شاهد بالفيديو.. الفنانة شهد أزهري تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بنيولوك جديد وتقدم وصلة رقص مثيرة خلال حفل خاص بالسعودية على أنغام (دقستي ليه يا بليدة)    شاهد بالصورة والفيديو.. فنانة سودانية تحيي حفل غنائي ساهر ب(البجامة) وتعرض نفسها لسخرية الجمهور: (النوعية دي ثقتهم في نفسهم عالية جداً.. ياربي يكونوا هم الصاح ونحنا الغلط؟)    شاهد بالصور والفيديو.. حسناء سودانية تسخر من الشباب الذين يتعاطون "التمباك" وأصحاب "الكيف" يردون عليها بسخرية أقوى بقطع صورتها وهي تحاول تقليدهم في طريقة وضع "السفة"    شاهد بالصورة والفيديو.. (فضحتونا مع المصريين).. رجل سوداني يتعرض لسخرية واسعة داخل مواقع التواصل الاجتماعي بعد ظهوره داخل ركشة "توك توك" بمصر وهو يقلد نباح الكلاب    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    واصل تحضيراته في الطائف..منتخبنا يؤدي حصة تدريبية مسائية ويرتاح اليوم    عيساوي: البيضة والحجر    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    ماذا قال دكتور جبريل إبراهيم عن مشاركته في مؤتمر مجموعة بنك التنمية الإسلامي بالرياض؟    دعم القوات المسلحة عبر المقاومة الشعبية وزيادة معسكرات تدريب المستنفرين.. البرهان يلتقى والى سنار المكلف    انجاز حققته السباحة السودانية فى البطولة الافريقية للكبار فى انغولا – صور    والي الخرطوم يصدر أمر طواريء رقم (2) بتكوين الخلية الامنية    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدخل لدراسة قبيلة روفيك (دميك): الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية – جبال النوبة – السودان
نشر في سودانيل يوم 06 - 01 - 2016

الناشر: إم. بي. جي. الطبعة الأولى – 2015 – لندن
المؤلف: الدكتور قندول إبراهيم قندول
عرض: أحمد كمال الدين
"شعرت براحة كبيرة بعد الانتهاء من هذا الكتاب".
هكذا حدثني الصديق الدكتور قندول وهو يعرض عليّ تصميم غلاف هذا السفر، الذي يقع في 443 صفحة من القطع المتوسط، قبل أيام من استلام كتابه من المطبعة. ولعلها عبارة ذات مغزى بعيد. ففي بلد متعدد الثقافات و الإثنيات و العقائد و العشائر والقبائل مثل السودان، يكون فيه الارتباط بالتميز الثقافي المحلي الخاص حافزا لضرب من ضروب الشوق والنوستالجيا التي تهُبّ كما الريح على من يعيش خارج منطقته، بل خارج القطر والقارة جميعا، كما هو الحال مع الدكتور قندول.
فالمؤلف، السوداني الذي يحمل الجنسية الأمريكية، ويعمل ويعيش في تلك البلاد، شخصية غاية في اللطف والرقة وحسن المعشر. وعندما أمسكت بدفتي الكتاب كنت أقول لنفسي، لعلها فرصة لزيارة جبال النوبة ومنطقة قبيلة روفيك (دميك) التي أنجبت المؤلف. وبعد اكتمال تلك الزيارة المعرفية وجدت نفسي في ريف آخر من أرياف السودان الجميل بمجتمعه و إنسانه وطبيعته الخلابة، ذلك السودان الذي فشل الساسة عبر السنين الطويلة في رسمه والتعبير عنه بذات السماحة والجمال، وكانت الكتابات الثقافية والمجتمعية هي الأقرب في سبر غور ثقافات المجتمعات السودانية المختلفة.
