ضبط عدد 12 سبيكة ذهبية وأربعة كيلو من الذهب المشغول وتوقف متهم يستغل عربة دفار محملة بمنهوبات المواطنين بجسر عطبرة    والي النيل الأبيض يزور نادي الرابطة كوستي ويتبرع لتشييّد مباني النادي    حميدان التركي يعود إلى أرض الوطن بعد سنوات من الاحتجاز في الولايات المتحدة    الكشف عن المرشحين للفوز بجائزة الكرة الذهبية 2025    اعفاءات من رسوم السكن والتسجيل بالداخليات لأبناء الشهداء والمشاركين في معركة الكرامة    لجنة أمن ولاية الخرطوم تشيد باستجابة قادة التشكيلات العسكرية لإخلائها من المظاهر العسكرية    عزيمة وصمود .. كيف صمدت "الفاشر" في مواجهة الهجوم والحصار؟    مناوي يُعفي ثلاثة من كبار معاونيه دفعة واحدة    نادي الشروق الأبيض يتعاقد مع الثنائي تاج الاصفياء ورماح    فترة الوالي.. وفهم المريخاب الخاطئ..!!    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. جمهور مواقع التواصل الاجتماعي بالسودان يسخر من الفنان محمد بشير بعد إحيائه حفل "ختان" بالعاصمة المصرية القاهرة    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس يصل مطار القاهرة الدولي    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان حلو مُر .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 26 - 01 - 2016

من تجربتي الشخصية الطويلة في الغربة فإن هناك طباعاً مشتركة عند معظم السودانيين وأخص السودانيين لأن طبيعة نشأتنا وأخلاقنا ومعيشتنا واحدة متفردة وتختلف عن بقية الشعوب دون أن أخوض في تفاصيل ذلك. فعندما نعيش بعيداً عن السودان في بلاد الاغتراب سواءً الدول العربية أو الاوربية أو الامريكية وأي دول أخرى وهي كُثر في هذا الزمان لا نستفيد كثيراً من المعطيات الثقافية والتاريخية والرياضية والفنية بكل أشكالها لهذه الدول بل تجدنا نتقوقع ولا نرى ما حولنا من جماليات ومتعة ولذلك ينتاب حياتنا جفاف ثم روتين قاتل. فالعمل وما يتعلق به من بروتوكولاتللاستمرارية يأخذ جُل الوقت فتصبح دائماً مشغولاً كأنك ترس في مصنع أو آلة في ورشة إلى أن تأتى الإجازة الأسبوعية وهي أيضاً روتين لكنه روتين من نوع أخر. تقضيها لأداء واجبات محددة حسب بلدان الاغتراب مثل ترتيب البيت..الغسيل..التسوق..والزيارات.. استعداداً لأسبوع عمل قادم وهكذا تسير الحياة على وتيرة واحدة فتفقد طعمها ورونقها ولذلك يصاب المغترب أحياناً بالغثيان والصداع وطعنات في القلب ونوبات من الخوف والوهم من حين إلى حين لكن ثمة أشياء هامة أو أهداف تجعل المغترب متحملاً لما تنوء بحمله الجبال الرواسي.
هذا جانب، أما الجانب الاخر فهو مغاير لذلك تماماً، فإذا ذهبت إلى السودان في إجازة أو للاستقرارالنهائي بعد سن المعاش أو قبله فأولاً يبدأ يومك من الصباح الباكر أي من النجمة كما يقولون - شئت أم أبيت، وثانياً لا تدري كيف وأين ومتى سوف ينتهي يومك هذا. فبمجرد أن تطأ قدمك أرض الوطن تخلع ثوب الروتين الخانق وتلبس جلابية "جناح أم جكو" الفضفاضة دون تدقيق حيث لا وجه ولا ظهر لها ولا يعرفونك أمقبل أنت أم مدبر ولو كان قميص سيدنا يوسف "جناح أم جكو" لظلت مشكلة سيدنا يوسف مع إمرأة العزيز قائمة حتى اليوم بلا حل إلا أن قميصه كان روتينياً وقُد من دبر. الشاهد أن الحياة في السودان رغم المعاناة الشديدة فيها كم هائل من التغيير المثير والمفاجئ الذي يجعل يومك ممتعاً وقصيراً.
