بسم الله الرحمن الرحيم عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. نستكمل السياحة الفكريّة فى هذه الحلقة وننظر للأشياء من زاوية أخرى. إنّ جذور حياتنا الحاليّة بكلّ أشكالها تمتدّ عميقاً فى تربة الماضى وفهم تاريخ هذا الماضى وسياقه هو النّور الذى يفتح لنا أبواب فهم الحاضر واستشراف المستقبل وهو التّرياق الذى يُبطل السموم التى انتشرت وتفاقمت شرورها فى جسد السودان وأمّة الإسلام. فى عام 1564 وُلد جاليليو جليلى وفى نفس العام تقريباً رجع جدّى الأكبر الحاج داود بن عبدالجليل بن حجازى بن معين مؤسس وادى الشعير من مكة المكرّمة وبصحبته تاج الدّين البهارى خليفة الشيخ عبدالقادر الجيلى أو الجيلانى، الذى زرع بذور الطريقة القادريّة المنتشرة فى السودان، والتى رفعت درجة الوعى الدّينى والفكرى بين الشعوب السودانيّة ومهّدت لكل التّغيّرات المستقبليّة. جمعهما حبّ العلم والرسول والمغامرة والمبادرة فالمُعلِّم الأكبر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم يقول: "بادروا بالأعمال"، أى بالأعمال الصالحة، ويضيف: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرّجل مؤمناً، ويُمسى كافراً، ويمسى مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أحدهم دينه بعرَضٍ من الدّنيا قليل". علم الله أن الحاج داود بن عبدالجليل كان أثرى أهل السودان وقد ذكره ود ضيف الله فى سفره العظيم وعرّفه "بالتاجر السودانى المشهور"، كان مبادراً بالأعمال الصالحة ومن خلفه ورثته من الصالحين، ترك متاع الدّنيا وغامر بالسفر للحجّ وعاد بكنز معرفة وصلاح معه فى شخص الشيخ تاج الدّين البهارى ثم اتّخذ من بعد ذلك مغارتين يلجأ إليهما كلّما داهمته الدّنيا بغرورها زهداً فيها. فما الذى يجمع جاليليو جاليلى والحاج داود الجليلابى والشيخ تاج الدين البهارى والشيخ عبدالقادر الجيلانى؟ أوّلاً صدفة عجيبة أنّ جميع الأسماء تشتمل على حرف الجيم بل بعضها يكاد يتطابق مثل جاليليو جليلى والجليلابى والجيلانى أو الجيلى، ولكن الأهمّ من ذلك أنّ جميعهم كان من المتديّنين والمبادرين فى عصرهم من أجل رفع راية التنوير ونشره، وبثّ التّغيير الموجب المسنود بإعمال العقل والعلم فى المجتمع؛ أى أنّهم لم يستكينوا لحالة السكون أو حالة الجهل السائدة فى عصرهم تقودهم فى ذلك روحٌ مغامرةٌ وشوق للجديد، ويُعينهم نبلٌ وجسارة تمهّد لهم طريق المشقّات. أليس الشيخ عبدالقادر الجيلانى هو القائل: "ليس الرجل الذى يُسلِّم للأقدار، وإنّما الرّجل الذى يدفع الأقدار بالأقدار"، تمثُلاً بقول سيدنا عمر الفاروق رضى الله عنه ساعة ضرب الطّاعون أرض الشام:"نهرب من قدر الله إلى قدر الله"، والشيخ عبدالقادر الجيرنى هو أيضاً القائل فى القضاء والقدر: "إنّ جميع الحوادث خيرها وشرّها كائنة بقدر الله، ولكن المؤمن مأمور أن يدفع ما قُدِّر من الشر بما قُدِّر من الخير؛ فيزيل الكفر بالإيمان، والبدعة بالسنّة، والمعصية بالطاعة، والمرض بالدّواء، والجهل بالمعرفة، والعدوان بالجهاد، والفقر بالعمل، فنازعوا أقدار الحقّ بالحقِّ للحقِّ فالرجل هو المنازع للقدر لا الموافق عليه". وبكل المقاييس فقد أحدثوا جميعاً ثورة علميّة ناعمة تركت إرثاً ذا أثرٍ دائمٍ وخالدٍ نشأ فى أركان متباعدة من العالم فى قارّات مختلفة تمتد من آسيا الصغرى إلى أفريقيا إلى أوروبّا وانتشر لكلّ أرجاء العالم الإنسانى. فالشيخ عبدالقادر الجيلانى الذى وُلِد فى 1077 ميلاديّة أتى فى زمان اختلطت فيه المفاهيم وانتشرت الفلسفة، وتعارك أهل الشريعة مع أهل الحقيقة المتصوّفة، بل وتعارك أهل السنّة عندما تعدّدت الفرق وانضوى كلّ مسلم إلى فرقة يدافع عنها حتّى أنّ بعضهم كفّر بعضاً مثل الحنفيّة للشافعيّة ولم يُجيزوا حتى الزواج بنسائهم إلا على افتراض أنهّن يُعاملن معاملة الكتابيّات، وكلّ ذلك لأنّ الإمام الشافعى رضى الله عنه كان يقول: "أنا مؤمن إن شاء الله". وأيضاً كفّروا الإمام أبى حامد الغزالى لمخالفته الأشعرى فكتب فيهم رسالة هاجمهم فيها أسماها:"فيصل التّفرقة بين الإسلام والزّندقة"، وأظهر فيها من الاستقلاليّة الفكريّة والشجاعة الأدبيّة قدراً منقطع النّظير فى زمانه، كانت لها تأثير واضح على منهج الشيخ عبدالقادر الجيلانى الذى أيضاً لم يُطق التقليد والمُقلّدين والتّعصّب والغُلوُّ والتّطرّف وقال الإمام الغزالى رضى الله عنه:"أن حقائق الأشياء لا تظهر للقلوب المدنّسة بطلب الجاه والمال وحبّهما، بل