيداً عن الإثارة والثوار، ولكن أدت المعطيات التي تسلب إيحابية الإتفاقية لأن تقوم معوقات منعت من إكمال تنفيذ الإتفاقيات المتممة بشكل أمثل وحالت دون تنزيلها كاملةً، ونشير هنا إلى انه ربما كانت الأطراف كلها تبذل السعي وتكرس الجهود لبلوغ ذلك إلا أن تعدد الإتفاقيات (الضرورية في إطار التنوع الطبيعي الذي تتميز به الإمة) إضافة إلى التغير الدؤوب للمناخ السياسي المرتبط بمؤشرات سياسية عالمية زائداً عليه وجود تيارات أحادية الرأي، هذا كله حال دون استمرار حالة التبشير بمستقبل أفضل، ففوجئ الناس بهذا الكم الهائل من الإلتزامات والإتفاقيات المحركة له، فزج بالناس في متاهات تساؤلات عن مآلات الأزمة الحالية فأضحى من خلال أجوبتها مستقبل الوطن مليئاً بالمخاطر التي تستوجب رد فعل عاجل من كل منافذ القرار، فالوضع الذي أفرزته نيفاشا تشفع له حسنة إسكاته لصوت الحرب فتجب عنه البعض من سيئاته ولكنها تضعه أمام مسؤولية الحفاظ على السلام ورعايته، وذلك لا يتم إلا بالإلتزام بروح الإتفاقية و بمتمماتها. دارت في الفترة الماضية أموراً كثيرة ساقتها تطورات عديدة خابت في أن تضبط وتيرة المفاعلة السياسية ضبطاً أميناً، فأفسدت جو الوفاق الوطني وهزت من تفاؤل المجتمع (الدولي- وبعض الداخلي) إتجاه إمكانية تحقيق كل استحقاقات السلام بالسلاسة المنشودة، وأياً كانت أسباب هذا الخلل فإنه لا بد من أن تتم معالجته عبر آلية الحوار، وتوسيع نطاق التشاور بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة، فالمفقود الآن هو الثقة المشتركة و لغة الخطاب المباشر، فالرغبة في التغيير ينبغي اليوم أن تصبح جماعية نحو خيرية الوطن بعيداً عن المطامع السياسية الضيقة، فالقناعة المبنية على الرغبة في السعي نحو التغيير يجب أن تكون جمعية، لإستكمال بناء الوطن وتحقيق إرادة المواطن. السبب الأبرز لتعثر خطوات التقدم هو غياب جو الوفاق الوطني وبروز نعرات عقيمة وخطابات أزكت من الفرقة بين أبناء الوطن، إذاً لتعود روح اتفاقية نيفاشا والإتفاقات المصاحبة ينبغي أن مبادرة قية جامعة، تُبنى على خطوط أخلاقية عريضة تُركز المباني الأساسية للحد الأدنى من الإجماع الوطني. تأتي في خضم هذه الأحداث بوارق آمال متشتتة ودعوات حكمة تحتاج عناية، و أنصع بوارق الأمل اليوم هو ما نجده من تجدد نداء مولانا السيد محمد عثمان الميرغني –حفظه الله- (رئيس الحزب الإتحادي الديمقراطي ، ورئيس التجمع الوطني الديمقراطي و مرشد الطريقة الختمية)، وإحيائه لمبادرته القديمة الجديدة، وهي المبادرة التي كان قد صدح داعيها قبل ثلاث سنوات -وتزيد- داعيةً إلى حوارٍ جامع يُزيل تراكمات الأحداث السيئة التي خلقت جفوة أو خصومة بين الأطراف السياسية والنظر في التحديات المشتركة للخروج برؤية وطنية موحدة، ونرى أن تجددها اليوم يمنح المجتمع السياسي فرصة قوية لإعادة جو الحوار بالحسنى خاصةً أنها (مبادرة الميرغني) ستخاطب بدايةً معاني تحقيق حدٍ أدنى من الإجماع الوطني، و إن اللجان التي تعمل عليها الآن شرعت في التمهيد لها بمخاطبة الشريكين ليضعا موافقةً مبدئية من شأنها أن تكون دفعة قوية نحو عودة جو الوفاق الوطني، من بعدها فإنه ستكون الدعوات لأحزاب التجمع الوطني الديمقراطي و بقية الأحزاب الوطنية، حتى تتم المفاكرة