و رُبّ قائل إن الوطنية الجامعة تتطلب الإنتباه أكثر للسمات الثقافية العامة، والتخلي عن التميزات الفرعية، لأن الطريق للوحدة الوحدنية يمر بتلاشي الثقافات المحلية الخاصة. إلا أن هذا القول لا يخلو من مغالطة كبيرة، فالسودان لا يتحقق معناه كقطر وأمة وشعب إلا بجماع ما يحتويه السودان من تنوع ثقافي متعدد المشارب، بل إن هذا التنوع الجميل هو الذي منح السودان ذاتيته وتفرّده بين الدول، بحيث إذا أفرغ السودان من هذا المحتوى فلن يكون هنالك سوى خيال تائه وفارغ لا يعبر إلا عن مسخ بلا سمات مميزة.
كيف يمكن والحال هذه أن يتصالح الاهتمام القومي بالوحدة الوطنية مع الاهتمام الشخصي أو المحلي بالثقافات الخاصة والمحلية؟ لابد من معالجة هذه الجدلية بما يحقق الاستدامة بين ما يبدو أنهما نقيضين وما هما بنقيضين. ونقول في هذا السياق أن من الممكن استبقاء السمات الخاصة في أبعادها الاجتماعية والثقافية وتركها للتطور الطبيعي التدريجي، وفي ذات الوقت التواضع على مساحة مشتركة تكون مخصصة للتعايش كمجتمع سياسي أو دولة ذات دستور و قانون وجيش قومي وخدمة مدنية قومية، تحقيقا لوحدة وطنية جامعة لا تتعدى على خصوصيات الثقافة المحلية. ويمكن لهذه المعادلة أن تتحقق من خلال إسباغ الصفة الدينامية أو الديناميكية لمكونات الدولة، والتي يمكن الوصول إليها عبر الحراك الديمقراطي في اختيار الممثلين و الحاكمين و القوانين والتشريعات، و إسباغ الصفة الاستاتيكية أو غير الدينامية على مكونات الثقافة المجتمعية المحلية. ولا يقصد بهذه الاستاتيكية (ثبات) الحراك الثقافي على المستوى المحلي، بل المقصود هو أن هذا الحراك الثقافي، أينما كان في البلاد، شرقا أو غربا أو شمالا أو جنوبا، ليس هو الحراك المسيطر بذاته على الحراك القومي، بل يرفد الحراك القومي عبر العملية الديمقراطية بما يجعل بعضا من هذه الثقافات المحلية جزءا لا يتجزأ من قوام الثقافة الجامعة التي تتشكل منها الصفة الدينامية المحركة للمجتمع السياسي الكبير. وإلى ذلك الحين، إلى حين اختيار هذه الأجزاء الثقافية المحلية وانتخابها ضمن المكون القومي الحاكم، تظل قائمة على المستوى الاستاتيكي في انتظار الاستيعاب ديمقراطيا ضمن الثقافة القومية الجامعة.
يقدم لنا الدكتور قندول إبراهيم قندول صفحة من صفحات المجتمع السوداني الكبير، تتجسد في منطقة جبال النوبة وشعبها، بالتركيز على قبيلة (روفيك) التي صارت تعرف أكثر باسم (دميك) في الأنساق الرسمية كما يقول الكاتب. وبرغم شهرة اسم جبال النوبة إلا أن معرفة أهل السودان من غير المنتسبين لتلك المنطقة لا تزال قاصرة عن الاحاطة بطبيعة الإنسان وحياته وكسبه و تقاليده و ثقافاته المحلية، دعك عن معرفة قبيلة (دميك) تحديدا. وفي هذه الحال فلعل تقديم هذا الكتاب ليس حقا من حقوق المؤلف فحسب، بل هو واجب من واجباته، بحكم معرفته اللصيقة و وعيه بجهل الآخرين عن هذه المناطق.
