شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من تحت الطاولة
نشر في سودانيل يوم 24 - 06 - 2016

تجدون هنا ترجمة للتقرير الخاص الذي كتبته ربيكا هاميلتون لوكالة رويترز، ونشرته الوكالة في 12 يوليو 2012م. ويحتوي هذا التقرير الخاص على حقائق في غاية الأهمية عن الجهات التي عملت، وما زالت تعمل، من تحت الطاولة، لتمرير أخطر الأجندة التي أثرت وما زالت تؤثر بشكل كبير على الأحداث المصيرية في السودان.
ربيكا هاميلتون تخرجت في جامعة هارفارد بدرجتين: شهادة ممارسة القانون في الولايات المتحدة الأمريكية، وماجستير في السياسة العامة، في عام 2007م.
وتعمل صحفية ومحامية حقوق إنسان. وهي المراسلة الخاصة السابقة لصحيفة واشنطن بوست في السودان، وحاصلة على منحة مركز بوليتزر، وزميلة في مؤسسة أمريكا الجديدة. وقد كتبت التحقيق المطول الذي امتد لعدة سنوات حول تأثير حركة المواطنين المقيمين في الولايات المتحدة المدافعين عن سياسة دار فور في منظمة: فايتينق فور دارفور: العمل العام والنضال من أجل وقف الإبادة الجماعية.
في السنوات الأخيرة، أجرت أكثر من 150 مقابلة مع واضعي السياسات عن السودان داخل الإدارة الأمريكية السابقة والحالية، بما في ذلك كولن باول، ستيفن هادلي، جينداي فريزر وجميع المبعوثين الخاصين الأمريكيين إلى السودان. وفي إطار الأمم المتحدة، شملت مقابلاتها الأمين العام السابق كوفي عنان. وفي إطار جامعة الدول العربية، شملت الأمين العام للجامعة عمرو موسى. كما أجرت مقابلات مع المبعوثين إلى السودان من الاتحاد الأفريقي، وتحدثت مع كلٌ من الناجين ومرتكبي الفظائع في دارفور.
ومن خلال عملها المشترك مع أرشيف الأمن القومي قامت برفع السرية عن 600 من الكيبلات المتعلقة بسياسة الولايات المتحدة عن السودان. وقد تم نشر كتاباتها في مجموعة واسعة من وسائل الإعلام بما في فورن أفيرز، وفورن بوليسي، ونيو ريبابليك، مجلة نيوزويك، وذا آتلانتيك، كريستيان ساينس مونيتور وانترناشيونال هيرالد تريبيون.
باختصار، هي ضليعة في الأمور الخاصة بالسودان في الدوائر الأمريكية. وهي كاتبة بليغة وتميل إلى السخرية، وأحياناً، إلى الإيحاء برؤوس المواضيع، حين تقتضي الضرورة، وتترك البقية لفطنة القراء، وطبعاً اللبيب بالإشارة يفهم.
وقد كان تقريرها هذا بعنوان:
Special Report: The wonks who sold Washington on South Sudan
ويمكن ترجمته العنوان إلى: الأساطين الذين سوقوا واشنطن لجنوب السودان
وهو منشور باللغة الإنجليزية في موقع رويترز في اللينك التالي:
http://www.reuters.com/.../us-south-sudan-midwives-idUSBRE86A...
وكنا قد أشرنا إلى بعض المعلومات الواردة في هذا التقرير في كتاباتنا السابقة "حول ما جرى ويجري في الحركة الشعبية،" إلى بعض الأعمال القذرة
(Dirty Business)
التي قام وما يزال يقوم بها "بعض" ممن يسمون أنفسهم "قيادة الحركة الشعبية،" وحلفائهم في عملية "السوفت لاندينغ."
(Soft landing)
وقد اشتكى عدد من الأصدقاء والقراء المتابعين والمهتمين بالأمر بأن بعض الأمور تبدو غامضة بالنسبة لهم. ولذلك قمنا بترجمة هذا التقرير، بالغ الأهمية، ونقوم بنشره هنا حتى تعم "المعلومات/الحقائق" الواردة فيه، سواءاً بالتصريح أو بالتلميح، حتى يفهم الجميع خلفيات الممارسات التي تجري حولنا.
التقرير:
تقرير خاص: الأساطين الذين سوقوا واشنطن لجنوب السودان
واشنطن: بواسطة ربيكا هاميلتون
12 يوليو 2012م. رويترز
في منتصف الثمانينات (من القرن العشرين)، بدأت مجموعة صغيرة من خبراء السياسة، الاجتماع لتناول طعام الغداء في الركن الخلفي من حانة إيطالية خافتة الإضاءة في العاصمة الأمريكية.
كانوا بعد أن يطلبوا البيرة، يبدأون العمل: كيف يمكن أن يتم كسب استقلال جنوب السودان، ذلك المكان الممزق بالحرب الذي لم يسمع به أبداً غالبية السياسيين الأمريكيين.
لقد أسموا أنفسهم "المجلس." وأعطوا بعضهم البعض ألقاباً عشائرية: الإمبراطور، نائب الإمبراطور، حامل الرمح، وما إلى ذلك. وشملت الزمالة، التي لا تخطر على البال: لاجئ أثيوبي بأمريكا، وبروفسير لغة إنكليزية لامع، ومسئول سابق في إدارة كارتر كان يسرح شعره على شاكلة ذيل المهر
(ponytail).
ولم يكن المجلس معروفا إلا قليلا في واشنطن أو في أفريقيا نفسها. لكن تزلفه الهادئ لما يقارب الثلاثة عقود من الزمان ساعد جنوب السودان لنيل استقلاله الذي مضى عليه عام هذا الأسبوع.
وعبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة، مهدوا طريق المتمردين الجنوبيين في واشنطون. كانوا قد أثّروا على التشريعات في الكونغرس، واستخدموا مواقعهم لتشكيل السياسة الخارجية لمصلحة متمردي جنوب السودان، وفي كثير من الأحيان، دون مراعاة لبروتوكولات حكومة الولايات المتحدة.
