في الإقتصاديات الريفية المختلطة والتي تتبني نمط الإنتاج الرأسمالي، تكون الفرصة سانحة للقطاع الخاص في أن يتحكم في معظم العمليات الإنتاجية، ببينما يتراجع تبعا لذلك، دور الحكومة ليقتصر في أدني حالاته علي الرقابة والإشراف الإداري علي التشريعات القانونية التي ينضبط بموجبها الأداء الأقتصادي للبلاد بمختلف القطاعات الخدمية والمنتجة. برغم ذلك البعد تظل الحكومة تتحكم بخيوط العملية الإقتصادية من خلال تحكمها في آليات السياسة النقدية والمالية .. فالحكومة بمقدورها أن تؤثر سلبا أو إيجابا، علي أقدار العمليات الإنتاجية، من خلال تحكمها في آليات السياسة النقدية المتمثلة في الحصص والأسقف الإئتمانية للقطاعات المختلفة وأولوياتها، التحكم في الكتلة النقدية والإحتياطات وسياسة تحديد سعر الفائدة علي القروض، وسعر الصرف من خلال مواعين البنك المركزي. هذا بخلاف آليات السياسات المالية والتي من خلالها تتحكم الدولة في توجيه العمليات الإنتاجية بموجب الأولويات الأقتصادية، ومن خلال تحديد فئات الأ‘عباء الضريبية أو الحوافز والإعفاءات علي الأنشطة الأنتاجية المختلفة، والتحكم كذلك في إنسياب السلع المستوردة من خلال تشريعات فئات الرسوم الجمركية المفروضة علي مختلف السلع. إن السياسة المالية للدولة تشمل فيما تشمل، حزما من الضوابط والإجراءات المجازة من قبل المجلس التشريعي الأعلي بالبلاد والساعية لتحقيق أهداف البرامج الإقتصادية المستهدفة بواسطة الدولة. تشمل تلك الضوابط والأجراءات التوقيت وحجم الإعتمادات المالية للقطاعات المستفيدة من حصص الإنفاق العام بأولوياتها المختلفة.. كل ذلك يتم رصده وتدوينه وفق خطة قانون الموازنة العامة النافذ والملزم للجهاز التنفيذي طوال سريان السنة المالية للموازنة. حصاد الإيرادات: يتوجب علي كل دولة من أجل مقابلة أعبائها في دعم وتطوير الأداء الإقتصادي بالبلاد جنبا إلي جنب مع أعبائها الأخري المتمثلة في الدفاع، الصحة العامة، التعليم، حماية البيئة، التنمية وتطوير البنية التحتيه، يلزمها أن تتحصل علي مقدار من الإعتمادات المالية التي تمكنها من النهوض بهذه الأعباء علي الطريقة المثلي، بموجب الإمكانات المتاحة. ومن هنا نشأت أهمية الإادارة العامة للإيرادات التابعة لوزارة الخزانة أو المالية، كما نشأت كذلك الحتمية لتشريع فئات الرسوم السيادية الملزمة للأنشطة الإقتصادية، الواقعة داخل الأراضي والمياه الأقليمية الخاضعة لسيادة الدولة. تتراوح الأعباء الضريبية ما بين الضرائب غير المباشرة والتي تشمل الرسوم والفئات الجمركية علي البضائع والمنتجات العابرة للمنافذ الحدودية البرية والبحرية والجوية علي السواء، رسوم الإنتاج علي العمليات الإنتاجية بالمصانع، هذا بالإضافة للضريبة علي القيمة المضافة والواقعة ختاما علي سلة السلع الإستهلاكية التي يحملها العاملون المنهكون في طريق العودة إلي الديار بعد نهاية يوم طويل من العمل الشاق. كما تشمل الأعباء الضريبية كذلك الضرائب المباشرة، كضريبة الدخل الواقعة علي المرتبات والأجور والعلاوات المختلفة، ضريبة أرباح الأعمال الواقعة علي الأرباح المرحلة أو الموزعة في شكل عائدات لصالح حملة الأسهم. تتلخص مهام الإدارة القومية للإيرادات في تجميع كافة الأستحقاقات الضرائبية والجمركية وجعلها متاحة للدولة، التي تقوم بدورها بالإشراف علي إنفاق تلك الإيرادات، بالإضافة للقروض والمنح المتحصلة من المانحين، بموجب مؤشرات قانون الموازنة العامة الذي يفترض أنه قد تمت إجازته قبل وقت كاف من حلول السنة المالية المعنية. المستهلك الأكثر إنفاقا: إن مجمل الإنفاق العام بواسطة الدولة والمبذول في أوردة وشرايين القطاعات المختلفة، يجعل من الدولة المستهلك الأكثر إنفاقا علي الإطلاق، في الطلب علي السلع والخدمات المنتجة في مواعين الإقتصاد الوطني. يدعم ذلك الرأي حقيقة أن إجمالي التداول