بدأ الكاتب بالموقع الجغرافي للقبيلة في السودان وبين جبال النوبة، بتضاريسها ومناخها ونباتاتها وإنسانها؛ وبحكم التخصص الأكاديمي الزراعي للكاتب فقد أبرزا قدرا من الدقة في توصيف النباتات، فوصف لنا نباتات المنطقة مثل التبلدي (وثمرتها القنقليز) والسدر (وثمرتها النبق) بجانب العرديب والدليب والجميز والحراز و الحميض والزان والسحب. ثم يقودنا المؤلف عبر هذه الخضرة الجميلة وبين الجبال وسفوحها إلى قرى المنطقة وسكانها، مسميا الطرق البرية تسمية العارف بشعاب المنطقة، مستعينا بعدد من المراجع التي سبقت في الكتابة عن مناطق جبال النوبة، و بالاتصال المباشر بأهل المنطقة، فضلا عن خبرة ذاتية منذ الميلاد حتى نهاية الدراسة الثانوية في كادقلي. ولا يمر المؤلف بكلمة أو اسم مستخدم إلا وعرّف القارئ بمدلول الكلمة في عرف القبيلة المعنية. ويلاحظ أن أسماء القبائل والمناطق، ومنها اسم (دميك)، تحمل في طياتها إشارة إلى الإنسان المتحرك ذي النفرة والنجدة، ويطلق الاسم ذاته على الجبل المميز للمنطقة والقبيلة، بل والمميز حتى لبعض مراحل التاريخ التي لم تخل من ألم ومعاناة، عندما اضطر السكان للاحتماء بالجبل وصخوره من وقع الغزاة المهاجمين. وهنا لا يكون الصخر مجرد حجر، بل يرتبط وجدانيا بتاريخ الصراع من أجل البقاء. و نحن البشر الذين تعلموا في علوم الكيمياء والفيزياء والأحياء أن الأحجار من (الجماد)، ينبهنا القرآن إلى مساحات مغايرة من المعرفة: "وإن من الحجارة لما يتجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقّق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله" (الآية 74 من سورة البقرة)، بل ينبهنا القرآن – في ذات الآية و ذات السياق - إلى أن بعض (القلوب) قد تكون أكثر قسوة من بعض الحجارة ("ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة")!! ولا يظننّ ظانّ أننا ابتعدنا عن موضوع الكتاب، خاصة على خلفية تلك الحملات الجائرة للاسترقاق في جبال النوبة.
ويشرح الكاتب العقائد المحلية، وكيف يهمي الإنسان القديم في المنطقة إلى الجبال والنار والكجور، ليس انتهاء إليها ولكن تزلفا بها إلى الله الواحد، خالق الإنسان والحيوان ومنزل المطر و منبت الشجر، مستشفيا و مستسقيا، وهو شرح ضروري أورده الكتاب لمن يجهل طبيعة الفكر العقدي لتلك المناطق وينظر إليها من الخارج. ولعل التطور الحيواتي في المنطقة تماهيا مع ثقافة الاسلام وتعايشا جامعا بين الثقافة التقليدية والثقافة الوافدة تدل على عدم الفصام الكامل بين الثقافتين، واللتين تنتسبان لذات الفطرة الإنسانية، وعطش الإنسان إلى رب منعم و إله معبود واحد يلجأ إليه، يستصرخه في الأتراح ويشكره في الأفراح. وقد خصص المؤلف الفصل الرابع للتفصيل في المعتقدات الدينية وأدوات الضبط الاجتماعي والثقافي في المنطقة، ثم أتبع ذلك بفصل عن التغيير الحضاري و تأثيره على نسق الحياة، متعرضا للمسيحية في المنطقة ودخول الإسلام إليها وما شاب ذلك من بعض الممارسات التي انتقدها في الكتاب، وتلك التي رأى أنها تشكل اتساقا مع حياة الناس التقليديين. وعبر المؤلف عن بعض الآثار السالبة للتدافع الثقافي بكلمات منقولة عن الدكتور منصور خالد إذ يقول: "في الدوائر والجلسات الخاصة لمستعربي شمال السودان النيلي تسمع مفردات يعفّ اللسان عن ذكرها أو كتابتها، كلها مشحونة بالإزدراء وتعكس التمييز العنصري المتجذِّر في مخيلة بعض هؤلاء المستعربين تجاه الآخرين" (صفحة 334 من الكتاب)، وذلك ضمن أمثلة أخرى في ذات السياق، منها قصة البطل الوطني علي عبد اللطيف قائد ثورة اللواء الأبيض، الذي ينحدر من إثنيتي النوبا و الدينكا، حيث يشير الدكتور منصور خالد لما كتبه الأستاذ عرفات أحمد عبد الله رئيس تحرير جريدة "حضارة السودان" في يوم 26 يونيو 1924م عن البطل علي عبد اللطيف ضمن افتتاحية الجريدة التي جاء فيها المطالبة بالقضاء الفوري على عليّ عبد اللطيف، يقول الدكتور منصور خالد: وتساءل رئيس التحرير في استنكار شنيع: "أي بلد سافل هذا الذي يقاد بأمثال علي عبد اللطيف، ومن أية سلالة أو أسرة أو قبيلة ينحدر حتى يستحق كل هذه الشهرة" (صفحة 334 من الكتاب). و للأمانة فقد اتخذ الكاتب موقف المستعرض لهذه الوقائع والآراء بوتيرة متزنة ومزاج هادئ، دون الخوض في التعبير السافر عن رأيه الشخصي حول هذه النتائج السالبة للتدافع الثقافي بين السودانيين، وهو موقف لا يستغربه من يعرف شخصية المؤلف.