"نحن لم نسيطر على أي شيء، ولكننا كنا دائما نحاول التأثير على الأشياء بالطريقة التي نعتقد بأنها تصب في الغالب لمصلحة شعب جنوب السودان،" قال روجر ونتر
(Roger Winter)
وهو الآن مستشار شرفي لحكومة جنوب السودان وأحد الأعضاء الأصليين في المجموعة، وقد أعطى نفسه لقب حامل الرمح
(Spear carrier)
ولم تُحكى قصة هذا المجلس من قبل. ولقد تحدث أعضاء المجموعة الرئيسيين لسلسلة رويترز التي تؤرخ للسنة الأولى من حياة دولة جنوب السودان، لأول مرة، حول كيف اجتمعوا وما الذي حاولوا تحقيقه. وقد أشاروا إلى لحظات مهمة كان فيها السلام معرضاً الانهيار في أي لحظة. وأعرب بعضهم عن خيبة أمله في التنازلات التي قدمتها أمريكا لتتوسط في عملية إنشاء دولة جنوب السودان. فكرة واحدة كانت تشع في الأفق: كان الاستقلال أبعد من أن يكون حتميا.
قال وينتر:"كنت في الواقع أعتقد أن المعجزة هي التي جعلتنا نحصل على شيء."
إن ميلاد الأمّة له عدة قابلات. وجنوب السودان هو في المقام الأول من خلق شعبه. والقادة الجنوبسودانيين هم الذين قاتلوا من أجل الاستقلال، بينما دفع أكثر من مليونين من الجنوبيين السودانيين حياتهم ثمناً لهذه الحرية.
كان الرئيس جورج بوش، الذي خرج لينهي أطول حرب أهلية في أفريقيا، أيضا قد لعب دورا كبيرا، كما فعلت جماعات إلغاء الرق المعاصرة، الجماعات الدينية، منظمات حقوق الإنسان، وأعضاء الكونقرس الأمريكي.
ولكن القوة الخارجية الأكثر استمساكاً في عملية إنشاء أحدث دولة في العالم كانت مجموعة متماسكة بإحكام، لم يتجاوز عدد أفرادها السبعة أشخاص، والتي بدأت تجتمع بانتظام في معطم عطيل، الذي يقع بالقرب من منطقة دوبونت سيركل بواشنطن، وذلك في عصر ما قبل البريد الإلكتروني.
المتمرد الكاريزمي:
في عام 1978م، كان براين داسيلفا، الطالب الشاب في الاقتصاد الزراعي، قد بدأ التحضير لدكتوراه في جامعة أيوا ستيت. وهناك، درس بجانب رجل سوداني جنوبي شديد الكاريزمية، اسمه جون قرنق، كان (جون قرنق) قد بدأ يحلم بسودان ديمقراطي.
بعد التخرج، ذهب داسيلفا مع قرنق إلى السودان ليقوم بالتدريس في جامعة الخرطوم. كان سلام صعب قد عقد بين الشمال ذو الغالبية العربية المسلمة والجنوب المسيحي بقدر كبير. وكان الإنقسام قد نشأ منذ أيام الاستعمار، عندما شجعت بريطانيا الجمعيات التبشيرية المسيحية لتنصير الجنوب. كان البريطانيون قد وضعوا في اعتبارهم تقسيم البلاد إلى قسمين ولكنهم في نهاية المطاف سلموا سوداناً موحداً لمجموعة صغيرة من النخبة العربية في الخرطوم، التي سعت بدورها لفرض القانون الإسلامي على كل البلاد.
كانت اتفاقية 1972م قد أعطت الجنوبيين حكماً شبه ذاتي. بدأ ذلك الاتفاق الهش في التصدع بعد اكتشاف شركة شيفرون للبترول في الجنوب في عام 1979م؛ وكان الشمال لا يريد أن يفقد السيطرة على الثروات المكتشفة حديثا.
وكان داسيلفا قد رجع إلى الولايات المتحدة في عام 1980 ليعمل في وكالة التنمية الدولية الأمريكية (يو إس أيد). بعد ثلاث سنوات، قاد قرنق، زميل دراسته والضابط في الجيش السوداني، تمرداً للجنود السودانيين الجنوبيين. لتصبح مجموعته بعد ذلك الحركة الشعبية لتحرير السودان
(SPLM)
التي قادت القتال من أجل الاستقلال.
زار روجر وينتر السودان في عام 1980 باسم جماعة غير حكومية تسمى لجنة الولايات المتحدة لشؤون اللاجئين. لدى عودته، سعى مسؤول إدارة كارتر السابق للقاء السودانيين المقيمين في واشنطن. كانت الشخصية المفتاحية من بينهم هي فرانسيس دينق، الباحث والقانوني الذي يحظى بالاحترام، وهو زميل في مركز وودرو ويلسون.
"رجل شعره مصفوف على شاكلة ذيل حصان جاء ليلتقي بي"، قال دينق، الذي هو الآن (2012م) المستشار الخاص للامم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية.
وينحدر دينق من أبيي، وهي منطقة خصبة تمتد بين شمال السودان وجنوبه. وذكر أنه كان قد اعتقد بأن (روجر) وينتر ربما يكون "من نوع الأثرياء الهيبي" الذين يريدون تقديم المال للمتمردين. عندما أوضح وينتر أن أفضل ما يمكنه القيام به هو نشر المعلومات، اقترح عليه دينق أن الرأي العام الأميركي في حاجة للروايات المباشرة للسكان المتضررين من الحرب. ودعا ابن عم له في حركة التمرد ليقوم بذلك في الزيارات المقبلة، وكان وينتر قادرا على الوصول إلى كل الأماكن التي تسمى بالمناطق المحررة – وهي أجزاء من السودان كان يسيطر عليها المتمردون - حيث يمكن جمع الشهادات المباشرة عن أثر الحرب هناك.
