منذ زمن ليس بالقليل وأرفف المكتبات السودانية تخلو من المجلات الثقافية المتخصصة، إذ لا تكاد إحدى المجلات تجد مكانها في تلك الأرفف وبالتالي إلى أيدي القراء، وتستمر لفترة، إلا أصابتها لعنة الاختفاء وغابت، بل أن بعضها استمر لأعوام ليست بالقليلة، ولكنه اختفى. بالطبع تتفاوت أسباب تلك الاختفاءات من حالة إلى أخرى، ولكنها تدور حول عدة محاور يتعين على الكُتَّاب والمثقفين والمهتمين الخوض فيها بالتحليل والتمحيص، فالمتتبع للتاريخ يجد أن هنالك تجارب متعددة ومختلفة في إصدار المجلات والدوريات التي تعنى بشأن الثقافة والفكر والفنون. ففي بداية ثلاثينيات القرن الماضي صدرت أول مجلة سودانية وهي مجلة النهضة السودانية لصاحبها محمد عباس أبو الريش، وفي منتصف ذات العقد ظهرت مجلة الفجر التي أصدرها عرفات محمد عبدالله ومعه عدد من المهتمين بالثقافة والإبداع أطلق عليهم فيما بعد جماعة الفجر، ثم مجلة أم درمان التي أصدرها المؤرخ محمد عبد الرحيم وكان يعاونه التجاني يوسف بشير، وفي منتصف الخمسينيات صدرت مجلة الحياة عن دار الأيام للطباعة والنشر، وفي الستينيات أصدر حسن نجيلة مجلة القلم، أما في السبعينيات فكان صدور مجلة الخرطوم عن المجلس القومي للآداب والفنون، ثم مجلة الثقافة السودانية عن مصلحة الثقافة، ومجلة العربي الأفريقي التي لم تستمر طويلاً. هذا بالإضافة لعدد من المجلات ذات الطابع المتخصص، مثل مجلة وازا التي أصدرها مركز دراسة الفلكلور والتوثيق الثقافي والتي تهتم بالتراث الشعبي السوداني، ومجلة السينما والمجتمع التي صدرت منها عشرة أعداد فقط، ومجلة القصة التي أصدرها عثمان علي نور لتعنى بالقصة وقضاياها. فبكل هذا الكم من الخبرات المتراكمة والتجارب الثرة، يكون خلو المشهد الثقافي الراهن من مجلة ثقافية مُحكمة، مُجَوَّدة في ما تحتويه من مواد، وفي إخراجها وتصميمها، أمر يبعث الحيرة والقلق في آن، فللمجلة أهمية قصوى في الساحة الثقافية، هذا ما يؤكده الشاعر والكاتب الصحفي الصادق الرضي الذي يقول: (إن الحاجة للمجلة الثقافية لا تنفد بطبيعة الحال، فالساحة الثقافية بغياب المجلة فقرها وبؤسها بائن، لا يعقل أن تعول ساحة ثقافية طيلة تاريخها على التوثيق من خلال الملاحق الثقافية الأسبوعية بالصحف السيارة المحاصرة بدورها بأقدار تخص صناعة الصحافة واقتصادياتها المعقدة). كل هذا يدعونا لأن نخوض في هذا مسببات هذا الغياب المقلق للمجلة الثقافية ومسبباته، التي يرى الشاعر والناشر إلياس فتح الرحمن صاحب دار مدارك للنشر أنها كثيرة، وبعضها يتعلق بالدولة وبرامجها الثقافية وخططها، يقول إلياس: (إن الهم الثقافي للنظام الحاكم الآن متدني الدرجة، ويأتي في ذيل قائمة الهموم، ولهذا طيلة هذه السنوات لم تشهد الساحة الثقافية مثل هذا النوع من الإصدارات والمجلات). الأمر الذي يتفق معه رئيس تحرير صحيفة الجريدة عثمان شنقر الذي يرى أن أمر