ويقرأ لنا الدكتور قندول إبراهيم بعض الملامح الدقيقة في سمات قبيلة (دميك)، فينقل لنا صفة اعتبرها الكاتب خاصة بالمنطقة ضمن نظام تسمية الأقارب، وهي أن الكلمة المحلية المستخدمة للأب هي ذاتها المستخدمة لمناداة العم، وهي كلمة (أبا) باللهجة المحلية، إلا أن هذا كان هو السائد أيضا في مناطق أخرى بالسودان، وخاصة معظم مناطق دارفور الكبرى، حيث لا يوجد استخدام دارج لكلمة (عم)، بل يستخدم الأهالي كلمة (أب) أو (أبوي) أو (أبّو) أو حتى (أبا) الدميكاوية ذاتها، للأب والعم معا. وينطبق نفس الشئ على لفظتي (أخ) و (ابن عم) فكلاهما (أخ) أو (أريه) باللهجة المحلية لقبيلة (دميك)، و هو السائد أيضا في إقليم دارفور. وتجدر الإشارة إلى أن هذه ليست مجرد تسميات، بل هي أسلوب في التعامل المجتمعي يعكس درجة الحميمية والتواد والتراحم في العلاقات الأسرية. والطريف أن قبائل جبال النوبة أو على الأقل قبيلة (دميك) وبرغم الألفة الودودة بين الأقارب، إلا أنهم انتبهوا ومنذ زمن بعيد لأهمية تجنب التزاوج من الأقارب، ويشير الكاتب إلى أن هذا التوجه مخالف للتوجه الاسلامي والعربي، و هو ما حفزني للنظر في تخريج الخبر الشائع بين الناس والمنسوب لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو (اغتربوا لا تضووا)، ليتبين أنه من الغريب، ولا أصل له في الحديث، وأن معايير إختيار الزوجة (الدين والمال والجمال والنسب) هي التي وردت في حديث آخر، وليس من بينها القرابة، فلا يكون هنالك ثمة تفضيل للقريب على غيره عند التساوي في المعايير المذكورة. أما العلم الحديث فيدعم ما ذهبت إليه قبيلة (دميك) لثبوت الضعف الناتج عن الزواج بالأقارب في القبيلة الواحدة.
ومن الطريف أن قبيلة (دميك) تتخذ نسقا محددا في تسمية الأولاد (بنين وبنات)، حيث توجد أسماء بعينها تطلق على المواليد بحسب ترتيبهم حتى الثامن، فالابن الأول مثلا (كوكو)، والثاني (كافي)، ولهذا أهدى المؤلف كتابه لولديه بالاسمين المذكورين، مع إضافة إسم آخر لكل منها (أحمد) و (أشرف) على التوالي. ويعني هذا النسق أنك إذا التقيت رجلا من القبيلة باسم (كوكو) فاعلم أنك أمام الابن البكر لوالديه.
