بسم الله الرحمن الرحيم عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ما أقسى العجز وأمرّهُ حين ترى من تحب تتسلّل روحه بين أصابع الحياة وليس فى الإمكان شىء سوى الدّعاء. وما أشبك المشاعر حين تراه بلا وعىٍ أو متألّماً، لا لقمة ولا شربة ولا نفساً نفيساً يستطيع، ترجو له الشفاء وتأمل له الرّاحة سويّاً. كان كقطرة النّدى تتعلّق على حافّة الوردة يتجاذبها عالمان، خفيفاً شفّافاً مثلها يزيد وردة الحياة جمالاً، يمشى بهدوء من يطأ السَّحاب، رشف رشفة من رحيقها كالنّحلة ولم يُثقل وخلّف شهداً ثمّ رحل على عجل والصبح بادٍ. عجباً لهذه الحياة خَطْفُها سريعٌ شديد، بالأمس كنّا فى معيّة أحباب نسامرهم يوم زواج ابنته الوحيدة زهراء، التى أسماها على والدته والتى ندعوها تحبّباً "التِّنَينَةْ"، وهو يزجو السعادة كناثر الطِّيبِ فُكاهةً من طرائف حياته، برغم خفوت الصوت وألم المرض، والضحكات والأغانى سرت فى جوِّ البيت كالدفء فى المقرور، وماء المحبّة فاض حتى ارتوى الجمع، ثمّ ها نحن نتركه مع صديقه الذى سبقه عبدالرحمن الطيّب وتوأم سفيان خلف الله، رحمهم الله، يتجاورون، فى يوم جمعة مباركٍ مشهود مشمس ودافىء فى الشتاء يتفضّل علينا بكرمه وهو مفارقنا فلا يَشُقُّ علينا كعادته، ونعود لحياتنا وقد همعت عليه عبرتنا وتكاد تنفطر أكبادنا، كأنّنا لم نتقاسم معه حلوها ومرّها، نرضى حياته ونأبى مماته ولكنّها قلَّة الإنصاف لا غير. عشنا العمر أغراباً حتى تلاقينا فأصبحنا أهلاً وأمسينا بيننا حبل الود والعهد لا انقطاع له فالغريب للغريب قريب. سليل الأكرمين وسيّد الكرماء كيف لا وقد غنّت الشاعرة لجدّه لأمّه الناظر حمّاد أسوسة ناظر الحوازمة: "سكينو اشتكت من ضبح الغنم، البِعشِّى ضيف الهجعة وكت الرجال تِتْلَمْ". ولمن لا يعرف حياة البادية فهذا سنام الثناء وهو ما جعله أميرها وسيّدها كرماً وشجاعة كيف لا وهو صاحب المثل المعروف: "الخيل تجقلب والشكر لى حمّاد" فهو الذى نظّم أعظم سباق للخيل فى كردفان ولكنّه لم يشارك فيها فصارت النّاس تذكر اسم صاحب الدّار وتنسى اسم صاحب الجواد. قبيلة الحوازمة تنبع من جهينة وتنتهى عند سبأ أوّل ملك مُتوّجٍ فى العالم. أوصانى مرّة فى زيارة لى للسودان أن أزور شقيقه حامد عليه رحمة الله، وكان يعمل فى معهد شمبات الزراعى ويسكن فى بيت لا يبعد كثيراً عن مستشفى الخرطوم بحرى. أخذنى حامد لداخل الدّار حيث وجدت والدته تتكىء على "عنقريب" وَطِىءٍ؛ بدوية كلون الذّهب ذكّرتنى بنساء بادية البقوم بالمملكة العربيّة السعوديّة، ولمّا قال لها حامد أنّنى من طرف بريمة، وهى قد أسمته على اسم شقيقها بريمة حماد أبسوسة، قفزت، أىّ والله قفزت هبّة واحدة وهى تقول بلهجتها الكردفانيّة المحبّبة: "وَلْضَ امِّى"، وعانقتنى كأنّها تجد فىّ ريحه وسألتنى بين الدّموع عن حاله وآله. ما كنت أعلم حينها أنّها أميرة من نسل سيّد قومه ولا بريمة تباهى بها ولا بجدّه؛ وله الحقّ أن يفعل ولكنّه كتم خبرهم ونشر فعلهم، فما مرّ رمضان ولا عيد إلا وبيته عامر بمن فرّقتهم مصائب دارهم من أعزاب جاليتنا السودانيّة فى نيوكاسل