والحراك الذي تحدثه أنشطة الموازنة يتجاوز 25% من الناتج الإجمالي المحلي في إقتصاديات الدول الأقل نموا. إذا ما كان علينا أن نعدد أوجه وبنود الإنفاق الحكومي، والتي عادة ما تشملها خطط الموازنة في دول العالم الثالث، كان علينا أن نذكر الفصل الأول الذي يحوي المرتبات والأجور لكافة العاملين بالدولة، واالأمن والدفاع، وزارة الداخلية (البوليس)، والأجهزة الأمنية، الجهاز الحكومي ومجلس الوزراء، البعثات الدبلوماسية والمراسم، الإلتزامات المالية تجاه المستشارين والمقاولين المتعاقدين مع الدولة.. يعقب ذلك الإنفاق علي الصحة العامة، التعليم، البحث العلمي والتطوير، صيانة وتطوير مشاريع البنية التحتية، الإعفاءات وحزم التشجيع والحوافز للقطاعات الإقتصادية التي تحظي بإهتمام الدولة، هذا بالأضافة للإنفاق لمقابلة خدمة الديون الخارجية. عطفا علي ما تقدم، وبكون أن الحكومة تمثل المستهلك الأول للسلع والخدمات المنتجة، فإن جرعات الإنفاق التي تبذلها الدولة، يتمخض عنها مردود إقتصادي مباشر في القطاعات المحظية بالإنفاق. فعلي سبيل المثال، إذا ما تم ضخ جرعات أكبر من الإنفاق الحكومي لتمويل مناقصات لعمليات إنشائية كإقامة الطرق والكباري وشق القنوات، إنشاء مستودعات المياه ونقاط العناية البيطرية في مسارات الرعاة، مستهلكات مشاريع البنية التحتية والمجاري ومشاريع الصرف الصحي، فحالما ينعكس أثر هذا الإنفاق بإزدهار قطاع العمليات الإنشائية والمقاولين وتتراكم جراء ذلك فوائضه الإقتصادية.. كما أنه بالمقابل لو سخرت هذه الجرعات من النفقات الحكومية لتجميع إحتياطات كبيرة من الحبوب الغذائية، لبناء مخزون إستراتيجي، أو لإنفاذ منظومة من الخطط تهدف لحماية المزارعين من الإغراق وحروب الأسعار، كما درجت علي ذلك بورصات التداول السلعي في أديس أبابا وفي شيكاغو بورد أوف تريد ودول كثيرة أخري حول العالم.. فإن قطاعات الإنتاج الزراعي بالبلاد ستشهد لقاء ذلك إزدهارا جبارا سيؤدي إلي مضاعفة فواضها الإقتصادية، وبالتالي تطوير سعاتها الإنتاجية، بالإضافة لتناقص حدة الفقر والفاقة في المجتمعات الرعوية والفلاحية. أي الشرائح أكثر فاعلية في تنمية الطلب الكلي ؟..: علي الرغم من أن معظم مواطني الدول الأقل نموا، من قاطني الريف والعاملين بالقطاعات التقليدية، يواجهون عناءا كبيرا كيما يتحصلون من خلال دخولهم المتواضعة علي حد الكفاية لهم ولأسرهم البسيطة، حيث يتركز أنفاقهم علي الغذاء والكساء من الحبوب والغزول، والمنتجات الجلدية التي تتوفر جميعا من خلال الأنشطة الإنتاجية الوطنية. إلا أنه رغما عن ذلك العنت، تظل تلك الشريحة الإجتماعية في مجموعها، هي الأضخم إنفاقا علي الأطلاق علي مستهلكاتها من المنتجات الزراعية والصناعية التي يوفرها الإقتصاد الوطني. ولا يفوتنا بالطبع الإشارة لأن هذه الشريحة فوقا عن ذلك لا تدخر درهما واحدا لتنفقه علي السلع البذخية التي تدمنها بالمقابل الشرائح الأكثر دخلا. بالنظر إلي السودان كواحد من الدول الأقل نموا في العالم، نجد أن أكثر من 70% من القوى المنتجة بالبلاد تعمل بالقطاعات الريفية وفي ظروف معيشية شديدة التعاسة، بينما يبقي أقل من 30% من القوى العاملة بالبلاد يعملون في قطاع الخدمات بالمدن والمراكز الحضرية، أو كموظفين بدواوين الحكومة أو الجيش أو الشرطة ومثيلاتها من الأجهزة الأمنية الأخري. إن شريحة محدودة من سكان المدن، والتي تتمثل في كبار رجال الأعمال، شاغلي الوظائف الدستورية بالدولة، علي الرغم من قلتها النسبية، فإنها تضجع علي ثروات هائلة، للحد الذي تتجاوز فيه مداخيلها الحوجات الأساسية لأسرهم ومنسوبيهم من السلع والخدمات المنتجة محليا، أضعافا مضاعفة. لذلك فأن مقدار مساهمة تلك الشرائح في دعم الطلب الكلي علي السلع والخدمات المنتجة في الأقتصاد الوطني، يكاد أن يكون متواضعا أو معدوما تماما.. بينما تنفق تلك الشرائح