وبحلول منتصف الثمانينات، كان هولاء الأعضاء الثلاثة المستقبليين في المجلس داسيلفا، دينق، ووينتر - يعملون في الولايات المتحدة كوكلاء لجون قرنق. وكان زعيم المتمردين، الذي يبلغ طوله أكثر ستة أقدام ووزنه أكثر من 200 رطل، له ضحكة - وشخصية – تملأ المكان.
قال وينتر، الذي التقى قرنق لأول مرة في عام 1986م: "إذا التقيت بدكتور جون، فإنك لا محالة ستغير عقيدتك."
اكتشف الرجال الثلاثة بسرعة حجم المهمة التي كانت تنتظرهم. وفي عام 1987، حاول داسيلفا جلب وفد من الحركة الشعبية لتحرير السودان للقاء مسؤولين في واشنطن. لكن الإجراءات الرسمية في "فوغي بوتوم
Foggy Bottom
(وهو الاسم الذي تُكنّى به وزارة الخارجية الأمريكية المترجم)، كانت مصممة على الحفاظ على العلاقات مع الحكومة السودانية المعترف بها في الخرطوم وتجاهل حركة التمرد. وكان داسيلفا قد تلقّى اتصالا هاتفيا من مسؤول يأمره بأن لا تُعقد أي اجتماعات في أي أماكن مملوكة للحكومة (الأمريكية) أو مؤجرة من قبلها.
يدخل "الإمبراطور:"
ووفقاً لدينق، كان الكثيرون في واشنطن يربطون المتمردين بالحكومة الأثيوبية المجاورة، المدعومة من الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي يضع الحركة الشعبية لتحرير السودان على الجانب الخطأ من الحرب الباردة. "استغرق الأمر الكثير من العمل الشاق لإزالة التحيز ضد جون قرنق،" قال دينق.
وبينما كان داسيلفا ووينتر ودينق يسعون لإدخال متمردي الجنوب من خلال الأبواب في واشنطن، كان الخريج المشاكس (جون برندرغاست) في عملية بحث عن مبرر للسفر إلى منطقة القرن الأفريقي. مع بداية التسعينات، قرر جون برندرغاست أن يكون صاحب الدعوة للمساعدة على كسب سياسات أمريكية أفضل لأجل أفريقيا.
في ذلك الوقت، كانت دائرة المهتمين بشئون القرن الأفريقي في واشنطن صغيرة. وبعد مدة قصيرة التقى برندرغاست ب وينتر، وبدأ الإثنان في اطلاع الصحفيين عن النزاعات وحثهم على تغطيها ووضعهم على اتصال مع المتمردين.
وكانت حملات حقوق الإنسان مختلفة جدا عن ما هي عليه اليوم. وفكرة جماعات غربية تدافع بطريقة منسقة بالنيابة عن قضايا خارجية - كما كان الحال خلال حملات مكافحة العبودية في الكونغو البلجيكية بقيادة بريطانية في الماضي قبل أكثر من قرن من الزمان – قد تم إحياءها مؤخرا فقط، بواسطة شبيهاتها من شاكلة منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش.
بالنسبة للأميركيين القلائل الذين سمعوا بالسودان بالكاد، "كان الجنوب بمثابة الثقب الأسود،" قال وينتر، منظِّم حقوق اللاجئين.
ونحو هذا الوقت كان إمبراطور المجلس المستقبلي قد ظهر على الشاشة. كان تيد داغني
(Ted Dagne)
الأثيوبي، يبلغ من العمر 14 عاما، في سنة 1974م، عندما استولى المجلس العسكري المدعوم من السوفييت على السلطة. كانت شقيقة داغني الأكبر سنا، زعيمة طلابية، وكانت من بين أوائل من تم إعدامهم من قبل الحكومة الجديدة.
"بعد ذلك، كان هناك (استهداف) لعائلتنا"، قال داغني وهو يرسم الصليب في الهواء.
وفي الوقت الذي كان فيه داغني في السادسة عشر من عمره، تعرض هو وشقيقه الأكبر للسجن والتعذيب. في وقت لاحق أُطلق سراح داغني، ولكن شقيقه أعدم وكانت فرص داغني في البقاء قد بدت ضئيلة. في صباح أحد الأيام ارتدى تي شيرت شقيقته وجينز وحذاء شقيقه، وخرج يبحث عن مستقبل مجهول. قال لوالديه انه ذاهب إلى البقالة. وكانت تلك آخر مرة يراهم فيها.
بمساعدة من الرجل الصومالي الذي تظاهر بأنه والده، عبر داغني الحدود إلى الصومال. في نهاية المطاف وصل إلى جيبوتي، وانضم بعد ذلك إلى جيل من الناس الفارّين من الأراضي الشيوعية، الذين مُنحوا حق اللجوء في الولايات المتحدة.
أكمل داغني دراسته في الكلية من خلال العمل في وظيفتين – الرد على الهواتف من الساعة 11:00 مساءاً حتي 06:00 صباحاً وفي وردية بعد الظهر في كشك لبيع الهدايا التذكارية في منطقة نصب لينكولن التذكاري. بحلول عام 1989 كان قد حصل على درجة الماجستير، وحصل على الجنسية الامريكية وكان يعمل في الشؤون الأفريقية في خدمة أبحاث الكونغرس، الذراع غير الحزبي لتحليل السياسات للسلطة التشريعية للولايات المتحدة.
زيارة فتح العين:
في ذلك العام (1989م)، أخذ وينتر اثنين من أعضاء الكونغرس للقاء قرنق في إحدى زياراته للمناطق التي يسيطر عليها المتمردون في السودان. وكان للزيارة تأثير كبير. وقال أحد الزوار، وهو فرانك وولف، النائب الجمهوري من فيرجينيا، إنه لا يزال يتذكر سؤال طرحته عليه امرأة من الدينكا اسمها ريبيكا.