كنت في الخرطوم في رأس السنة الميلادية وما يحمد له أن الطقس كان شتوياً جميلاً ومنعشاً الشيءالذي جعلني أنتظر الفجر كل يوم لأتأمل الحياة في السودان. فلاحظت أن الحياة هناك تسير دون تخطيط أو ترتيب مسبق وحتى لو حاولت أن تكون مرتباً كما تعودت فهناك عنصر المفاجآت اليومية التي تلغى برامجك تماماً أو تقلبها رأساً على عقب. فمجرد محادثة هاتفية من مقاول منزلك بوفاة والدة حبوبته في القضارف يتغير برنامجك إلى مشروع مزرعة سمك وبمحادثة هاتفية أخرى من شقيقك في اكسلا يتحول مشوارك من حي الطائف في الخرطوم إلى حي الصافية في بحري. وبعد أن تعبر كبرى بحري يرن هاتفك وتحادثك الوالدة بأن بنت أختك سوف تلد الآن في مستشفى سوباوعندما تلغى مشوارك وتعود لتصل بداية طريق مدني المؤدي إلى المستشفى تحادثك أختك بأنهم تحولوا لمستشفى الدايات في أم درمان لنقص في الأوكسجين في مستشفى سوبا. وهكذا تقضى يومك في الطريق تتقاذفك المحادثات الهاتفية يمنة ويسرة لكن فيما بين ذلك تشهد أحداث ونوادر كثيرة تجعل يومك مدهشاً لا يشبه أمسه.
فيما يلي سوف أذكر لكم باختصار بعض الأحداث النادرة والأشياء التي شاهدتها على أرض الواقعلأول مرة في هذه الزيارة القصيرة والتي تؤكد ما ذكرته لكم بأن من يلبس رداء "جناح أم جكو" الفضفاض يكون قابلا للإقبال والإدبار بسهولة في أي لحظة.
في صباح اليوم الأول خرجت بصحبة أخي الأصغر صديقي سعد سيد، وكما العادة، لقضاء الواجبات الاجتماعية خاصة التعازي القديمة، وما أن قضينا الواجب الأول حتى جاءت رسالة إلى سعد بوفاة والد صديق له للتو، فتأثرنا للخبر وغيرنا الاتجاه إلى المقابر لحضور مراسم الدفن. وأثناء الدفن أصيب أحد المشيعين بحالة مرضية مفاجئة فتمت مساعدته وأجلسوه على "عنقريب" الجنازة الذي كان قد خلىّ للتو وعندما اشتد عليه المرض اضطر المريض أن يتمدد فوق "العنقريب". وما أن انتهت مراسم الدفن حمل أربعة من المشيعين "العنقريب" سريعاً على أكتافهم وفوقة الرجل المريضممداً إلى خارج المقابر لإسعافه، وفى منتصف الطريق فاق الرجل المريض ووجد نفسه محمولاً على الأعناق في المقابر فانتابه الخوف والهلع ورفع رأسه ليؤكد لنفسه وللآخرين أنه ما يزال حياً. وفى هذه الأثناء كانت هناك مجموعة أخرى من الناس تشيع ميتاً اخر في مقبرة قريبة لكن عندما شاهدوا منظر الرجل المريض رافعاً راسه فوق" العنقريب" جن جنونهم وتركوا ميتهم وجروا نحونا معتقدين أن ميتنا قد أحياه الله في المقابر بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من دفنه. ولكم أن تتخيلوا هذا المنظرالمضحك المبكى الذي لا يحصل إلا في السودان، وربما لم يخطر حتى على بال مؤلفي ومخرجي "الكاميرا الخفية".
