سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ضرائب الدخل وأرباح رأس المال لغز محير في اقتصاد قطاع الخدمات وفيه أكثر من 40% من إجمالي الناتج المحلي الخبير الدولي الدكتور التيجاني الطيب إبراهيم في حوار الساعة مع «الصحافة» «2 2»
٭ مع دنو انتهاء العام المالي 2011 واستعداد الكل لاستقبال عام 2012م، لم يعد للجميع هاجس ومؤرق أكبر من متابعة مشروع موازنة عام 2012م الذي تحيطه كثير من التحديات على رأسها ارتفاع الأسعار وضعف الموارد وتدني عجلة الإنتاج بالبلاد. ولعل أكثر ما شغل الرأي العام ما جرى في ردهات البرلمان عقب اقتراح وزير المالية والاقتصاد رفع الدعم عن البنزين الذي قوبل بفرض كبير، فمازالت المداولات جارية بالبرلمان والمالية للبحث عما يغطي عجز الموازنة القادمة.. «الصحافة» في سبيل وضع النقاط على حروف مشروع الموازنة جلست إلى أحد القامات ا?اقتصادية التي يشار إليها بالبنان خارج وداخل السودان.. الخبير الدولي ووزير المالية الأسبق الدكتور التجاني الطيب إبراهيم لسبر غور مشروع الموازنة الذي أوضح أنه وبناءً على الأرقام والبيانات المتوفرة بمشروع موازنة عام 2012م أنها في وضع في غاية الصعوبة ناتج عن سوء التقدير في إعدادها وترتيب أولوياتها وضعف إدراك حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي المتردي، وأن كل الدلائل تشير إلى أن موازنة 2012م ليست موازنة لاستعادة الموارد العامة إلى مسار قابل للاستمرار مع ضمان البدء في إعادة توازن الطلب المحلي، بقدر ما يمكن اعتبارها ?رثية وداع لأمل العودة إلى الاستقرار الاقتصادي بامتياز، ويضيف التيجاني أنه من الواضح اعتماد الموازنة على جملة فرضيات، غير أنها للأسف دون تحديد هدف معين لها قائم على الوصول بالوضع المالي إلى عجز آمن، ودون تقييم للسياسات الاقتصادية التي تم اتباعها في العام الماضي 2011م أو سابقاته، بالإضافة إلى أن الفرضيات بالموازنة تثير جملةً من التساؤلات حول مدى تطابقها مع معطيات الاقتصاد السوداني على أرض الواقع. ٭ ما هي رؤيتكم في الإيرادات الضريبية التي حواها مشروع الموازنة؟ في مجال الإيرادات الضريبية، تقدر الموازنة خفض الضرائب على النشاط الاقتصادي والمواطنين، حيث يتوقع انخفاض الإيرادات الضريبية بنسبة 11% عن أدائها الفعلي التقديري في عام 2011م البالغ 10388 مليون جنيه، مما سيؤثر إيجاباً على حركة النشاط الاقتصادي وعلى أسعار المواد الغذائية، خاصة بالنسبة للشرائح الاجتماعية الضعيفة، ناهيك عن تداعيات ذلك على أرباح الشركات والمؤسسات وأسواق العمالة. وهذا جدير بالإشارة، رغم أن صناع القرار لم يشرحوا كيفية معالجة تراجع الإيرادات الضريبية المتوقع نتيجة لهذه الخطوة السليمة. إن خفض الضر?ئب خاصة على الواردات في حالة الهبوط الواضح في حركة النمو الاقتصادي يعمل على زيادة النشاط والحراك الاقتصادي، مما يزيد بدوره من الإيرادات الضريبية لاحقاً، رغم أن حجم الضرائب على الدخل وأرباح رأس المال المقدر بحوالى «875» مليون جنيه يبقى لغزاً محيراً في اقتصاد يمثل فيه قطاع الخدمات أكثر من 40% من إجمالي الناتج المحلي، علماً بأن أرباح شركات الاتصال وحدها تقدر بمليارات الجنيهات. ٭ ما رأيكم إذن في الإيرادات الأخرى بما فيها إيرادات النفط؟ الملاحظ أن الفرضيات الخاصة بالإيرادات الأخرى بما فيها مبيعات النفط المقدرة بحوالى 13028 مليون جنيه، أي بما يعادل نسبة ارتفاع 15% مقارنة بأدائها الفعلي التقديري في عام 2011م، تعتبر غاية في التفاؤل، فبحسب مشروع الموازنة يتوقع أن تنخفض مبيعات النفط في عام 2012م بمقدار 2671 مليون جنيه جراء انفصال الجنوب. وعلى ضوء ذلك يتوقع صناع القرار المالي أن ترتفع رسوم استخدام منشآت السودان النفطية لتصدير نفط دولة الجنوب في عام 2012م بمقدار «3887» مليون جنيه، أي ما يزيد عن التراجع في الإيرادات النفطية بعد الانفصال بأكثر ?