"قالت لي: لماذا الناس في الغرب شديدي الاهتمام بالحيتان بينما لا يبدو أن أحدا منهم يكون مهتما بنا؟" تذكر (فرانك وولف)، وأضاف: "كانت قد فتحت عيني، وقد أصبحتُ متعاطفا جدا مع الجنوبيين."
بعد ذلك، تمكن داسيلفا ودينق ووينتر في الآخِر من الإتيان بوفد بقيادة قرنق في زيارة رسمية الى واشنطن.
ولرغبته في خلق انطباع جيد عن وطنه، قام مانوت بول، البالغ من الطول 7 أقدام و7 بوصات، والذي يلعب لفريق غولدن ستيت ووريورز لكرة السلة، باستئجار سيارة ليموزين لتقل وفد قرنق إلى الكابيتول هيل (الاسم الذي يُكنّى به مبنى الكونغرس المترجم). قال لهم وينتر أن هذه فكرة سيئة.
ويتذكر وينتر قائلا: "شرحت لهم، أنه لا يمكنك الذهاب إلى مبنى الكابيتول هكذا ثم تشرع في الحديث عن الجوعى!" تحول الزوار إلى بص قديم ينفث كتل من الدخان الأسود وهو يتقدم نحو مبنى الكونغرس.
وأنه في تلك الزيارة إلى واشنطن التقى داغني بقرنق لأول مرة. وقد أقام داغني صداقة مع زعيم المتمردين أقوى من صداقة أي عضو آخر في المجلس. وكانت هناك فترات في السنوات التي تلت هذا اللقاء صارا يتحدثان فيها هاتفيا كل يوم، كما قال داغني.
وبحلول أوائل التسعينات، بدأ عمل المجموعة يؤتي ثماره. تم نقل داغني من خدمة أبحاث الكونغرس مُعاراً إلى اللجنة الفرعية لمجلس النواب المختصة بأفريقيا، حيث بدأ في بناء التحالفات من أجل قضية جنوب السودان.
من المفترض أن يكون موظفي الكونجرس محايدين، ولكنه ما كان سرا أن ولاء داغني كان مع الجنوبيين. "كان تيد متوجساً للغاية من الحكومة السودانية، وهكذا أصبحتُ متوجساً جدا"، قال السيناتور الديمقراطي السابق هاري جونستون، الذي ترأس اللجنة الفرعية (للشئون الأفريقية).
"لقد دفعت بالقضية كثيرا جدا،" يعترف داغني.
في عام 1993، على سبيل المثال، وضع داغني مسودة قرار للكونغرس ودس بين السطور أن لجنوب السودان الحق في تقرير المصير. ومرر المسودة لجونستون، الذي استعرضها ومن ثم عرضها على زملائه في الكونغرس. وكان هذا القرار غير ملزم، لكنه مر بالإجماع. وهذه هي المرة الأولى التي يعترف فيها جزء من أجزاء حكومة الولايات المتحدة بحق الجنوبيين في تحديد علاقتهم مع الحكومة السودانية.
وبحلول منتصف التسعينات، صار الرجال الخمسة: داغني، دينق، داسيلفا، برندرغاست ووينتر – يجتمعون بانتظام في عطيل (المطعم الإيطالي). وقد لُقِّب برندرغاست بعضو المجلس في قائمة الانتظار لأنه أراد أن يتحدى الإمبراطور. ولُقِّب دينق بالدبلوماسي، لأنه كان الأقل تشددا في المجموعة. وخرج داسيلفا، الأكثر جدية، في وسط المجموعة، من دون لقب.
وقد توحدت المجموعة عن طريق احترام قرنق. يعترف هؤلاء الرجال بأن مقاتليه في الحركة الشعبية لتحرير السودان قد ارتكبوا جرائم مروعة خلال الحرب، ويقولون انهم غالبا ما كانوا يجرون محادثات ناقدة جدا مع قرنق. لكنهم، أيضا، يقولون انهم لم يشُكُّوا أبدا في أنهم كانوا يدعمون الجانب الصحيح.
"أمامك هؤلاء الرجال، المدربين تدريبا جيدا، في الخرطوم الذين هم قتلة ولا يلتزمون أبدا بأي اتفاق،" قال وينتر. "كيف يمكن أن تعاملهم على قدم المساواة (مع المتمردين)؟"
دعاة إلغاء الرق في العصر الحديث:
كانت الأزمة في الصومال ورواندا تمتص معظم اهتمام أمريكا في أفريقيا. ولكن قضية جنوب السودان سرعان ما حصلت على دفعة من جهة غير متوقعة.
ففي عام 1995م، بدأت منظمة التضامن المسيحي الدولية برنامجاً مثيراً للجدل في السودان يسمى فداء الرقيق. بدأت منظمة حقوق الإنسان، التي مقرها في زوريخ، الدفع لتجار الرقيق من أجل تحرير الجنوبيين المأسورين في غارات شنتها الميليشيات المدعومة من قِبَل الحكومة في الشمال. أخذت منظمة التضامن المسيحي صحفيين وقساوسة من الطائفة الإنجيلية السوداء على طول بعثاتها، ورشحت قصص العبودية الحديثة الى التجمعات الكنيسة ووسائل الإعلام الأمريكية.
كفّت المجموعة عن تأجيج سوق الرق، ولكن كان لها تأثير كبير في الولايات المتحدة. فقد بدأت المدارس الأمريكية في جمع الأموال لتحرير العبيد، وبدأ أعضاء الكونغرس في الحصول على خطابات من ناخبيهم. "ينقسم الأمريكيون على أي قضية يمكن تخيلها، ولكن نحن أمة ذات نزعة إلغائية للرق،" قال تشارلز جاكوبس، مؤسس المجموعة الأمريكية لمكافحة الرق، التي قادت الاحتجاج في الولايات المتحدة.
تعززت شبكة داغني لحلفاء جنوب السودان في الكونغرس. وقام بتنظيم رحلات إلى المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لوفود من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري)، بينهم سناتور تينيسي الجمهوري بيل فريست، والراحل دونالد باين، نائب نيو جيرسي الديمقراطي.