إنّما ينكشف دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار الدّنيا أولاً، ثمّ صُقلت بالرياضة الكاملة ثانياً، ثمّ نوّرت بالذكر الصافى ثالثاً، ثمّ غُذّيت بالفكر الصائب رابعاً، ثمّ زُيّنت بملازمة الشرع خامساً، حتى فاض عليها من مشكاة النّبوّة، وصارت كأنّها مرآة مجلوّة، وصار الإيمان فى زجاجة قلبه مشرق الأنوار، يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار، وأنّى تتجلّى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعوناتهم، وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم، فهؤلاء من أين تتميّز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان؟ أبإلهامٍ إلهىٍّ ولم يُفرغوا القلوب عن كدورات الدّنيا، أم بكمال علمىّ وإنّما بضاعتهم فى العلم مسألة النّجاسة وماء الزعفران وأمثالها؟، هيهات هيهات". بل ويقول:"إنّ أكثر نصارى الروم والترك فى هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعنى الذين هم فى أقاصى الروم والترك ولم تبلغهم الدّعوة، فإنّهم ثلاثة أصناف: صنف لم يبلغهم اسم محمّد صلى الله عليه وسلّم أصلاً فهم معذورون، وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات وهم المجاورون لبلاد الإسلام المخالطون لهم، وهم الكفّار الملحدون، وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم محمّد صلى الله عليه وسلّم ولم يبلغهم نعته ووصفه، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أنّ كذّاباً ملبّساً اسمه محمّد ادّعى النّبوّة، كما سمع صبيانناً أن كذّاباً يقال له المقفّع تحدّى بالنّبوّة كاذباً، فهؤلاء عندى فى معنى الصنف الأوّل". فى ذلك الظرف العصيب؛ الذى سادت فيه الفوضى كافّة أرجاء الدّولة العبّاسيّة حيث شلّ التّمزّق عالم المسلمين فاحتل الصليبيّون القدس الشريف وأنطاكية، بل لاحقاً وصلت سفنهم إلى شواطىء جدّة تبتغى هدم الكعبة ونبش قبر الرّسول صلى الله عليه وسلّم، وقامت الحروب بين سلاطين المسلمين، واغتنم المجرمون انشغال السلاطين بالحروب فعاثوا فساداً وعبثوا بالأمن، ونشطت فرقة الباطنيّة فحرّفت الدين وبثّت عملاءها يغتالون الأمراء ويتآمرون على دولة المسلمين، فى مثل هذا الوقت الذى عمّته الفوضى بعث الله الشيخ عبدالقادر الجيلانى رضى الله عنه. ومن يتأمّل الساحات السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة والدينيّة فى زماننا الراهن بما فيها من تيّارات متصارعة متناحرة، وتشويش فكرىّ، وانهيار أخلاقى، ونُظم شموليّة ويقارنها بزمنىّ الإمام الغزالى والشيخ عبدالقادر الجيلانى لا يجد فرقاً يُذكر إلا فى الأسماء. فى جوف الفوضى الضّاربة والجهل المستشرى، أعلى الشيخ عبدالقادر الجيلانى مكانة العلم وربطه بالعمل، فجدّد أمر الدّين وصفّاه من شوائبه وردّه ناصعاً قشيباً يطير بجناحى الشريعة والحقيقة بلا غُلوّ، ودعا للتعايش والعمل، وإعمال العقل والفكر، وترتيب الأولويّات، وربط أمور الدّنيا بالآخرة. هذه كانت ثورة واعية استخدمت قوّة ناعمة واستخدمت سلطان الحجّة ولذلك لا تزال تُؤتى ثمارها إلى اليوم فى حين اندحرت الممالك وصارت أثراً بعد أن ملأت الدّنيا ضجيجاً وسفكت من دماء النّاس الكثير. وقد قيل فيه:"ذاك رجل بحر الشريعة عن يمينه وبحر الحقيقة عن يساره، من أيّهما شاء اغترف". يقول عنه الشيخ على بن الهيتى:"فهو عبد سما عن مصاحبة التّفرقة إلى مطالعة الجمع مع لزوم أحكام الشريعة". الشيخ عبدالقادر الجيلانى رضى الله عنه، لم يقف بباب حاكمٍ قط ولا جلس على بساطه ولا أكل من طعامه، ولا خاف من حاكم قط بل كانت تهابه الملوك وإذا أتوا لداره دخل للداخل وإن تبعوه خرج منها، ولا خاف من قول الحقّ بل كان مُتحدّياً، سيّداً جريئاً فى الحق. وقد ذاع عن الشيخ عبدالقادر الجيلانى رضى الله عنه الكلام عن الخواطر وفى ذلك تصديق قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: "اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله"، وقد قال الشيخ عبدالقادر الجيلانى:"إنّما أُنطّق فأنطق، وأُعطَى فأفرّق، وأُومَرْ فأفعل، والعهدة على من أمرنى والدّية على العاقلة، لولا لجام الشريعة على لسانى لأخبرتكم بما تأكلون وما تدّخرون فى بيوتكم. أنتم بين يدىّ كالقوارير يُرى ما فى بواطنكم وظواهركم، لولا لجام الحكم على لسانى لنطق صاع يوسف بما فيه، لكن العلم مستجير بذيل العالم كى لا يبدى مكنونه". وسنواصل إن أذن الله ودمتم لأبى سلمى