ن مليار جنيه. وهذا أمر أقرب للخيال من الواقع، إذ أن المواقف حول تلك الرسوم مازالت متباعدة ولا بادرة في الأفق عن اتفاق قريب، ناهيك عن أن يكون الاتفاق على هذا الرقم غير الواقعي. ٭ لكن يبدو أن مشروع الموازنة يعوِّل على المنح والقروض في تغطية بعض الجوانب؟ هذا صحيح إلى حد ما، ففي جانب المنح والقروض الخارجية فافتراض ارتفاع الأولى من «908» ملايين جنيه في عام 2011م إلى «1306» مليون جنيه في عام 2012م، والثانية من «417» مليون جنيه إلى «4397» مليون جنيه، يمثل هو الآخر نوعا من التفاؤل المفرط، إذ أن أداءهما الفعلي يعكس غير ذلك، ناهيك عن عدم أهلية السودان لاستقطاب دعومات بهذا الحجم وحكومته تنفق آناء الليل وأطراف النهار إنفاق من لا يخشى الفقر، رغم الظروف الاقتصادية الحرجة التي تمر بها البلاد التي مازالت تئن تحت وطأة عبء إنفاذ الدين الداخلي والخارجي. ٭ في إطار إنفاق الحكومة الذي أشرتم إليه.. ما هي رؤيتكم لفرضياتها من خلال مشروع الموازنة في جانب النفقات؟ في جانب النفقات لم يفترض مشروع الموازنة أية إجراءات ملموسة لضبطها، لاسيما الإنفاق الجاري الذي تتوقع الموازنة ارتفاعه من «23733» مليون جنيه في عام 2011م إلى «25268» مليون جنيه في عام 2012م، لترتفع حصته إلى 82% من إجمالي الإنفاق الكلي المقدر بحوالى «30577» مليون جنيه. ورغم ذلك من الملاحظ أن الإنفاق الجاري أغفل وضع تقديرات لمواجهة بعض أوجه الصرف كمتأخرات الحكومة على القطاع الخاص البالغ قدرها من «1.5» مليار جنيه، الأمر الذي يعني أن الإنفاق الكلي في نهاية العام القادم قد يفوق تقديرات الموازنة كثيراً. وما يثي? الانتباه أيضاً أن الأجور «10179» مليون جنيه والتحويلات الولائية «7275» مليون جنيه تستحوذ على أكثر من 69% من الإنفاق الجاري، مع العلم أن الموازنة لا تفترض زيادة الأجور رغم توقعها ارتفاع معدل التضخم إلى 17% في عام 2012م، مما يعني استمرار تآكل الطاقة الشرائية للمداخيل، وبالتالي تواصل حلقات مسلسل المعاناة للشرائح الاجتماعية الضعيفة، فإذا ما أضفنا تقديرات الصرف على السلع والخدمات «1957» مليون جنيه وخدمة الديون «3080» مليون جنيه إلى بندي الإنفاق السابقين، نجد أن البنود الأربعة وحدها تمثل نسبة 89% من إجمالي الإن?اق المقدر، مما يطرح سؤالاً مهماً عن الكيفية التي تواجه بها الحكومة النفقات الأخرى كالزيادة في الدعم والنفقات الحكومية أو حتى الطوارئ التي تنشب خلال العام القادم كما درجت العادة، مما يدلل على أن تقديرات الإنفاق الجاري ستواجه تحدياً حقيقياً يجعل إنزال الموازنة إلى أرض الواقع أمراً شبه مستحيل، إلا إذا اتخذت الحكومة جملة من الإجراءات لخفض العجز المحتمل في جانب النفقات، من أبرزها رفع الدولار الجمركي إلى أربعة جنيهات، أو خفض دعم السلع الاستراتيجية من «6.6» مليار إلى حوالى «2.6» مليار جنيه. وكل خيار من الخيارين أ?لاه يمثل قنبلة موقوتة تقترب من الانفجار يوماً بعد يوم إن لم تعالج بالسرعة والجدية المطلوبين، والخيار الثالث الذي يمكن اللجوء إليه ويعد الأسوأ من بين الخيارات المطروحة، هو العودة إلى الصرف على المكشوف «طبع عملة ورقية دون مقابل» الذي جربته الإنقاذ في سنواتها الأولى، وكانت آثاره على الاقتصاد والمجتمع كارثية. ٭ ماذا عن العجز الجاري؟ بخصوص العجز الجاري أي الفجوة بين الإيرادات الكلية والإنفاق التشغيلي فإنه يعكس الخلل الذي ظلت تعاني منه كل موازنات الحكومة في السنوات السابقة، وهو ضعف أو عدم الادخار الحكومي المطلوب للمساهمة في الإنفاق التنموي، لأن الإنفاق الجاري المترهل يستنزف إيرادات الدولة كلها، لهذا ليس غريباً أن تفترض موازنة عام 2012م تمويل العجز الجاري والنفقات التنموية المقدرة ب «5309» مليون جنيه بواسطة الاقتراض الداخلي والخارجي، مما يعكس ضعف التركيب الهيكلي للموازنة والافتقار إلى أضعف قواعد بناء الموازنات بأسلوب عملي علمي متبع ف? غالبية دول العالم. ٭ من واقع العجز أعلاه ما هي رؤيتكم في توزيع إجمالي تقديرات الجاري والاستثماري على القطاعات المختلفة؟ توزيع إجمالي تقديرات الإنفاق الجاري والاستثماري المقدر بحوالى «20733» مليون جنيه على القطاعات المختلفة، هو أحد الملامح البارزة لموازنة عام 2012م، خاصة في ما يتعلق بالقطاعات الحيوية المهمة «الزراعة، الصناعة، النفط والمعادن، الصحة والتعليم» إذ يدعو للرثاء والخجل أن تقديرات الأجور وشراء السلع والخدمات تبلغ 87% من تقديرات إجمالي القطاعات، بينما يستحوذ القطاع الزراعي على 3% وقطاع النفط والمعادن على 0.03% والصناعة 0.074% من إجمالي تلك التقديرات، مما يعني أن حصة هذه القطاعات الحيوية في إجمالي التقديرات القطاعي? تساوي 3.8%، أي ما يعادل 68% من إجمالي تقديرات القطاع السيادي البالغة «1158» مليون جنيه. وللأسف الشديد فإن الوضع لا يختلف في قطاعي الصحة والتعليم المهمين، حيث رصد لكل منهما 2.4% من إجمالي التقديرات القطاعية، أي 4.8% للقطاعين مقارنة ب 5.6% للقطاع السيادي. لهذا ليس غريباً إن تحولنا إلى أمة غير منتجة وغير متعلمة ومريضة. وما يؤسف حقا أن «الساقية لسه مدورة» رغم أن السودان اسم قصد به اللاتنيون التفاؤل والوفرة. ٭ دار جدل كثيف بالبرلمان حول رفع الدعم عن البنزين.. فما هي رؤيتكم فيه وفي الدعم عموماً؟ تعتبر أسعار البنزين في السودان من بين الأرخص عالمياً، والملاحظ الآن أن الارتفاع في أسعار النفط عالمياً يصاحبه ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية كالقمح والذرة الشامية، الأمر الذي يضع أصحاب القرار أمام خيارات أكثر صعوبة من مشكلة دعم المشتقات النفطية نسبة لأسبقية الغذاء في حياة الإنسان، لذا فإن هم أرادوا احتواء زيادة أسعار المواد الغذائية عن طريق الدعم فهذا يتطلب موارد مالية جديدة لن تتوفر إلا بقرارات مالية صعبة، وإن هم تركوا الزيادة تأخذ طريقها للمستهلك فقد تكون النتيجة أسوأ من الزاوية السياسية، وفي كل ?لأحوال فطريق الدعم الاستهلاكي الشمولي غير الموجه طريق طويل لكنه مسدود في النهاية. فالدعم ليس هبة من الدولة كما يعتقد البعض، إنما يجسد بند إنفاق يدفع فاتورته المواطن والاقتصاد على حساب أسبقيات أخرى أكثر أهمية كالصحة والتعليم مثلا، لهذا لا بد من اعتماد إطار محلي للتسعير يأخذ في الاعتبار كلفة السلع عالمياً والكلف الإضافية لإيصال السلع الاستراتجية إلى المستهلك، بالإضافة للشحن والتأمين وعمولات الموزعين. ولأجل هذا في هذا الإطار يجب سن سياسة تهدف لتوصيل أي نوع من الدعم لمستحقيه، مع العمل على إلغاء الدعم الاستهلاك? الشمولي من موازنة الدولة، وتحويل موارده لتمويل قطاعات الصحة والتعليم والزراعة على سبيل المثال، وتعويض المتضررين جراء الإلغاء من موارد خارج الموازنة كالزكاة أو ضريبة اتحاد أصحاب العمل المقدرة ب 2% على كل الواردات، أو ما شابه ذلك من البدع الضريبية التي ابتدعت للالتفاف حول الموازنة العامة. ٭ هل من فرصة لتلافي الحقائق والمعطيات السالبة في مشروع الموازنة؟ هناك فرصة لإعادة تقييم موازنة عام 2012م لتلافي الحقائق والمعطيات السالبة فيها، وفق نهج وأسس جديدة لتخطيط وإعداد موازنة تزيل السلوكيات الرسمية في الإنفاق التي تشعر المواطن بأن شد وربط الأحزمة لا يكون إلا عليه فقط، في حين جيوش الوزراء والمستشارين ومديري المؤسسات العامة يمارسون سلوكيات لا توجد إلا في دول الخليج النفطية، مثل كثرة السفر والترحال دون عائد ملموس، واستخدام منازل ومكاتب وسيارات الدولة، وغيرها من المظاهر التي تدلل على أن السودان واحدة من أفقر دول العالم، لأجل هذا فإن ضرورة إصلاح نظام الحوكمة يمثل?عاملاً حيوياً لضمان مشروعية الدولة وفاعليتها، غير أنه في ظل اختلاط السلطة والثروة في الدولة فإن تحقيق ذلكم الأمل يبدو أمراً مستحيلاً، مما يعني أنه سيبقى مؤجلا لحين إشعار آخر، مما زيد من عدم اليقين بشأن الأوضاع المالية والاقتصادية العامة.