ويسمي الكاتب أحياء (دميك) حياً حياً، ويحدد مواقعها بدقة متناهية، متنقلا بالقارئ من أحياء (لندوك) و (سولو قادي) و (لا توقوك) إلى (لا منديجا) و (تُقميك أو توكمة) في غربي بطحاء دميك حيث تسكن أسرة المؤلف (آل قندول) منذ عام 1960م مهاجرة إليها من (دقدا قادي)، بجانب أسرة (كنو)، وصولا إلى أحياء المهاجرين إلى المنطقة من غرب السودان القصيّ و غربي إفريقيا، مثل أحياء (بانت) و (الحلة الجديدة) و (انجمينا) و (حلة برنو). وتسجل الأحياء الأخيرة قصة رحلة الحج ما بين الحجاز و غربي افريقيا جيئة وذهوبا واستقرارا مستداما كان هو مصدر هذا المكوّن من سكان (دميك). كما بسط المؤلف علائق (دميك) بالقبائل النوباوية (وهو يستخدم هذه الصفة بدلا من "النوبية" التي يرى أنها خصصت للنوبيين في شمال السودان)، وعلاقتهم بالقبائل غير النوباوية مثل قبائل البقارة و بخاصة قبيلة المسيرية الزرق وبطونها أو أفخاذها التي عاشت بالقرب من (دميك) مثل أولاد أغيبش و أولاد طبيق، ودور قبيلة (دميك) في إحلال الصلح بين الطرفين.
تعرض الكتاب في الفصل الثالث للنشاط الزراعي والاقتصاد ونظام ملكية الأرض في المنطقة، حيث أفرد المؤلف 175 صفحة لهذا البعد الحياتي في جبال النوبة ومنطقة (دميك) بصفة خاصة، وهو تعبير عن أهمية الأرض في المنطقة، خاصة وأنها غنية بمواردها الطبيعية زراعية كانت أو معدنية كما ظهر مؤخرا، مما يفتح بابا للهجرة الوافدة والتنافس. وتطرق المؤلف للقوانين السودانية ذات الصلة الصادرة في الأعوام 1905 و 1925 و 1991 وتعديل عام 2000م، وانتقد المؤلف التطورات التي طالت هذه القوانين بما حرم الناس من التملك العادل لأراضيهم، وكرس للاحتكار الحكومي للأراضي (خاصة قانون 1970 الذي يمنع سماع أي دعوى ضد الحكومة حول الأراضي)، فضلا عن استخدام السلطة والعنف في تطبيق هذه السياسة. و يورد المؤلف على سبيل المثال قصة "استخدام قوة القانون و الشرطة لابعاد سكان قرية (فايو) في منطقة ريفي (دلامي) لاحتجاجهم عندما حاصرتهم مشاريع الزراعة الآلية التابعة لأحد التجار الذي لم يكلف نفسه بزيارة المنطقة ولو مرة واحدة" (صفحة 178 من الكتاب). وانتهى المؤلف إلى عدد من المقترحات التي يرى أنها سوف تعالج الظلم الواقع على الأهالي بسبب سياسة وقوانين الأراضي في المنطقة.
و خصص الدكتور قندول مساحة واسعة من هذا الفصل للنشاط الزراعي، متطرقا للحديث عن المزارع القريبة أو مزارع البيوت (الجباريك، مفردها جبراكة) والتي تعرف باللهجة المحلية باسم (تَكُتيك)، والمزارع البعيدة عن القرية (سيقانيه، ومفردها سيقا)، وحصاد محاصيل الذرة والسمسم واللوبيا والقطن، ونظام الحصاد الجماعي (النفير)، فضلا عن نظام الزراعة والانتاجية. ولا يستغرب ذلك من مؤلف تخصص في المجال أكاديميا ونال درجة الماجستير في علم (إنتاج المحاصيل) بجامعة نبراسكا – لينكولن الأمريكية، قبل أن يتبع ذلك بدكتوراة في علم فسيولوجيا و إنتاج المحاصيل في ذات الجامعة. وقد اشتمل الفصل على الملامح العامة للنشاط الزراعي في مسقط رأس المؤلف (دميك)، منبها إلى عدم استدامة النشاط الزراعي المعيشي في المنطقة لأسباب سبعة أوردها في الكتاب، مدعما ذلك بجدول يبين المساحات المزروعة و الإنتاجية بالكيلوجرام في الهكتار الواحد لتسع محاصيل خلال الأعوام 1975م – 1977م، وجدول لأسعار المحاصيل في مؤسسة جبال النوبة الزراعية. ولعل هذا يعتبر جهدا مقدرا في مجال الاقتصاد الزراعي لا ينتقص من أهمية الجوانب الثقافية والتاريخية.