فوائضها الجبارة من الأموال، بعضها لمراكمة مدخرات تلك الأسر في المصارف الأجنبية أو في شكل عقارات باهظة التكاليف يتم تملكها فيما وراء البحار. خاتمة: مما تقدم يمكننا أن نستخلص أنه كلما سُخّرت النفقات والإعتمادات الحكومية عبر الموازنة لقطاعات مدنية تهيمن عليها الشرائح الإقتصادية و الإجتماعية الأعلي دخلا، كلما قل الأنفاق علي السلع والخدمات المنتجة في الأقتصاد الوطني، وبالتالي إضعاف الطلب الكلي، إفقار القطاعات المنتجة وإفقار العملية الإنتاجية بالبلاد، كما أنه في المقابل فكلما سخرت النفقات الحكومية لخدمية القطاعات الإنتاجية في الزراعة والرعي والصناعة التحويلية بحيث ينعكس ذلك علي دخول العمال والفلاحين في المجتمعات الريفية كلما تضاعف الطلب الكلي علي السلع والخدمات المنتجة بماكينات ومحاريث الإقتصاد الوطني. كلما تم سرده أعلاه معلوم بالضرورة، إنما قصدت من خلال تلك الإيضاحات أن أنفاق الدولة لجرعة من الأموال بأي مقدار وفي أي وقت كانت، تترتب عليه نتائج ومآلات مغايرة تماما ووشيكة، محكومة في مؤداها بماهية القطاعات التي إستهدفها ذلك الإنفاق. فإذا ما تم نتاجا لظروف النزاعات الإستثنائية التي تعيشها معظم الدول الأقل نموا وليس السودان يمعزل عنها، أن خصصت إعتمادات النفقات الحكومية للإنفاق العسكري والأمني وبالتالي القطاعات المأهولة بالشرائح عالية الدخل من منسوبي الدولة وعامليها، أو إذا ما خصص هذا الإنفاق بالمقابل لتمويل القطاعات الرعوية والزراعية والمجاميع السكانية المرتبطة بها.. فإنه في الحالة الأخيرة يكون مؤداها تضاعفا كبيرا في الطلب الكلي علي السلع والخدمات الوطنية، بينما إذا تبني الأنفاق المسار الأول فإن الخيار يتمخض عن تضاعف في مدخرات القطاعات ذات الدخل العالي في المجتمع فتتضاعف تبعا لذلك ممتلكاتها العقارية وودائعها السائلة في المصارف ما وراء البحار، في الوقت الذي يتضاءل فيه الأثر علي الطلب الكلي علي السلع والخدمات المنتجة داخل حدود البلاد الجعرافية. إذا ما استعرنا مفردات النظرية العامة للإقتصاد فإن تآكل مداخيل ومدخرات المجتمعات الريفية ربما يتمخض عن طفرة سالبة في منحني الطلب الكلي يعقبها إندياح لموجات إنكماشية متوالية، ثم تراجع في مداخيل العملية الإنتاجية وبالتالي تزايد معدلات العطالة وتراجع الدخول الفردية .. يتشكل ذلك في موجات تراكمية تتضاعف آثارها وتتعقد في شكل زخات مؤجلة بإضطراد الزمن. لا يقتصر الأثر السلبي علي تراجع دخول المجتمعات الريفية وزيادة معدلات الفقر والفاقة فيها، بل يمتد ليشمل تراجع المداخيل الضريبية المعتمدة علي الكم الإقتصادي المنتج، وعلي معدلات الإنفاق الكلي.. وبالتالي تآكل الإيرادات الحكومية.. مما يجعل الحكومة في سعيها المحموم لإسترداد الفاقد في المدخرات لمقابلة ضغوط الإنفاق، أن تلجأ دون تردد لزيادة الفئات الضريبية والجمركية لتعويض فاقد الإيرادات، وربما خابت تلك المساعي حينما تصطدم بتراجع جديد ناتج عن عدم مواكبة مرونة الطلب لأثر تلك الزيادات علي الأسعار النهائية للسلع والخدمات، في وقت تتآكل فيه دخول العوام من المستهلكين.. في السودان وفي نظيراته من الدول الأقل نموا، عادة ما تتفجر تعقيدات أمنية وعسكرية ناشئة عن الخصومات السياسية فيما بين النخب السياسية، مما تضطر بموجبه تلك الدول أن تنفق أكثر من 50% من ميزانياتها لمقابلة النفقات الأمنية والعسكرية وإحتياجات الدفاع، لذلك فطالما ظلت العملية الإنتاجية، في مثل تلك الدول، محرومة بصورة دائمة من الدعم الذي يمكن أن تشكله خيارات الأنفاق الإيجابي وحشد المدخرات النقدية لدعم أسباب النهضة الإقتصادية المرجوة، والتي لا تكون متاحة إلا في أوقات السلم والإستقرار السياسي، ستظل كذلك آمال الشعوب وتظل أحلامها بالرفاه والرخاء الإقتصادي، مؤجلة إلي حين. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.