بسم الله الرحمن الرحيم عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. الشيخ عبدالقادر الجيلانى رضى الله عنه، كان مّستقلاً فكريّاً ومادّياً ولذلك كان ذاتىّ التّمويل يعتمد على الوقف الخيرى ويأكل من عمل يده، دعا لجعل الدّنيا فى اليد لا فى القلب، وكان أوّل العلماء الحكماء الذين دعوا لاحترام المخالفين ونهوا عن تكفير الآخرين والإلتقاء معهم فى القواسم المشتركة والنّظر فى الأولويّات وكان شعاره: "لكلٍّ مذهبه الفقهى والفكرىّ وهدفنا واحد هو تحرير القدس من نير الاحتلال الصليبى". وقد نجح فى الاستفادة من إخفاق مدرسة الإمام أبى حامد الغزالى، الذى حرّر عقول المسلمين من قبل عندما غربل وجدّد مفاهيم دينهم مستخدماً آلة العقل؛ ولكنّ استراتيجيّته افتقدت الحركيّة والعمليّة ولم تتعدّ التدريس والتأليف، ودخل فى معارك حادّة أمْلتها عليه ظروف مرضه النّفسى وشخصيّته الصداميّة، ولذلك نجح الشيخ عبدالقادر الجيلانى بعلمه وحكمته، وقيادته الفذّة وشخصيّته الملهمة فى إنشاء أكثر من أربعمائة مدرسة نشرها تلاميذه فى مشارق الأرض ومغاربها فكان أن تمّ من خلالها إعداد جيل الروّاد كصلاح الدّين الأيوبىّ الذى حرّر ديار المسلمين، ونبوغ أكثر من تسعمائة عالمة وهو عدد لم يتكرّر فى تاريخ الإسلام فى مجال تحرير المرأة من دياجير الظلام على يد عالم واحد حتّى اليوم حتّى صار أكبر ولىٍّ شعبىٍّ فى ديار المسلمين قاطبة. الشيخ عبدالقادر الجيلانى كان مُصلحاً اجتماعيّاً ودينيّاً وفكريّاً ونفسيّاً، يخاطب العقل البشرى ويوجّهه نحو الصواب وعمل الخير والصلاح ارتبط بالفقراء فمن قوله: "أودّ لو أنّ الدّنيا بيدى فأطعمها للجياع"، وقد كان إنسانيّاً صرفاً فقال: "اعمل الخير لمن يستحقّ ولمن لا يستحقّ والأجر على الله"، وفى ذلك تأكيد لحكمة جدّه الإمام على بن أبى طالب كرّم الله وجهه، الذى دعا للتّعايش الإنسانى واحترام الآخرين فقال لمّا كتب لمالك الأشتر أحد ولاته:"النّاس صنفان، إمّا أخ لك فى الدّين أو نظير لك فى الخلق، فلا تكونّن عليهم سبعاً ضارياً، يفرط منهم الزّلل-أى النّاس-، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم فى العمد والخطأ، فاعطهم من عفوك وصفحك، ولا تندمنّ على عفوٍ، ولا تبجّحنّ بعقوبة، واعطهم من عفوك وصفحك مثل الذى تُحبّ أن يعطيك الله من عفوه وصفحه". وقد استقى الإمام على بن أبى طالب كرّم الله وجهه من قبل من نهر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم الذى قال:"الخلق كُلّهم عيال الله، فأحبُّ الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله"، كيف ولا والشيخ عبدالقادر الجيلانى يقول فى قصيدته الغوثيّة:"وكلُّ فتى على قدم وإنّى على قدم النّبىّ بدْرُ الكمال". والشيخ عبدالقادر الجيلانى سليل الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم، كان عظيم الهمّة، ملتزماً بالكتاب والسنّة وقال: "طِرْ إلى الحقِّ بجناحىْ الكتاب والسنّة"، ولم يخلتف أىّ عالم من العلماء فى فضله وعلمه فقد قال عنه الشيخ ابن تيمية: "والشيخ عبدالقادر ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمراً بالتزام الشرع، والأمر والنّهى وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمراً بترك الهوى والإرادة النّفسية".
