عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. بعد أن أدي أمين صلاة الفجر بمسجد الحي ، توجه مباشرة للشارع القريب, وانتظر مرور حافلة لتقله إلى مكان عمله في المكتبة التي يملكها في وسط المدينة ,حيث من المعتاد أن يمكث في تلك المكتبة إلى ما قبل الغروب بقليل ثم يعود إلى منزله ، كان هذا هو البرنامج اليومى لحياة أمين المنقسمة بين المنزل ومكتبة (التقدم), طيلة العشر سنوات الأخيرة من عمره ، لكن في هذا اليوم قدر لهذا البرنامج أن يتغير ، وربما ستتخطى آثار هذا التغير حدود اليوم, وتستمر في حياة أمين لفترة طويلة قادمة .. وعندما وصل إلى المكتبة, بدأ مباشرة فى عمله,ممنيا نفسه بيوم وافر الربح.. ولم يدر بخلده على الإطلاق, أنه بعد ساعات قلائل سيجد نفسه طريح سرير المستشفى مصابا بمرضين مزمنين ، أو بالأحرى سيكونا مزمنين ، وهلاويس قد تظل مترسبة في عقله إلى مدى بعيد .. وبعد وصوله إلى المكتبة بحوالي ساعة ، كانت العربة الحكومية المظللة تقف أمام البيت الحكومي فى ضاحية المدينة, منتظرة خروج الرفيق عباس لتقله إلى مكان عمله ,كان حول العربة يتواجد قطبا المغنطيس ، وهو لقب مشترك للشخصين الذين ظلا يرافقان الرفيق عباس لفترة طويلة فى خدمته الحكومية ، وهما جلال السائق وخالد الحارس الشخصي ، وكان هذا اللقب الذي ليس له سابقة فى تاريخ الألقاب,نتج من بنات أفكار الرفيق عباس, وسببه المباشر هو قدرة هذا الثنائي العالية علي جذب المشاكل الخفيفة والثقيلة, وطرحها فى حجره..ورغم معاناته الكبيرة منهما, إلا أنه كان يتمسك بهما جدا, ولم تراوده أي رغبة في التخلص منهما في أي وقت من الأوقات, وعندما خرج عباس من المنزل وركب في مقعده, وهم جلال بالتحرك ، جاء الابن الأكبر لعباس مهرولا وقال لأبيه : قالت لك أمي لا تنسى أن تحضر معك مجلة (فينوس). قال عباس : حاضر ، تحرك يا جلال . وما هي إلا دقائق حتى كان عباس يدلف إلى مكتبه يتبعه خالد حاملا الحقيبة الصغيرة التي تخص عباس, وانشغل عباس فورا بالملفات التي وجدها في مكتبه ، وقبل أن ينتهي منها ، أرسل إليه المدير, طالبا حضوره لاجتماع طارئ ومهم, وعند خروجه إلى مكتب المدير ، تذكر أمر المجلة التي طلبتها زوجته, فنادى على قطبي المغنطيس باستعجال و أمرهما بالذهاب لأقرب مكتبة لإحضار مجلة فينوس النسائية ، وعندما تحركت العربة بهما ، كان قطبا المغنطيس يراقبان الطريق من نوافذ العربة المظللة للبحث عن أقرب مكتبة ، لكنهما مع مراقبتهما تلك, كانا يثرثران بأمور كثيرة, كانا يثرثران لدرجة أنهما فوتا أكثر من مكتبة ,وهكذا ساهمت هذه الثرثرة فيما بعد, بجزء كبير من تغير الروتين المعتاد لبرنامج أمين اليومى.. وعندما انتبها أخيرا, وبدأآ يراقبان بجد, ظهرت لهما من مسافة قريبة ,لافتة كتب عليها: مكتبة (التقدم) ، فصاحا سويا : هذه مكتبة.. وبعد أن أوقف جلال العربة, نزل خالد وتوجه إلى المكتبة, لكنه عاد أدراجه إلى جلال وصاح : يا جلال : نعم : لقد نسيت اسم المجلة. فغر جلال فمه لفترة ، ثم تمالك نفسه وقال : : وأنا أيضا نسيته : وكيف نتصرف ؟ : نتصل بالرفيق عباس لنعرف اسمها : إنه في اجتماع ولن يرد علينا :إذن نعود وننتظر انتهاء الاجتماع. :لا ..سيسخر منا كالعادة : إذن كيف نتصرف ؟ : جيد أنك سألتني, لأن لدي خطة جريئة,و تحتاج إلى بعض التعاون منك لأنفذها, اسمعني جيدا .. ورغم أنهما كانا وحدهما تماما, إلا أن خالد شرح خطته همسا , ولا بد أنها كانت خطة جريئة فعلا, فقد امتقع وجه جلال, وحاول إقناع خالد دون جدوى بخطورة تلك الخطة, لكنه استسلم في النهاية للأمر الواقع.. وهكذا تقدم قطبا المغنطيس تجاه المكتبة وهما يشمران عن سواعد الجد، ثم على بعد مسافة معينة, أشهرا سلاحيهما, وصاحا صيحة مألوفة : ثابت في مكانك,لا أحد يتحرك.. وفي الحقيقة لم يكن قطبا المغنطيس في حاجة لتلك الصيحة, لأن الجمهور الذي كان حول المكتبة, تملكه الرعب بمجرد أن رأى السلاح المشهر, فظل الجميع ثابتا في مكانه ، أما أمين فقد تصاعدت دقات قلبه بوتيرة شديدة, وتبخرت من رأسه أماني الربح الوفير, وأخذ يفكرفقط في هذه المصيبة التي وقعت على رأسه, قال خالد بحزم: اخرج وأغلق المكتبة حالا. ولم يستطع أمين حتى أن يفتح فمه, ليسأل الأسئلة المعتادة التي يفترض أن تحفظ الحقوق فى مثل هذه المواقف وبأصابع مرتجفة نفذ الأمر ، وبعد حين كان يتجه معهما نحو العربة الحكومية ، لكن أحد الأشخاص أخذ يصيح: يا أمين.. ياأمين. فالتفت إليه خالد قائلا في عنف: هل تريد أن تذهب معه؟ : لا ياسيدي, ولكنى أريد أن أذكره بأن لي باق عنده : كم باقيك ؟ وما اسمك ؟ : سبعة جنيهات واسمي عمر سعيد مرجان وأخرج خالد قلمه ودون على مفكرته الاسم والمبلغ. وهنا تحديدا صاح أكثر من شخص:أنا لدى باق أيضا. وبعد فترة من ذلك الاعتقال، انتهى الاجتماع, ودخل الرفيق عباس إلى مكتبه ، وبمجرد أن وقعت عيناه على قطبي المغنطيس, وبرفقتهما ذلك الرجل الشاحب ،أيقن تماما أن هناك مشكلة جديدة ستطرح فى حجره بعد قليل ، لكنه لم يتوقع أن تكون تلك المشكلة بالخطورة ,التي يمكن أن تهدد مستقبله العملي كله .. وفي الواقع لم يكن هناك شئ لينقذ عباس من هذا المأزق الأكيد, لولا حدسه الجبار وخبرته المتينة, الذين أصر على استخدامهما منذ البداية.. وبعد أن استقر علي كرسيه, وقبل أن يتكلم أحد من قطبي المغنطيس نادى عباس على جلال, وتهامسا قليلا, وسرعان ما بدت على عباس علامات الانزعاج , لكنه تمالك نفسه بسرعة, وأخذ يتفرس في ملامح أمين, كانت الغضون التي غزت الوجه المنهزم, والعيون ذات النظرات الزائغة, التي تكسرت من خلف النظارة السميكة ، والأصابع المرتجفة التي ترشح بالعرق ، كل تلك المعطيات, هى التي أوحت لعباس بتفاصيل الخطة التي قرر اتباعها بحزم وقسوة.. فغير من جلسته ثم قال : ما اسمك ؟ : أمين خيرالله الطيب : ماذا تعمل ؟ : لدي مكتبة أعمل فيها : هل تحمل معك جوالا الآن ؟ : نعم : أحضره إلى هنا. وتصفح عباس الجوال قليلا, ثم أغلقه ووضعه على سطح الطاولة, ولدهشة قطبي المغنطيس الشديدة, استمر سيل الأسئلة في التقدم, ثم فجأة رعد السؤال الحاسم : ما علاقتك بالإرهابي حانون كانون, المولود في جزيرة ماعون ساعون ؟ قال أمين بفزع : من؟ كرر عباس في هدوء : حانون كانون من جزيرة ماعون ساعون قال أمين وقد ظهر بياض الملح على شفتيه : لا أعرفه. صمت عباس قليلا ثم فجأة ضرب بعنف على الطاولة بكفه الضخم وزمجر: هل تظن أننا نيام؟ نحن نرصد مكتبتك منذ فترة طويلة, وأفضل لك أن تتعاون معي وتعترف . أوشك أمين على البكاء وأخذ يردد : أقسم لك ياسيدي أنى لا أعرفه . حسنا أنت اضطررتني لهذا ، ولكن تأكد إن أنا أمرت بإخراجك الآن, فستتعرض لعواقب وخيمة. : أقسم لك ياسيدي بالله العظيم أني لا أكذب. صاح عباس: خذوه. ونزلت هذه الصيحة كالسيف الحاد, على حبل الدهشة الملتف حول