فى شمال إنجلترا يتودّدهم ويصلهم ويضىء ليلة من ليالى غربتهم برائحة البلد، وحنان الأهل، ودفء العشيرة، وزوجه البشوش الأستاذة عواطف أحمد موسى ابنة بارا، وابنته اللطيفة المبسام زهراء تمدُّان البساط، وتحطّان الإدام، وتدعوانهم للطعام وابنه المهندس محمد يخدمهم بخلقٍ رفيع. أمّا من ناحية أبيه فجدّه الأمير إبراهيم الترجماوى الذى ينتمى لقبيلة الترجم العربيّة التى تنحدر من الدّوحة النبويّة بنو عمّ الجعليين، وهم أهل علمٍ وفروسيّة؛ فالأمير إبراهيم الترجماوى قاد خمسة آلاف فارس من الأبيض لمساعدة حمدان أبو عنجة فى القضاء على هكس باشا فى معركة شيكان فى أسرع معركة سجّلها التاريخ، وهو أيضاً القاضى الشرعى فى إمارة الخليفة عبدالله التعايشى. وقبيلة الترجم التى نزحت من الجزيرة العربيّة فى نهاية الدولة العبّاسيّة حين قضى جنكيز خان على الأخضر واليابس واستقرّت بجنوب كردفان حيث المرعى والماء والوجه الحسن، تمازجوا مع قبيلة الحوازمة فى منطقة الحمّادى حيث وُلد بريمة. ولو أنّ هناك سوداناً موحّداً أو رؤية لسودان مستقبل فمنطقة الحمّادى مِثالُها الذى يُحتذى، إذ تصاهرت القبائل، وامتزجت الدّماء، وانصهرت النّفوس فى بوتقة عشق واحد وثقافة متنوّعة. بريمة زادته قيمة أهله تواضعاً وقد كان يسخر من الذين يتسابقون للصق أصولهم بالدّوحة النبويّة فيقول: "إنتو أبو لهب دا ما كان عمّ الرسول؟". لا غرابة أنّ بريمة ابن إرثه العظيم فقد كان أنصاريّاً مخلصاً وكان معجباً بالإمام الصادق المهدى ودائماً ما كان يذكّرنى؛ حين أناكفه، بأنّه الرئيس الوحيد الذى لم يتقاض راتباً وكتب كتباً، وكنت أمازحه وأقول له عندما يعود الإمام الصادق المهدى للسلطة فسوف يعينه وزيراً للتعدين، لأنّه كان مهندساً جيولوجيّاً جاب السودان والعالم وعمل مع شركة شيفرون إلى أن ابتُعث لجامعة نيوكاسل، أو ربّما يعيّنه "حاكم عموم كردفان". بريمة برغم إخلاصه لعقيدته الأنصاريّة كان علميّاً فى التقييم، صحيح التّديّن، مواظباً على حلقة التلاوة الاسبوعيّة تالياً ومجوِّداً، خفيف الروح، فكه العبارة، واسع الأفق، ومفتوح البصيرة يجهر برأيه، بل ويعتد به، إن رأى باطلاً وما أندر خطؤه. طموحه لا يُحد وتضحيته تنازع طموحه فى القوّة، ترك الدراسة للعمل بالمدارس الوسطى الصناعيّة بعد تخرّجه من المعهد الفنّى لمساعدة أسرته وبرغم أنّه كان واسطة العقد فقد اعتبره إخوته وأخواته بمثابة الأب فقد غادر والدهم الدّنيا صغيراً فى عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين تاركاً خلفه ثلاثة أولاد وأربع بنات. حثّهم جميعاً على العلم ونهلوا منه وما إن استقرّ سفين الأسرة على مرفأ الأمان حتّى التحق بجامعة الخرطوم بعد عشرة أعوام من رحيل والده ودرس الجيولوجيا ثم ذهب لولاية أوكلاهوما فى الولاياتالمتحدةالأمريكية فى عام ألف وتسعمائة وسبع وثمانين ومن بعدها لجمهوريّة مصر العربيّة وأخيراً إلى إنجلترا فى العام ألف وتسعمائة وواحد وتسعين حيث نال شهادة الماجستير وحال المال دون إكماله لدرجة الدّكتوراة.