وفى صباح اليوم الثاني زرت صديقاً لي يعمل صيدلياً في صيدليته وقد لاحظت حركة بيع مستمرة لا تكاد أن تقف طيلة اليوم في كل الصيدليات عموماً مما يوحى بكثرة الأمراض والمرضى. وقد لاحظت كذلك عدم الاعتماد على الوصفات الطبية لصرف الأدوية فالصيادلة والمرضى أنفسهم أصبحوا يلعبون دور الأطباء في التشخيص ووصف العلاج. جلست خلف الكاونتر بجانب صديقي المشغول أراقب حركة البيع وبما أن في الصيدلية أكثر من صيدلي ومساعد صيدلي لفت إنتباهى أن بعض المرضى أو المشترين يتجهون مباشرة نحو صديقي الصيدلي بالتحديد ويقدمون له بعض الجنيهات في صمت لكنى أدركت أن في صمتهم كلاماً لا يفهمه إلا صديقي الصيدلي فيقول لهم : "ما في " أو "معدوم". وكأنه يبيع حشيشاً. فاحترت ماذا يكون ذلك الشيء المعدوم الذي يستقطب هذا العدد المقدر من المراجعين في الفترة التي قضيتها خلف الكاونتر! وساقني حب استطلاعي فيما بعد أنها "الحبة الزرقاء" وعرفت حينها سر المقص الذي كان قابعاً أمام صديقي الصيدلي. ومما أثار انتباهي أن المراجعين كانوا من البسطاء وعامة الشعب فهل يا ترى الأحوال والظروف المعيشية الصعبة أثرت في نفسيات الرجال أم أن هناك مالاً فائضاً في شريحة ما من العمال والحرفيين! موضوع يحتاج إلى بحث في عينة من هؤلاء.
في اليوم الثالث دعاني صديقي أحمد شريف إلى منزله لحفل تعارف بين أسرته وأسرة عريسبمناسبة مشروع زواج ابنته. وبعد أن انتهينا من مراسم التعارف بين الأسرتين وتم التقدم والقبول دُعينا إلى حفل العشاء الذي نظمه صديقي بمنزله احتفالا بأهل العريس وبالمناسبة نفسها. . إلىهنا الأمر عادى جداً ولكن عندما انتهينا من العشاء وهممنا بالمغادرة أمرنا عم العريس بالبقاء لأمر آخر. وبعد قليل عاد إلينا صديقنا الدكتور عبدالله سيد أحمد المتفقه ديناً وعلماً من منتصف الطريق وأتم مراسم عقد القران شفوياً وذهب ليواصل مشواره ثم تبعه المأذون الشرعي ووثق عقد القران وأصدر الوثيقة في الوقت نفسه وهكذا إنتهى مشروع الزواج. الشاهد أن التعارف كان قد أصبحشكلياً فقد اتضح في حينه أن عم العريس هو صديق لخال العروس وخال العريس زميل دراسة لعمالعروس ووالد العريس زميل مهنة لعم العروس وهكذا تكشفت علائق مسبقة كثيرة، وعاش الناس فيمفاجآت ودهشة الشيء الذى اختصر الزمن وأصبح زواجاً مباركا ًفي تلك الجلسة الأولى. هذاالتلاحم الأسرى السريع الذي رأيته لا يحصل إلا في هذا البلد العزيز.
في صباح اليوم الرابع دق بابنا شاب قصير يلبس كغطاسي البحار خوفاً من البرد ويعلق على كتفه أسطوانة أكبر منه حجماً وأفاد بأنه يرش المنازل بالمبيدات الفعالة لقتل الحشرات وعنده ضمانات يقدمها. ولما سمعت قصصه وتجاربه في الحياة لم أدقق معه في سعر الخدمة طالما يجتهد في طلب الرزق. فقط طلبت منه أن يضمن لي عدم وجود بعوض بعد رش مبيده الذي حكى عنه، فأعطاني رقم هاتفه الجوال لأتصل به في أي وقت إذا وجدت حتى ولو بعوضة واحدة، ثم رش المنزل بالمبيد وذهب إلى حاله. لكن كانت المفاجأة تاني يوم حيث ازدادت كمية البعوض عن ذي قبل وحتى الغرف التي كانت خالية من البعوض دخل فيها البعوض، فاتصلت به شاكياً الحالة وعن ضماناته ومبيداتهوعنترياته التي ما قتلت ذبابة. رد علىّ بكل ثقة أن هذا المبيد قوى وفعال لكن ليعمل لا بد أن يرش الجيران من حولنا نفس المبيد. هنا أدركت أنه قد غشنا، وليس منا، لكن الأدهى والأمّر من ذلك أنه يريدني أن أجلب له ضحايا اّخرين. فقلت له صاحب العوض موجود.