بعد أن رأوا الأثر الإنساني للحرب مباشرة، نما لدى المشرِّعين الشك تجاه الخرطوم كما كان عند المجلس. بالنسبة ل فريست، وهو طبيب جراح، كانت اللحظة المفتاحية عندما شاهد الموظفين في مستشفى ميداني في جنوب السودان يفرون، أثناء عملية جراحية، من القصف إلى الكهوف القريبة خلال غارة جوية حكومية.
"لماذا؟ سألت نفسي." "لا إجابة سوى أن هدف الحكومة في الخرطوم هو خلق الرعب."
على كل حال، فلأجل أن يكون هناك تغيير حقيقي، فلابد للسلطة التنفيذية من الدخول في العملية. كان هذا صعبا طالما ظلت وزارة الخارجية تركز على الحفاظ على علاقة فاعلة مع الخرطوم.
في عام 1993، على الرغم من ذلك، ربطت الولايات المتحدة انفجار سيارة ملغومة في مركز التجارة العالمي في نيويورك بأسامة بن لادن، الأصولي الإسلامي السعودي الذي يعيش في السودان. وتم إدراج الخرطوم ضمن قائمة وزارة الخارجية للدول الراعية للإرهاب.
كان لقاء مصادفة في مؤتمر جامعة برينستون عن الصومال قد أعطى المجلس الإختراق التالي.
كانت سوزان رايس من بين المتحدثين، وهي، الشابة، خريجة كلية رودس، التي كسبت نفوذاً في وزارة الخارجية بصفتها كبيرة مديري الشؤون الأفريقية. في طريق عودتها إلى واشنطن، ركبت رايس القطار برفقة داغني، وتحدثا عن سياسة الولايات المتحدة في أفريقيا في الرحلة التي امتدت لأربع ساعات. وسرعان ما أصبحت رايس عضوا غير رسمي ب"المجلس،" وصارت تأتي في بعض الأحيان للغداء في عطيل. ورفضت رايس، سفيرة الولايات المتحدة الحالية (2012م) في الأمم المتحدة، التعليق على هذا المقال.
وكان برندرغاست، الذي التقى رايس أيضا في المؤتمر، قد قدّم طلباً للعمل عندها. في الإنترفيو، كما ذكر، قال لها أن الخرطوم "مشوهة جدا للحد الذي لا يمكن معه إصلاحها،" وهي جهة النظر التي كان يحملها المتمردون الجنوبيون منذ فترة طويلة. ووظفته رايس عندها.
المجادل الأدبي:
وحثت رايس بنجاح إدارة كلينتون إلى فرض عقوبات شاملة على السودان، تحظر أي فرد أو شركة أمريكية من ممارسة الأعمال التجارية فيه. أدى هذا التحول إلى تقريب الموقف الأميركي الرسمي من موقف المجلس.
وبحلول أواخر التسعينات، لم تكن واشنطن مجرد مانح للمساعدات الإنسانية إلى جنوب السودان. انها تمنح أيضا بعثات القيادة والتدريب، فضلا عن 20 مليون دولار من فائض المعدات العسكرية إلى أوغندا وإثيوبيا وإريتريا، وهي جميعا تدعم المتمردين الجنوبيين. وقال برندرغاست: كانت الفكرة هي مساعدة دول المنطقة لتغيير النظام. "لقد كان الأمر متروك لهم وليس لنا،" كما قال في مقابلة.
لكن النظام كان من الصعب تحوّله. وذلك بفضل خط أنابيب بُني بواسطة الصينيين يربط حقول النفط الجنوبية بالبحر الأحمر، وقد بدأ السودان تصدير النفط في عام 1999. والآن صار للخرطوم مصدر جديد للدخل لتمويل عملياتها القتالية.
في عام 2001م، انضم إلى المجلس نائب الإمبراطور، اريك ريفز. كان ريفز أستاذاً للأدب الانكليزي في كلية سميث، وهي كلية صغيرة في غرب ولاية ماساشوستس، ولم تكن لديه خلفية عن السودان. ولكن بعد قراءته حول الأوضاع الإنسانية في الجنوب وحضور محاضرة قدمها وينتر في الكلية، أصبح ريفز الكاتب الأغزر في المجلس. وذكر انه نشر مئات من قطع الرأي ودوّن تقارير مفصلة أثارت الغضب الأخلاقي ضد الخرطوم.
عندما تولى جورج بوش منصبه في عام 2001، غادرت رايس وزارة الخارجية وكذلك برندرغاست وانضما إلى مؤسسات الفكر والرأي
(Think Tanks)
ولم يبق في المسار الداخلي سوى داسيلفا، مستشار السياسة في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو أس أيد)، والباحث في الكونغرس داغني. فجأة، على أي حال، أصبحت قضية المجلس هي قضية البيت الأبيض.
في اليوم الثاني من رئاسته، وجه بوش كبار الموظفين للتركيز على وضع حد للحرب في السودان. ورفض بوش التعليق على الأمر الذي دفعه للتركيز على السودان. ولكن أحد أعمدة قواعد دعمه، وهم المسيحيون الإنجيليون، كانوا قد دفعوه لتولي زمام القضية. فقد كانوا منذ فترة طويلة يشعرون بالقلق إزاء اضطهاد المسيحيين في جنوب السودان.
ويتذكر القس جراهام فرانكلين، أحد الإنجيلييين النافذين، دفعهم الرئيس المقبل للتركيز على السودان خلال اجتماع إفطار أقاموه في فلوريدا قبل يومين من الانتخابات الرئاسية.
وبناء على طلب من الجماعات الدينية، عين بوش السناتور السابق والأسقف جون دانفورث ليكون مبعوثه الخاص المكلف للمساعدة في فتح مسار المفاوضات الجارية بين الشمال والجنوب.