على ما أذكر فى سبعينيات القرن المنصرم هبّ على وسط السودان دُعاش الفنِّ الكردفانى، وأسرنا بلا قتال إذ أنّ تلك الرجفة التى أخذت بزمام قلوبنا لا تزال، وكان ولا يزال ممّا يشدّنى ويفتننى تصغير الكلمات واصطياد المعانى من البيئة مثل الرهيد والصغيرون والقصيبة واللهيج وما شابه، حتى صار ديدنى فى شعرى، ولاحقاً عرفت أنّ بادية الحوازمة، حيث نشأ بريمة، نالت نصيب الأسد من العذوبة، وبماذا أستطيع أن أصفها بغير العذوبة وهى كالشهد طعماً، وكالبدر إشراقاً، وكالنسيم طراوة ولم يكن بريمة لينجو من هذه العذوبة فصار اسمه بريمة تصغيراً لبرمة، وهى كلمة عربيّة فصيحة، فارتبط التّصغير بالبيئة إذ أن للبرمة دوراً لا يضاهيه دور فى البادية من حيث غريزة البقاء فى بادية شحّ فيها الماء ويرتوى فيها النّاس من البطيخ الأبيض الحلو المذاق كما حكى لى بريمة. وقد كان إسماً على مُسمَّى تذكر أخواته كيف أنّه كان يحضر الماء كلّ يوم من مسافات بعيدة بالحمار ليسقيهنّ، حين عزّ الماء وضرب الجفاف البادية، وهُنَّ يتيمات تركهنّ الأب بلا رجعة زغب الحواصل لا ماء ولا شجر. كان لبريمة سحر غريب يجذب الأطفال ورابطة معهم يحسده عليها أولياء الله الصالحين، فمثلاً ابنى سامى يقتصد فى حبّه وفى إظهاره وأنا أعتبره مقياس الحرارة العاطفى، وأذهلنى عندما لزم بريمة سرير المستشفى بطلب الزيارة ولمّا لم ييسّر الله له ذلك ويسّره لأخويه اللذين ضمّهما إليه وعانقهما عناق مفارق، وأستردّ الله أمانته غضب غضباً عارماً وأصرّ أن يأخذ إجازة من المدرسة ليشيّعه بل زاحم من هم أكبر منه سنّاً وساهم فى الدّفن وغرس حذاءه الذى يعتزّ به فى الطّين بلا اهتمام وبكى بكاءً بلا قيود. وسألنى بعدها إن كنت سأكتب عنه، وعندما أجبته بنعم قال: اُكْتب عنه أنّه كان رجلاً طيباً وظريفاً وسليم القلب وأضاف: "لا أندم على شىء ما مثل عدم زيارته تكراراً ما عدا فى المناسبات". هذا بريمة الذى نعرفه سليم القلب ما احتمل ضغينة فى قلبه ولا لمز أحداً ولا شارك فى نميمة ولا تأخّر فى معروف فى كلامه رقَّةٌ، وفى سمْته طمأنينة وفى فضله زاد لا ينقص يفرح بالضيف ويحبّ الأنس. لشدّ ما آلمنى أن يموت كسير القلب على وطنه الذى عزم الرجوع إليه لرِفْعةَ شأنه، وقد فعل لبرهة ولكن استحوذ عليه المرض فلا تشخيصاً وجد ولا علاجاً، وقد كان كحالنا خبرة مجمّدة، وعطاء فى غير مكانه، وما ذلك إلا من سفه وحمق أبنائه وضلالهم أوردوه سبل الهلاك وكلٌّ يدّعى الوله به وأفئدتهم خواء وبصيرتهم عمياء. سلام عليك منّا يا حبيبنا، عشت طيباً ونمت طيباً، أودعناك من حيث أتيت عند ربّك ومولاك حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. اللهم إنّا نشهد له بذلك ونحسبه من الصالحين. ترك ذريّة صالحة عالمة عاملة نسأل الله أن يجعلها صدقة جارية له، اللهم فاحسن نزله، واكرم مثواه، واعف عنه وعافه، وادخله الجنّة فى فردوسك الأعلى راضياً مرضيّاً بغير حساب، مع زمرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عند حوضه الكريم، والزم زوجه الأستاذة عواطف أحمد موسى وابنه المهندس محمد وابنته خبيرة الأدوية زهراء وأهله وكلّ من أحبّه حسن الصبر والسلوان.