الثقافة في تفكير القائمين على النظام الحالي، وفي مشروع حكمهم ليس أمراً مهماً، فوزارة الثقافة التي يجب أن تضطلع بأمر هذه المجلات والإصدارات، لا ينصب اهتمامها إلا في أشياء قشرية مثل إقامة المهرجانات والمنتديات والليالي الموسيقية والغنائية ذات الطبيعة الإستهلاكية، مما ألقى بظلاله على مختلف أشكال المنتجات الثقافية من الكتاب والمجلة والمسرح والسينما وغيرها. ويعدد إلياس فتح الرحمن نماذج لبعض الإصدارات التي توقفت مثل مجلة الخرطوم التي كانت تصدر لفترة طويلة جداً عن المجلس القومي للثقافة والفنون برئاسة تحرير قيلي أحمد عمر، ومجلة حروف التي كانت تصدر عن دار النشر بجامعة الخرطوم، ومجلة الثقافة التي كانت تصدر عن مصلحة الثقافة، والتي يصفها إلياس بأنها كانت خير ماعون لطرح القضايا الفكرية المهمة مثل التعدد والتباين الثقافي التي تعرضت للعديد من الانتهاكات بسبب غياب مثل هذا النوع من المجلات والدوريات المحكمة. والتي لم توقف هي فقط بل تم إلغاء مصلحة الثقافة بأكملها، بكل أقسامها المختلفة مثل قسم الأطفال والإنتاج السينمائي وغيرها من الأقسام. أما الكاتب والدبلوماسي السابق والأمين العام للمكتبة الوطنية د. نور الدين ساتي، يرى أنه بالإضافة إلى العوامل ذات الصلة بعدم استقرار الحركة الثقافية الناتج عن تزعزع الحركة الإجتماعية والسياسية، هنالك ما ينقصنا كسودانيين ألا وهو ثقافة المؤسسة المستديمة، أو ثقافة استدامة المؤسسات، ويعطي نموذجاً بمجلة العربي الأفريقي التي كانت تضم برفقته عدداً من عمالقة الكتاب السودانيين منهم محمد عبد الحي وجمال محمد أحمد وعبد الله علي إبراهيم، ومع ذلك لم يتسنَّ لها أن تُصْدِر سوى عدداً واحداً. وفي هذا الصدد يرى الصادق الرضي أن غياب المجلة الثقافية يرجع لغياب التأسيس الثقافي فيقول: (بداهة غياب التأسيس تتبعه «غيابات» كثيرة، ولعنة «التوقف» التي لحقت بالمجلات التي ظهرت بمختلف تجاربها والفترات التاريخية التي ظهرت فيها والظروف التي لازمت صدورها وألزمتها بالتوقف، يمكن قراءتها انطلاقا من هذا اللا تأسيس أيضا؛ يجب أن نعترف بأننا لم نتأسس بعد، ولم نؤسس بنية تحتية لإنتاج ما يلزم التطور في هذا السياق). ولضمان استمرارية المجلة الثقافية يرى الصادق أنها بحاجة إلى دعم الدولة وفي ذات الوقت تحتاج إلى نوع من الاستقلالية عن الدولة وتوجهاتها. الإنتاج الكثيف الذي تشهده الساحة الثقافية في مختلف مجالات الثقافة والفكر والفنون، يحتم وجود مجلات سودانية ثقافية متخصصة، لكي توثق وتنشر هذا الإنتاج، وتنتقل به إلى فضاء آخر مختلف عن فضاء الصحف اليومية الأقل ديمومة من المجلة. فهل يا ترى يمكننا أن نتابع في مقبلات الأيام مجلات ثقافية سودانية تعكس كل تجاربنا وخبراتنا السابقة في مجال صناعة المجلة؟ هل سيكون وجود مجلة سودانية مؤسس لها جيداً لكي تحقق استدامة في الظهور على المكتبات أمراً مستحيلاً؟.