وجدت الجماعات الإنجيلية فجأة الصحفيين على عتبة الباب. "الناس يريدون سماع ما كنا نريد أن نقول،" قالت ديبورا فايكس، المتحدثة باسم تحالف ميدلاند للقسيسين، ومقرها في مسقط رأس بوش في ميدلاند بولاية تكساس.
بدأت فايكس العمل مع السفارة السودانية وذهبت إلى الخرطوم لمقابلة المسئولين الحكوميين الذين كانت تعتقد أنهم معتدلين. لم يعجب ذلك المجلس، الذي اتهمها بالسذاجة. "إنها، بحق الجحيم، لا تعرف ما كانت تفعله،" قال ريفز.
ورفضت فايكس الانتقادات قائلة: "لم يكن لدي مهنة أو أجندة. عندما تنظر إلى المسيح، تجد أنه أسيء فهمه."
"أملعونون إن فعلنا؟"
بعد أن قضى وقته في إدارة كارتر، كان وينتر قد أقسم بعدم العمل في الحكومة مرة أخرى، مفضلاً القطاع غير الحكومي الأقل بيروقراطية. لكن مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو إس أيد) أندرو ناتسيوس أقنعه أن بوش كان على وشك أن يجعل من تحقيق السلام في السودان أولوية. وافق وينتر على العودة إلى الحكومة. ومع دوره الجديد كمستشار لدانفورث، كان المجلس قد عاد مرة أخرى إلى مركز سياسة السودان (في الولايات المتحدة).
وكما هو الحال مع داغني، فلم يكن سراً أن وينتر كان منحازا. يقول دانفورث انه طلب المساعدة من وينتر بسبب معرفته التفصيلية. وينتر نفسه أحس بالتوتر مع العديد من الدبلوماسيين الذين يعمل معهم وقتها جنبا إلى جنب. "كانت وزارة الخارجية تتعامل مع الخرطوم،" قال وينتر.
جاء التقدم في ذلك الصيف، عندما سافر القائم بأعمال الخرطوم في واشنطن، أحمد خضر، إلى منزل دانفورث في سانت لويس بولاية ميسوري. وكان لخضر سؤال واحد فقط، يتذكر دانفورث: "هل نحن ملعونون اذا فعلنا وملعونون إذا لم نفعل؟" وبعبارة أخرى، إذا وافقت الخرطوم على السلام، هل لا تزال منبوذة عند حكومة الولايات المتحدة؟
الجواب يهم. منذ أن استلم حكام الخرطوم مقاليد الحكم في انقلاب عام 1989، كانت قدرتهم على الحفاظ على السيطرة تعتمد، إلى حد كبير، على شبكات المحسوبية. ولأن الولايات المتحدة كانت قد وضعت السودان بفعالية في القائمة السوداء، كان على الخرطوم الاعتماد على قروض من دول غير غربية وعلى إيرادات من حقول النفط في الجنوب لتمويل هذه الشبكات.
لكيما يوقعوا على اتفاق يخاطرون فيه بفقدان الجنوب الغني بالنفط، فإن قادة الشمال يحتاجون إلى مصدر بديل للدخل. ان تطبيع العلاقات مع واشنطن سيكون الطريق المؤكد للعودة إلى النظام المالي الدولي.
بعد التشاور مع بوش، قال دانفورث لخضر أن واشنطن تتطلع إلى تطبيع العلاقات. "كان ذلك رسالة مهمة،" قال دانفورث في مقابلة. ولم يتسن لنا الحصول على تعليق من خضر.
ومع ذلك، فإن الاختراق الأكبر لم يأت نتيجة للدبلوماسية أو للمناصرة، ولكنه جاء من هجمات تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر عام 2001.
عندما قال بوش للعالم أن واشنطن سوف "تلاحق الدول التي تقدم المساعدات أو الملاذات الآمنة للإرهاب،" تغيرت علاقة الولايات المتحدة مع الخرطوم بين عشية وضحاها. وكان السودان قد طرد زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في عام 1996، لكنه كان يشعر بالقلق من أنه قد يكون مستهدفاً من قبل الولايات المتحدة. وجدت واشنطن نفسها فجأة بأن صار لها نفوذ هائل على الخرطوم، الأمر الذي استخدمته إدارة بوش للضغط من أجل التوصل إلى اتفاق سلام.
في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2002م، كان الاتفاق قد تم تقريبا على كل القضايا الرئيسية، التي من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى اتفاق السلام التاريخي في عام 2005 بين الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السودان. والأكثر غرابة أن الخرطوم وافقت على السماح للجنوبيين بإجراء استفتاء حول ما إذا كانوا سيظلون جزءاً من السودان.
المجلس، كلوني والكونغرس:
بحلول عام 2003، على الرغم من كل شي، تعثر التقدم (في عملية السلام). قللت التقارير عن التمدد الأمريكي في العراق وأفغانستان من مخاوف الخرطوم من أن تصبح هدفا عسكريا في المستقبل. وبدأ نهج حكومة الولايات المتحدة (المتشدد) تجاه الخرطوم في التصدع.
وكانت وكالة المخابرات المركزية قد أصدرت تقارير برَّاقة
(glowing)
حول تعاون السودان في "الحرب على الإرهاب" ودعمت وعد بوش بتطبيع العلاقات. من ناحية أخرى، أخذت الأحداث في السودان تمضي بطريقتها الخاصة.
وبينما أصبح واضحا أن الجنوبيين كانوا في طريقهم إلى أن يحصلوا على صفقة جديدة، أراد أهل دارفور، غرب السودان، الحصول على واحدة أيضا. كان تأطير الحرب الأهلية على أساس أنها صراع بين الشمال والجنوب أو صراع مسلم مسيحي. والحقيقة أن الجنوبيين كانوا أبعد من أن يكونوا المجموعة الوحيدة التي تعاني من الخرطوم. وتشمل الفئات المهمشة الأخرى الجماهير المتنوعة طائفيا في جبال النوبة والمختلطة السكان من الشمال والجنوب في النيل الأزرق وأبيي.