في اليوم الخامس أرسلت سيدة في مجموعتنا فى "الواتس أب" رسالة تخبرنا فيها أنها مسافرة إلى مدنى لتبارك في ميلاد حفيد نص كمب. لم أفهم بالظبط ما تقصده بنص كمب.. لكن قلت ربما تقصد حفيداً منسياً أو حفيداً ناقصاً أو حفيداً باللفة أو ما إلى ذلك، لكن فى اليوم الثانى وأنا أفكر فيماأرسلته السيدة تذكرت أن "نص كمب" هو لقب سار على رجل يدعى سليمان كنت أعرفه ومات منذ زمن طويل وسبب هذا اللقب، الذى غطى على إسمه الحقيقى تماماً، هو أنه كان يعمل ترزيا، ولكثرة زبائنه أو ربما لكسله أو لجهله، لا أعرف، كان يفصل الملابس (من جلابية وقميص أفرنجى وعراقىوجاكيت) نص كمب فقط وحتى لو طلبت منه كمب طويل !.ويبدو أن "نص كمب" هذا كان متمسكاًبالمثل الذي يقول "كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس". فضحكت كثيراً لهذا اللبس.
وربما تلاحظون أن أسماء بعض العوائل اللبنانية أيضاً ترتبط بالمهن أو الحِرف مثل حكيم، قهوجي،الخياط، العطار، النجار، التاجر، حلواني، ملاح، دباس، بيطار إلخ... فيسهل معها اللبس في الفهم بيد أن اللبس في الأسماء أو الألقاب قد يكون مضحكاً كما في حالتي التي ذكرتها أعلاه لكن ربما يكون خطيراً في بعض الأحيان، مثل اللبس الذي صار في حالة الشيخ الأمين. فقد سمعته بالأمس يقول بعد إطلاق سراحه من الإمارات أن من ضمن التهم التي وُجهت إليه بواسطة الأمن السياسي هو "دعم الجهاد" فكانت إجابته لهم : أنه رجل صوفي وأن "الجهاد" الذي يدعمه هو فريق كرة قدم!
كان اليوم السادس من أفضل الأيام حيث دعتني الدكتورة هنية مرسى فضل مالكة "مستشفى الخرطوم للعناية بالثدي" والحائزة على وسام الإمبراطورية البريطانية من ملكة بريطانيا في العام الماضي ووسام الاستحقاق من رئيس الجمهورية في السودان هذا العام حيث كان يوما حافلاً ومفيداً أخذتنا فيه الدكتورة هنية بنفسها بجولة كاملة داخل المستشفى المجهز وشرحت لنا إجراءات الفحص والعلاج وكيفية التخلص من المواد المستعملة وشاهدنا غرف العمليات الجراحية وغرف العلاج وغرف المرضى وقاعات الدراسة والتدريب. حقاً إنه مستشفى مكتمل بكل المقاييس العالمية وقد ذُهلت لمستوى النظافة والعناية بالمرضى ونوعية الأجهزة والمعدات والعاملين من أطباء وممرضين وفنيين وموظفين وعمال. وليس من رأى كمن سمع. ووجود هذا المستشفى المكتمل جذب كثيراً من المرضى للعلاج بالداخل حيث توضح سجلات المستشفى أنه استقبل حوالى 17 الف حالة حتى الآن. وأجمل ما فيهذا المستشفى هو إدارته بواسطة مجلس إدارة يضم بعض أثرياء البلد الذين يدعمون الصندوق الخيري للمؤسسة الذي أنشأته الدكتورة هنية لمساعدة المرضى المحتاجين لعون مادي علماً بأن المستشفى غير ربحي لكن فحص وعلاج هذا النوع من المرض عموماً باهظ التكلفة.