ونخلص إلى أنّ الشيخ عبدالقادر الجيلانى رضى الله عنه حوّل حالة الفوضى السائدة آنذاك إلى حالة نظام مُنتج بوعىٍ وعلمٍ وحكمةٍ، وخطّ لنا طريقاً إذا نحن التمسناه أخرجنا ممّا نحن فيه من فوضى. أمّا جاليليو جليلى فيُعتبر الأب الشرعى للعلم الحديث ومنهج العقلانيّة في العالم المسيحى الأوربّى إذ قد سبقه علماء المسلمين في الأندلس، وقد حاربته الكنيسة الكاثوليكيّة وحظرت كتبه، واتّهمته بالزندقة، فدخل فى حالة ارتباك فكرىّ ودينى؛ إذ أنّ العلم فتح له أبوباً من الفهم فيها حقائق علميّة ثابتة تعارضت مع مفاهيم الكنيسة فحاربها الكهنوت ممّا أدّى لتشكيكه فى صحة الفهم للكتب المقدّسة بدلاً عن التّشكيك فيها وفى قداستها فكتب لأستاذه: "مع اعترافى بأن الكتب المقدّسة لا تخطىء فإنّها قد تكون فُسّرت خطأ، أو قد تكون فى بعض الحالات كُتبت ليفهمها العامة فقط لا المثقفون. وأنّ اكتشاف الله والطبيعة يدرك أصلاً عن طريق الحواس وعن طريق الرياضيّات. ولذا فقد وجب تفسير الكتب المقدّسة بأسلوب لا يجعلها مناقضة للإستنتاجات التى تأكدنا منها وتثبّتنا من صحّتها إمّا عن طريق إقامة البراهين الضروريّة أو عن طريق تثبّت حواسنا منها".
أما كان يُغنيه من هذا الخلط لو أنّه قرأ كتاب "الغنية لطالبى طريق الحق"ّ للشيخ عبدالقادر الجيلانى إذن لوجد فيه ما يوفّق بين العقل والعلم والنّقل. ويقابل قول جاليليو جليلى قول الإمام الغزالى:"وإمّا لاختلافهم فى العلوم التى هى مقدّمات البراهين، فإنّ من العلوم التى هى أصول البراهين تجريبيّة وتواتريّة وغيرهما، والنّاس يختلفون فى التّجربة والتّواتر، فقد يتواتر عند واحد منهم ما لم يتواتر عند غيره، وقد يتولّى تجربة ما لا يتولاها غيره، وإمّا لالتباس قضايا الوهم بقضايا العقل، وإمّا لالتباس الكلمات المشهورة المحمودة بالضروريّات والأولويّات، وبالجملة إذا حصلوا تلك الموازين وحقّقوها أمكنهم الوقوف عند ترك العناد على مواقع الغلط فى يسر". بالله عليكم هل هنالك منهج علمىّ أكثر نصاعة من هذا؟ أوليس هذا محض التّنوير الذى كابد جاليليو جليلى ليثبته؟ ولكن ما الذى يجمع بين الشيخ عبدالقادر الجيلانى وجاليليو جليلى فى أمر الفوضى؟ يجمعهما أمران أوّلهما التّفكير العلمى المُنظّم، وطريقة التعلّم العميقة، والاستقلاليّة الفكريّة، والشجاعة العلميّة، أمّا الأمر الثانى فهو ما صرّحا به قبل قرون عديدة عن أسباب الفوضى السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة فهذا الشيخ عبدالقادر الجيلانى يقول مقرّعاً الملوك وأتباعهم، فى زمن تجبّرت فيه الملوك وطغت وظلمت النّاس وساندهم فى عملهم علماء السوء وثبّطوا النّاس عن الخروج عليهم، وما أشبه اليوم بالبارحة: "صارت الملوك لكثير من الخلق آلهة، وقد صارت الدّنيا والغنى والعافية والحول والقوّة آلهة، وَيْحَكُمْ جعلتم الفرع أصلاً، المرزوق رازقاً، والمملوك مالكاً، الفقير غنيّاً، العاجز قويّاً والميت حيّاً، إذا عظمت جبابرة الدّنيا وفراعينها وملوكها وأغنياءها ونسيت الله عزّ وجلّ ولم تعظّمه، فحكمك حكم من عبد الأصنام، تصير من عظّمت صنمك". هذه الحالة المعروفة بالصّنميّة الضمنيّة، والتى استبدل بها المسلمون حالة الصنميّة الأولى الظاهرة إلى حين من الدّهر إلى أن تعود من جديد، والتى سبق الإمام الغزالى بوصفها والوصفين ترجمة لكلمات المولى عزّ وجل:"أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه؟"