وبينما كان التمرد في دارفور يتصاعد، تحركت الخرطوم لسحقه. رأى المجلس في الحال أوجه التشابه بين رد الخرطوم والفظائع السابقة في الجنوب. لكن تحويل تركيز الولايات المتحدة إلى دارفور يمكن أن يعرض اتفاق السلام في الجنوب للخطر.
استشار داغني قرنق، الذي شجعه على تقديم القضية الدارفورية إلى مُشرِّعي الولايات المتحدة الذين يدعمون الجنوبيين. ودخل المجلس في القضية؛ وعلى مدى السنوات التالية كانوا من بين الجهات الأكثر أهمية في تدعيم إقليم دارفور الذي لم يكن معروفاً من قبل في مخيلة الرأي العام الأمريكي.
في ذلك الوقت، كان برندرغاست، الذي يعمل في مجموعة أبحاث مستقلة، قد أصبح لاعباً رئيسياً في تأسيس حركة أنقذوا دارفور
(Save Darfur)
وفي تلك الأثناء، كان قد قضى أسابيع يتحدث عن دارفور في الجامعات والعمل مع الممثل جورج كلوني، الذي أصبح مدافعاً عن القضية. كتب ريفز ورايس، التي صارت زميلة كبيرة في معهد بروكينغز، العديد من القطع الافتتاحية (في الجرائد). وفي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو أس أيد)، نظم وينتر وداسيلفا زيارات لمسؤولي وزارة الخارجية حتى يتمكنوا من رؤية العنف بشكل مباشر. وبعد إجراء مقابلات مع لاجئين من دارفور، عمل داغني مع النائب باين
(Donald Payne)
على قرار يسمي الفظائع المرتكبة ب"الإبادة الجماعية."
والآن صار داغني خبيراً في تجنيد حلفائه في الكونغرس لإدراج مسودات التشريعات الداعمة للجنوب في تشريعات مؤكدة المرور حول موضوعات غير ذات صلة. وباستخدام هذا النهج كان قد نجح في إعفاء المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في جنوب السودان من العقوبات الامريكية.
وبالرغم من كل شيء، لم يكن قراره حول الإبادة الجماعية في دارفور في حاجة إلى مثل هذه المناورة. كان تنامي الغضب الشعبي قد ضَمِن اعتماده من قبل مجلس النواب ومجلس الشيوخ بالإجماع.
السلام – والضربة:
في يناير 2005، ومع استمرار القتال في دارفور، توصلت الخرطوم أخيرا إلى اتفاق السلام الشامل مع الجنوب. ودعا قرنق داغني ووينتر لتناول العشاء في منزله في نيروبي، كينيا، للاحتفال.
وبعد سبعة أشهر، مات الزعيم السوداني الجنوبي في حادث تحطم طائرة هليكوبتر. وكان مقتل قرنق ضربة كبيرة لمشروع السودانيين الجنوبيين، ولكن المجلس تجمع حول خليفته.
كان سلفا كير، الذي قضى حياته المهنية في ساحة المعركة، قد وُصف بأنه أقل من قرنق في قدراته. وقبل الاجتماع الأول ل كير مع بوش، اجتمع معه المجلس في واشنطن في جناح خاص به في الفندق الذي ينزل به للاستماع إلى تنوير غير رسمي، تماما كما كانوا يفعلون منذ زيارة قرنق الأولى إلى الكابيتول هيل (مبنى الكونغرس الأمريكي).
بعد التوقيع على اتفاق السلام، تقاعد وينتر عن العمل في الحكومة. بقي داسيلفا في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو أس أيد) وبقي داغني في خدمة أبحاث الكونغرس، في حين أسس برندرغاست منظمته الخاصة للمناصرة
(advocacy)
أما رايس فقد انضمت، بعد فوز أوباما بمنصبه، للإدارة الجديدة كسفيرة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة.
لكن الزخم انحسر مع شروخ انفتحت في الإدارة الجديدة.
أراد جنرال سلاح الجو المتقاعد سكوت غريشن، مبعوث الرئيس الجديد للسودان، أن يكون هناك ارتباط أوثق مع الخرطوم. ولم يستجب غريشن لطلباتنا للحصول على تعليقه.
ولكن في مقابلات أُجريت معه في عام 2009، وقال انه بدون إعادة العلاقة معها، فليس للخرطوم أي حافز
(incentive)
للسماح للجنوبيين للتصويت على الاستقلال. وأعرب عن اعتقاده أن تأكيد قيام الاستفتاء على الاستقلال في موعده يجب أن يكون الهدف الأسمى. بينما حافظت رايس على الشكوك المعلنة، معتبرة أن في تعامل الخرطوم مع المناطق المضطربة خارج الجنوب، مثل دارفور، ما يبرر استمرار الإدانة.
كانت مراجعات سياسية شاقة وطويلة قد جرت خلال أواخر عام 2009. وفي النهاية، جاءت التوصية بأنه ينبغي أن تُعطى قضية دارفور والسلام بين الشمال والجنوب، ومكافحة الإرهاب أولويات متساوية. لكن الخلاف حول التفاصيل يعني أنه لم يكن هناك توافق في الآراء بشأن كيفية تحقيق جميع الأهداف الثلاثة. كانت الأشهر ال(18) الأولى من ولاية أوباما قد تبددت في حالة من الجمود البيروقراطي.
وأخيرا، في صيف عام 2010، دعا أوباما فريقه المختص بشئون السودان إلى المكتب البيضاوي. وقال الرئيس إنه لن يسمح بالعودة إلى سفك الدماء بين الشمال والجنوب، وفقا لما ذكره دينيس ماكدونو، كبير الموظفين في مجلس الأمن القومي في ذلك الوقت.
مواجهة مع بايدن:
عاد الزخم. وكان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي حضر إلى جنوب أفريقيا لكأس العالم، قد تم تكليفه بحث القادة في كل أفريقيا على أن الاستفتاء على الاستقلال يجب أن يمضي قدما. وكانت بعض البلدان الأفريقية تخشى أن يؤسس استقلال الجنوب سابقة لحركات انفصالية في دولهم.