في اليوم السابع ذهبت مرافقاً فقط لوزارتين مختلفتين في المهام والموقع. الأولى لتجديد جواز سفر انتهى مفعوله والثانية لاستخراج بطاقة إقامة الوافدين لحفيدى الطفل. لم يتجدد الجواز حتى منتصف اليوم رغم اكتمال كل الاجراءات لعطل في مكينة الطباعة وتوقيع الشخص المسئول فتأجل لليوم الثاني ثم الثالث. الثانية لاستخراج بطاقة الوافدين لطفل أخذ بقية اليوم لتعطل الشبكة وعندما حُلت مشكلة الشبكة تعطلت ماكينة الطباعة وبعد ساعات من الانتظار يئسنا وعدنا إلى المنزل. الشاهد أن معوقات العمل عامة في كل الوزارات ومرافق الدولة الخدمية كما أن التعطيل أسبابه واحدة في كل تلك المرافق وهي تحديداً الشبكة طاشة، الشبكة كعبة، الكهرباء مقطوعة، مكينة الطباعة تعطلت والمسئول الذي يوقع في اجتماع (وحقيقةً هو ما يزال نائماً في بيته). همسة : الشعوب تتقدم باحترام العمل واحترام القانون واحترام المواعيد. كما أن مشاكل الشبكة والطباعة والكهرباء سهلةالحل بوجود بدائل طوارئ جاهزة من مولدات وخلافه..لكن تبقى مشكلة المسئول النائم !
وفي اليوم الثامن كان البرنامج الموضوع مسبقاً قبل يومين هو زيارة استكشافية لمنطقة سوباوالمجمعات السكنية الجديدة مثل الياسمين وتارا ويومها خرجنا من الصباح الباكر وعرجنا قليلاً لاصطحاب صديق ثم صرنا مجموعة ولبينا اقتراح بفطور في "حوش السمك" ولا أدرى أين موقعه لكثرة حيشان السمك الآن. وحتى نقاوم النعاس بعد وجبة السمك المقلى والمشوي تغير الاتجاه لشارع النيل لشرب شاي كارب وجّبنة حبشية عند الحاجة بتول المشهورة. كل ذلك كان استعداداً للمشوار لكن عندما أقلعنا ودخلنا طريق سوبا فإذا بمحادثة هاتفية هامة تبلغنا بخروج البروف دكتور "عبد السلام جريس"، وهو غنى عن التعريف، من المستشفى متعافياً بعد بقائه في العناية المركزة لأكثرمن أسبوعين، ومن شدة فرحتنا بشفائه لا شعورياً عملنا خلف دور إلى حي المنشية حيث منزل البروف جريس وهناك وجدنا شارعه غارقاً في دماء الذبائح من ثيران وخراف غير الأحياء منها التي ملأت فناء المنزل ثم الغناء والذكر والمديح والبخور، والطبول والزغاريد والرجال والنساء والأطفال،والبلابل يصدحن بأغنية "أسمراللونا" باللغة النوبية ورأيت دموع الفرح في مآقي البروف جريس وبناته من خلفه. لقد كانت بحق ملحمة عشناها معهم، وبهذه المناسبة علق لي صديقي جعفر فضل من لندن:" أن أغنية "أسمر اللونا" التي غنتها البلابل باللغة النوبية في سريره بالمستشفى عملت في البروفعمل السحر وهي التي شفته ". أطال الله عمره بقدر ما قدم ومتعه بدوام الصحة والعافية. الشاهد هنا أن برنامجنا لزيارة منطقة سوبا لم يتم لكنه كالعادة تمخض عن أحداث وبرامج أخرى أكثر متعة وإثارة.
في اليوم التاسع انتهت إجازتي فحملت حقيبتي وخرجت صوب المطار في الصباح الباكر وقبل إقلاع الطائرة بساعات طويلة وأغلقت هاتفي المتحرك حتى لا أترك فرصة ولو قيد أنملة لتغيير برنامج السفر.
هذه التجارب الشخصية التي عورت رؤوسكم بها أردت أن أؤكد لكم بها أمرين غير جديدين: الأمرالأول هو أن الحياة في السودان فيها معاناة شديدة لدى معظم طبقات المجتمع لأسباب كثيرة سوف لن أخوض فيها والأمر الثاني أن تلك الحياة رغم المعاناة فهي متجددة ومتغيرة لدرجة الإثارة لذلك فهيأشبه بالولادة المتعسرة أو الارحام التي يخرج منها الطفل وتخرج منها المشيمة في الوقت نفسه.
بالأمس دُعينا إلى وجبة غداء في مطعم لبناني لصحن فتة بزنجان بالتوم والحامض وكان صحناًشهياً فعلقت ابنتي "والله يا بابا الحامض حلو" ! فضحكنا للتعبير المتناقض ثم قلت لها : هذا أشبهبحال الحياة في السودان حلو مُر.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.