ولا يكتمل الكتاب إلا بتعريف العلاقة بين أهل جبال النوبة (النوبا) و (النوبة) في شمال السودان، و أثر الهجرات القديمة في هذه التقسيمات، وعلاقة جبل (ميدوب) في شمال دارفور بمسار بعض هذه الرحلات. وهنا أتوقف قليلا لأذكر أن صديقنا السفير الدكتور عوض مرسي (وهو من النوبيين في شمال السودان) ذكر لي ضمن حديث هاتفي عندما كان رئيسا للبعثة الدبلوماسية السودانية في أبوجا عاصمة نيجيريا قبل نحو من عشر سنوات أنه لاحظ أن أبناء دارفور من الميدوب (ضمن وفود مباحثات السلام السودانية آنذاك) يتحدثون لهجة ذات مفردات مفهومة بالنسبة له، وقد يكون الباحثون في هذا المجال يعرفون ذلك من عقود طويلة إلا أنها كانت بالنسبة لي معلومة جديدة تماما. فلا غرو أن مرت هجرات النوبيين في القرون الأخيرة قبل الميلاد بجبل (ميدوب)، واستقر بعضهم فيه، حيث تسكن القبيلة المعروفة بذلك الإسم، وذلك ضمن هجرة المجموعة الأولى بحسب الكتاب. أما الهجرة الثانية فاستقرت في كردفان، تاركين وراءهم الحضارة الكوشية لأسباب عددها المؤلف، منها تورط الكوشيين في حروب أجنبية مع الآشوريين والرومان، و وصول التجار اليونانيين إلى نهر النيل، و توقيع اتفاقية البقط مع عبد الله بن سعد بن أبي سرح في عام 652م. ولعلها مناسبة للدعوة إلى دراسة هذه العلائق الثقافية التاريخية، السودانية السودانية، ذات البعد اللساني والاثني، وهي دراسة ستعين على التقريب بين عناصر السودان المتعددة، استنادا إلى الإرث المكتوب حول هذا الموضوع، والذي أورد منها الكاتب سي. جي. سيليجمان (C. G. Seligman)، وهو يكتب في عام 1932م، عن "القبائل الوثنية في السودان النيلي".
ويستحضرني في الختام الشعار الذي أطلقته رابطة طلاب دارفور بجامعة الخرطوم، في زمان أتاح الفرصة للسياحة أكثر مع التنمية والثقافة بدلا من السياسة، وهو شعار (أعرف و عرّف)، أي أعرف ثقافات السودان ومجتمعاته الأخرى، وعرّف أولئك بثقافتك المحلية ومجتمعك المحلي، ونفذت الرابطة ذلك الشعار بأوجه عدة، أشهرها ذلك المهرجان الكبير الذي صاحبه معرض ومسرح، لبسط التعارف بين مجتمع دارفور والمجتمعات السودانية الأخرى. ولا شك أن هذا العرض لا يفي الكتاب حقه، لكنه يمثل دعوة إلى موضوعه و مغازيه و رسالته، بوصفه عملا ضروريا لاستكمال المعرفة بالمجتمع السوداني المتنوع، باعتبار ذلك ضرورة من ضرورات معرفة السودان القطر والشعب والدولة، فضلا عن تحقيق (التعارف) داخليا بين ثقافات السودان ومجتمعاته المتعددة والمتنوعة، وصولا إلى صيغة تعبر عن التآلف والتماسك اللازم لأي عمل نهضوي على المستوى القومي للبلاد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.