، ولذلك قال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ الشيطان قد يئس أن تُعبد الأصنام بأرض العرب، ولكن رضى منهم بما دون ذلك بمحقّرات الأعمال وهى الموبقات" وقال أيضاً: "لا يذهب الليل والنّهار حتى تُعبد الات والعزّى"، وما أدرانا ما اللات والعزّى؟ أهى أصنام من حجر أم أصنام من بشر؟ وعندذلك تكتمل الدائرة قبل قيام الساعة. ولا يفوتنا أنّ ما سبق رسالة الإسلام وكلّ الرسالات من قبلها من فترة سُمّيت بالجاهليّة، وفيها عُبدت الأصنام، وتجبّرت الطواغيت، وسادت الفوضى حتى أتى النّور من الله العلىّ القدير فدحر الظلام بالعلم وساد النّظام. ولكن لأنّ طبيعة الإنسان الطغيان فلذلك تمّ كسر حدود النّظام، وركوب الفوضى الفكريّة، والانحدار الأخلاقى حين تنافس النّاس الدّنيا كما حذّرهم المصطفى صلى الله عليه وسلّم حين قال: "والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدى، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها". فالأخلاق هى الوجه الآخر للاقتصاد ولا يدخلنّ الشيطان ببابٍ أوسع من باب المال وما يوفّره من حطام الدّنيا. وهذا جاليليو جليلى يقول فى أمر الفوضى: "فى أمر استحداث الأمور الجديدة، من ذا الذى يستطيع أن يشكّ فى أنّ أسوأ حالات الفوضى سوف تحدث عندما تضطرّ العقول التى خلقها الله حرّة أن تخضع بعبوديّة إلى إرادة خارجيّة؟ عندما يُطلب منّا أن ننكر حواسنا وأن نخضعها لنزوات الآخرين؟ عندما يُنصِّب أناس مجردون من أىّ كفاية حكاماً على الخبراء المتفوقين، ويُمنحون السلطة ليعاملوهم كما يشاؤون؟ هذه هى المستحدثات الكفيلة بأن تسبّب خراب الشعوب وتقويض الدّولة".
ونرى المتقاطعات بين كلام الشيخ عبدالقادر الجيلانى رضى الله عنه وبين كلام جاليليو جليلى وأوّلها انتفاء استقلاليّة العقل وخضوعه لغير الله، وهذه هى الصّنميّة التى عناها الإمام الغزالى والشيخ عبدالقادر الجيلانى وثانيها استعلاء الهوى على العقل ولذلك قال الشيخ عبدالقادر الجيلانى: "أخرجوا الدّنيا من قلوبكم إلى أيديكم فإنّها لا تضرّكم"، أى أنّ الضرر يقع عندما نجعلها فى قلوبنا حيث لا مكان لغير الله. ثمّ يتحدّثان عن الظلم وارتباطه بالقيادة والكفاءة، وكيف هذا يرتبط بالتّقوى حين العدل وبالغفلة حين الظلم: "نسوا الله فأنساهم أنفسهم"، والنسيان لحضرة المولى عزّ وجل ولوج فى دائرة الظلام الروحى والفكرى حيث تنتفى السببيّة الوجوديّة ومعنى الحياة ويصير الأمر عبثاً لا غير وهو ما نراه فى التّساؤل الربّانى:"أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً؟". وسنواصل إن أذن الله ودمتم لأبى سلمى عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.