قطبي المغنطيس ، فهبا بعنف ليأخذا أمين ، وعندما رآهما أمين مندفعان نحوه, كثورين إسبانيين قبيحين, صاح :انتظر ياسيدي, أعتقد أنه قد م على بالمكتبة رجل بهذا الاسم لكني لم أكن أعلم أنه إرهابي : جيد..جيد.. ما اسمه ؟ : اسمه ماعون ساعون : هذا اسم الجزيرة التي ولد فيها ياجاهل, ولو كنت تطّلع على الكتب التي تبيعها, لكنت حسنت من مستوى ثقافتك, والآن أخبرني بكل ماتعرف عن هذا الإرهابي,وتذكر أن التفاصيل الصغيرة قد تكون ذات أهمية قصوى لنا. ولرغبته الشديدة في التعاون,وحتى لاينسى تلك التفاصيل الصغيرة, نسج أمين قصة شيقة, عن ذلك الرجل ذي العينين الزرقاوين, الذي يرتدي قبعة الكاوبوي, ويدخن المارلبورو. قال أمين : لقد شككت فيه منذ البداية ياسيدي ,لأنه كان يأتي إلى المكتبة, ليشتري المواد التي يستخدمها الإرهابيون, مثل الغراء والشرائط اللاصقة, والمقصات, وما شاكل ذلك, لم يحدث اطلاقا أن اشترى مني شيئا ليقرأه, فقط كل تلك المواد التي يستخدمها الإرهابيون. قال عباس بلكنة من قطع نصف المسافة : يا أستاذ أمين, خذ وقتا لتتذكر جيدا, ألم يشتر منك ذلك الرجل مجلة ما, أوصحيفة على الإطلاق ؟ : آآه, لقد تذكرت ياسيدي, لقد أخذ مجلة نيوزويك ذات مرة : ماذا؟ :بالطبعة العربية : حسنا ياأستاذ أمين أنا أصدقك ،ويبدو أنك رجل وطني غيور, فإليك التعليمات : استمر في عملك كالعادة, وإذا ظهر عليك هذا الإرهابي مرة أخرى, فتعامل معه بصورة عادية للغاية, ولا تحاول أن تتصل بنا, نحن سنتصل بك, وتذكر أن رجالي يراقبونك جيدا, وإياك أن تخبر أحدا بهذا الأمر, حتى أقرب الناس إليك ,هل فهمت هذه التعليمات؟ قال أمين بلهفة:نعم :جيد, الآن يمكنك الانصراف وكانت هذه أعذب عبارة يسمعها أمين منذ زمن طويل , فهب من مقعده واندفع خارجا, لكنه ما كاد يقطع بضع خطوات, حتى صاح فيه خالد: ثابت مكانك . وكاد قلبه يقفز من صدره ,و صار وجهه مثل ثمرة الدوم المنهوشة بغير إتقان، لكن خالد مد يده وقال : لقد نسيت جوالك,وهاك ورقة البواقى. و ضج المكتب بزفرة الراحة التي أطلقها الرفيق عباس, ثم نظر إلى قطبي المغنطيس وقال في غيظ : والآن تفرغت لكما ياجوز القرع.. فصاح خالد: كنا نود فقط أن تخبره ياسيدي باسم المجلة, ثم نعيده إلى المكتبة ونحضر تلك المجلة, ولم نكن نعلم شئ عن اتصاله بذلك الإرهابى الكاوبوى. وبمجرد أن خرج أمين من البوابة الكبيرة لتلك البناية الحكومية المظللة, شعر بدوار فظيع ,وبالكاد استطاع التحمّل حتى وجد عربة أجرة, فقال للسائق: خذني إلى المستشفى الحكومي .. وبعد ساعات تلقت زوجته اتصالا منه : أهلا أمين كيف الحال : أنا في المستشفى الحكومي .. التاعت الزوجة وتبينت أن صوت زوجها بالغ الضعف : وماذا تفعل في المستشفى؟ : لقد أصبت بداء الضغط والسكري ولم تستوعب الزوجة المسكينة, كيف أن زوجها يخرج من بيته سليما, ثم بعد ساعات قلائل يخبرها بأنه أصيب بمرضين مزمنين, ولكنها تجلدت وردت عليه: ما الذي حدث ؟ واستمر قائلا: ليس هذا فحسب ؟ :هل أصبت بمرض آخر؟ تلفت أمين ثم قال بحذر:نعم..أعتقد أني قد أصبحت مخبرا سريا ,لكن لاتخبرى أحدا بهذا الأمر. ودون أن تشعر أقفلت الهاتف ، وبدأت تتجهز للذهاب إلى المستشفى الحكومي ، كانت تفكر في كثير من الاحتمالات, لكن لم يخطر على بالها على الإطلاق, أن بعضا من أمراض الرفيق عباس المزمنة,تسببت بواسطة مجلة نسائية ترفية, تصدر في قارة بعيدة, بلغة أجنبية,وتعاد طباعتها في الجوار بلغتنا الأم ،ثم توزع في بلادنا..لم يخطر ببالها أن كل تلك الفوضي الركيكة تسببت في إصابة زوجها بمرضين مزمنين, أو بالأحرى سيكونا مزمنين, وهلاويس قد تظل مترسبة في عقله إلى مدى بعيد .