وفي الوقت نفسه، كانت الأعمال التحضيرية السودانية للاستفتاء قد تعثرت. الخرطوم وجوبا لم تتوصلا إلى اتفاق حول الجهة التي تقوم بإدارة الخدمات اللوجستية الخاصة بعملية الاقتراع، وكانت الخرطوم تتلكأ في الإفراج عن الأموال الموعودة للاقتراع. وكان الجنوب قد حث واشنطن لدفع الخرطوم إلى الوفاء بوعودها.
وفي اجتماع عقد في نيروبي، قال بايدن ل كير أن الجنوبيين السودانيين يجب أن يقوموا بأنفسهم بالتأكيد على أن الاقتراع سيتم.
"أنا لا يهمني حول ما إذا كانت الخرطوم ستفعل أو لا تفعل،" قال بايدن، وفقا لما نقله كاميرون هدسون، الذي حضر الاجتماع بصفته عضوا في مجلس الأمن القومي، وأضاف: "لا يمكننا أن نرغب في هذا الأمر أكثر منكم." ورفض مكتب كير التعليق على ما دار في الاجتماع.
طوال فترة خريف عام 2010م، كان ماكدونو
(McDonough)
عضو مجلس الأمن القومي، يترأس اجتماعات مع عشرات من صناع القرار في السودان في كل مساء، وفي كثير من الأحيان حتى منتصف الليل. وكانوا يناقشون ماهية الحوافز التي يمكن أن تُقدم للخرطوم في مقابل السماح للجنوب بالذهاب.
جرت مكالمة مهمة حول ما كان على الشمال أن يقوم به لتحريك هذه الحوافز: هل إجراء الاستفتاء فيه الكفاية؟ أم أن المكافآت يجب أن تكون مرتبطة بالانتهاء من القضايا العالقة الأخرى، مثل ترسيم الحدود وتدفق النفط؟
في نهاية المطاف، خلص الفريق أنه لا يمكن إجبار الطرفين على الاتفاق على أي شيء يتجاوز إجراء الاستفتاء. قررت الولايات المتحدة الضغط من أجل المضي قدما نحو الاقتراع كما كان مقررا. وبدأ التصويت في 9 يناير 2011م. وأظهرت النتيجة النهائية أن 98.8 في المئة من الناخبين اختاروا استقلال جنوب السودان.
وفي حديث لها أمام مجلس الأمن الدولى بعد ستة أشهر، في اليوم الذي انضمت فيه جنوب السودان إلى المجتمع الدولي، وعدت رايس أن تظل الولايات المتحدة "صديقا ثابتا." وتعهدت واشنطن ب 370.8 مليون دولار كمساعدات لهذا البلد الجديد في الأشهر الستة التالية للاستقلال وحدها.
السفر إلى جوبا:
لقد عادت القضايا الدبلوماسية التي لم تحل تطارد الإقليم.
وفي يناير، كانون الثاني (2012م)، أغلق كير صناعة النفط الجنوبية، متهما الخرطوم بأنها سرقت 1.7 مليون برميل من نفط جنوب السودان من خط أنابيب عبر الحدود. لكن الخرطوم قالت أنها لم تصادر إلا ما عليه مستحقات رسوم خطوط الأنابيب. والقضايا العالقة الأخرى - الحدود، ومصير مناطق مثل أبيي وجبال النوبة – صارت الشرارة التي أشعلت أعمال عنف جديدة.
ومع ذلك، فإن مبعوث الولايات المتحدة الحالي للسودان (2012م)، برينستون ليمان، يرى أنه حتى في ظل الإدراك المتأخر، أنه كان من الصواب أن تضغط الولايات المتحدة من أجل الاستفتاء المزمع عقده في الوقت المحدد.
كان لأعضاء المجلس وجهات نظر متباينة حول تراث اتفاق السلام.
برندرغاست ودينق وريفز – لم يكن أيا منهم في الحكومة عندما تم وضع الاتفاق - متشائمون، ويعتقدون أن المناطق المضطربة الأخرى في السودان ينبغي أن يتم التعامل معها بجدية أكبر.
ويتساءل داسيلفا حول ما اذا كان بالإمكان تنفيذ الاتفاقية على نحو أفضل لو أن قرنق كان حياً.
وينتر وداغني - اللذان كانا الأقرب إلى عملية وضع الاتفاق النهائي - كانا الأكثر تفاؤلا، قائلين ان استقلال الجنوب وحده يكفي لتبرير الاتفاق. في السابق، كان الصدام بين الشمال والجنوب نزاعاً داخلياً كان يمكن للعالم أن يتجاهله. أما الآن فهو صراع بين دولتين، ودولة الجنوب لديها جيشها للدفاع عن نفسها.
" بمجرد أن تنالوا سيادتكم، تكون كل القضايا الأخرى ثانوية،" قال داغني.
في ليلة من ليالي يناير، كانون الثاني، توجه داغني إلى مطار دالاس الدولي خارج واشنطن للحاق برحلة إلى جوبا. وكان قد غادر وظيفته في الكونغرس وتفرغ لتولي دور مستشار خاص ل سلفا كير رئيس جنوب السودان. تاركا وراءه عائلته ووظيفة آمنة في حكومة الولايات المتحدة، وقال انه كان عائدا إلى القارة التي غادرها قبل 31 عاما.
على هاتفه ال(آي فون)، يحمل داغني تسجيلا لرسالة من قرنق أرسلها إليه قبل أقل من 24 ساعة من وفاته. تبدأ بالآتي:"مرحبا، ابن شقيقي، هذا عمك."
ومر داغني على قائمة رسائل وداع من أعضاء المجلس.
"لا يمكن لجنوب السودان أن يكون أكثر حظا" كتب ريفز. "أحييكم ... أنت ... الإمبراطور."
انتهي التقرير
وما ورد في هذا التقرير سيكون مقدمة للحلقات التالية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.