السليمة بلا إقصاء لأحد. إن النظر إلى الأمور بشئ من التأني يمنحنا قدرة نخرج بها برؤية تستقوي على التفاؤل بأن السودان يستطيع أن يتحرك في مجموعه نحو الديمقراطية و التنمية الحقيقية إذا ما خلصت النوايا، وأنه لو استجمع شتات طاقاته الفكرية والسياسية وحقق أدنى درجات الإجماع الوطني سيحقق الإستقامة المثلى على سراط التقدم والفلاح، ومبادرة مولانا الميرغني تجمع الناس على خطوط عريضة و الحوار عبرها يستطيع أن يحقق الإستقرار السياسي الذي سيمنحنا مجالاً واسعاً لقيادة العملية التصحيحية و التغيير الحقيقي، الذي يخاطب المواطن ويعتمد أساليب التنمية البشرية العالمية التي ستسهم إذا ما ارتفعت في تحقيق مناخ جاذب للإستثمار الذي سيُنعش بدوره الإقتصاد الوطني. إن الإستجابة المبدئية والموافقة الإبتدائية على المبادرة التي رشحت عن رئاسة الجمهورية وبعض الفعاليات السياسية، تؤمِّن على غَلبة الإحساس الناطق بأهمية الإستواء و التراص في مجابهة تحديات المرحلة، وحتى يكتمل هذا السعي ينبغي أن تُراعي كل الأحزاب الأمانة -كما العهد بها-، وتُقبِل على هذه المبادرة إقبالاً ترعى به حق الله و الوطن، فلا للمشاحنة و لا للتكتلات العدوانية ونعم للغة الحوار و لتدعيم التحول الديمقراطي بالأساليب السلمية، فإن اتفاقيات نيفاشا و القاهرة وأبوجا والشرق وغيرها، نتيجةٌ مُرضيةٌ لسنين من الحرب إنتهت بتفاهم -نأمله أن يكون صادقاً- ولا داعي للعودة عنه وإلا فتكون جهود الأمة أهدرت وسالت دماؤها ذبيحةً لأهواء العنف و العناد، إننا لفي أحوج الأوقات للتخلق بالحكمة وتأبط الحنكة والأناة، ويجب أن نتعاون على إنجاز أدوارنا التاريخية، في تسهيل إجراء التحول الديمقراطي ودعمه بالقول الفالح والعمل الصالح. إننا نناشد القوى السياسية ونطالب مؤسسات المجتمع المدني بالسعي لإعادة جو الوفاق الوطني، ونبذ التطرف والعنف، و نسألها العمل على تدعيم المواثيق و الوفاء بها، حتى يكتب الله للسودان اتفاقاً جامعاً وميثاقاً يعالج المشكل من جذوره، وهذا لا يتم إلا بالحوار والحوار الصادق. لم يعد أمام الجميع أي وقت (إلا) للعمل والحوار فالسودان بين الوحدة والفصال، والإضطراب السياسي يزيد من فرضيات التدويل التي أذاقت الشعوب الويل، و وسط كل هذا الصراع يُعاني المواطن البسيط الذي يريد ما يسد به رمقه و ينشد الرفاهية التي لا سبيل إليها إلا بوطن ديمقراطي مستقر يقوم على العدل والمساواة والتوزيع العادل للسلطة للثروة، وهذا الوطن لا يُبنى فُرادى وإنما تبنيه الجماعات التي تسمو على خلافاتها وتطرح حظ النفوس وتعلي حق الوطن والمواطن. أملي أن تلقى مبادرة مولانا الميرغني التأييد، وأن يغتنمها أهل السودان فرصةً لتحقيق الوفاق الوطني و لتمكين آليات الإجماع الوطني، فإنها ستذلل الكثير من العقبات الكأداء التي تعترض مسيرة الأمة، هذا وينبغي على مثقفي البلاد أن يعتنوا بها بالإسهام الجاد بما يُعين القائمين على المبادرة للوصول إلى ما يُصلح به حال الوطن والمواطن، ونسأل الله أن يشرح لها صدور أهل السودان، حتى نعوض عبرها ما فاتنا من خير اتفاق (الميرغني قرنق) 1988م، ونثبت من خلالها التجرد والوطنية الخالصة وانتهاء زمان المكايدات السياسية وذهابه بلا عودة، هذا و بالله العون بادية وختاماً. نشر بصحيفة الصحافة .