حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تشريح العقل الرعوي (4) .. بقلم: د. النور حمد
نشر في سودانيل يوم 20 - 10 - 2016

يسير وليامز آدمز على خطى ابن خلدون في تسبُّب الأعراب الوافدين في انهيار الممالك النوبية، خاصة ما كتبه بتفصيل عن سقوط المقرة المملكة النوبية، في الشمال السوداني في منطقة دنقلا. ذكر آدمز، أن وفدًا أتى إلى السلطان المملوكي، في عام 1365 من ملك نوبي يريد العون ضد قبائل بني جعد، وبني عكرمة، التي كانت تهجم على المملكة وتوسعها، نهبًا وتخريبا، (وليام آدمز، النوبة رواق إفريقيا، (ترجمة محجوب التجاني)، (ط3)، (بلا ذكر لدار النشر)، القاهرة. 2004، ص 468). ويرى آدمز أن ما ساعد الأعراب على نشر الفوضى، هو اضمحلال البلاط النوبي، وكثرة المؤامرات بين المتنافسين على الملك فيه.
يروي آدمز، أن ملكًا نوبيًا استعان ببني جعد لخلع خاله، الذي كان ملكًا، غير أنه، ما لبث أن انقلب على حلفائه هؤلاء، فذبح معظم قادتهم. وجد الملك عقب ذلك، أنه أضحى مكشوفًا، وليس في مقدوره الدفاع عن ملكه، فنزح، هو وأفراد بلاطه، شمالاً، مخلفًا عاصمته بلا حراسة. كما أنه وجد بعد نزوحه، أن وضعه الجديد لم يكن أفضل كثيرًا من سابقه، إذ وضعه في مواجهة مباشرة مع بني كنز وحلفائهم، بني عكرمة. وهنا وجد أعراب بني جعد الفرصة سانحة للانتقام من ذلك الملك، فهاجموا المدينة ونهبوها وخربوها.
يقول آدمز، إن الملك لم يحاول استرجاع عاصمته المخربة، فتركها، والمقاطعة المجاورة لها لمن أسماهم وليامز، "العرب المشاكسين". وهكذا انهارت مملكة المقرة، في منطقة دنقلا الحالية، بوصفها كيانًا سياسيًا. ويؤكد انهيار السلطة ودخول المنطقة في أتون الفوضى، مار وراه وايام آدمز، نقلا عن رحالة أوروبي، مر بالمنطقة بعد قرن من انهيار المقرة. إذ قال ذلك الرحالة، إن على الطريق الذي يؤدي إلى ديار النوبة، من الجانب الغربي من النيل، أناسٌ سيئون، نهّابون، قتلة. (نفس المصدر السابق).
أما مملكة علوة في منطقة نهر النيل ابتداء من كبوشية الحالية جنوباً إلى منطقة الخرطوم الحالية، والتي تقع إلى الشرق منها أغنى الأراضي الرعوية في السودان، في سهل البطانة، فقد جرى اختراقها بواسطة الأعراب، بكثافة أكبر، مما جرى للمقرة. وقد أضحت مملكة علوة مهددةً أكثر من جانب القبائل الرعوية الراحلة التي قدمت من مصر إلى السودان. وكانت أكبر القبائل التي استقرت في سهول السودان الأوسط ابتداءً من القرن الحادي عشر وحتى القرن الخامس عشر، هما قبيلتا جهينة وقريش، اللتين تعود أصولهما إلى الحجاز، وقد هاجرتا، إلى مصر العليا، في زمن الفاطميين. وحين ضغط عليهما المماليك، انتقلتا إلى سهول السودان سعيًا وراء المرعى.
يرى يوسف فضل، أن الصراع بين العرب وبين السكان الأصليين المستقرين كان حتميًا، بحكم سعي العرب للسيطرة على المرعي. ويرى يوسف فضل أن العرب ربما دفعوا السكان الأصليين إلى خارج مناطقهم، وربما سعوا إلى السيطرة على المناطق الغنية على مجرى النيل. ولقد كانت دولة علوة قادرةً على الدفاع عن نفسها، وعلى إبقاء الأعراب تحت سيطرتها، في بداية الأمر. غير أن الميزان سرعان ما اختل جذريًا في صالح العرب. (Yousif Fadul, The Arabs and the Sudan, Edinburgh, UK, 1967, pp. 50-60). ويسير ماكمايكل في ذات الاتجاه فيقول إن سقوط دنقلا في القرن الرابع عشر، مكن العرب من الاندفاع جنوبًا نحو مراعي كردفان وكسلا، أي غرب وشرق النيل، فأبعدوا النوبة، سكان المنطقة الأصليين، جنوبًا، وحصروا البجا على سواحل البحر الأحمر. وقد صمدت مملكة سوبا بين النيلين الأزرق والأبيض لمئتي عام أخرى، عقب ذلك الانتشار العربي الكبير في بواديها، حتى سقطت نتيجة لتحالف العرب مع الفونج في بداية القرن السادس عشر.
انتشر العرب في مراعي السودان، بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، في مساحات شاسعة جدا شملت منطقة كسلا، وكل سهل البطانة، تقريبا. كما شملت سهل الجزيرة الواقع بين النيلين. كما شمل انتشار العرب كل المنطقة الواقعة غرب مجرى النيل الرئيس، من منحنى النيل، إلى المنطقة الواقعة غرب النيل الأبيض حتى منطقة الجبلين الحالية، جنوبي كوستي، بامتدادٍ نحو العمق في الغرب، شمل شمال كردفان وشمال دارفور. حصر هذا التحول ما تبقى من الحضارة النوبية على مجرى نهر النيل الرئيس، وضفتي النيل الأزرق جنوبي الخرطوم. وبعد أن انهارت المقرة، وانهارت علوة، جرى القضاء على على الإرث الحضاري النوبي الذي بقي متواصلاً، رغم ما أصابه من اضمحلال. ويرى آدمز أن مجيء العرب وضع وللأبد المكانة الشامخة التي تمتع بها النوبيون بين جيرانهم الأفارقة. فقد امتلك العرب روحًا قتالية ودرجة عالية من الحراك افتقدها النوبيون. وبالتالي اختل ميزان القوة العسكرية، لأول مرة في تاريخ المنطقة. فخرجت القوة من قبضة الشعوب النهرية لتصبح في يد قبائل السهل والصحراء، (وليام آدمز، مصدر سابق، ص 481).
منذ سقوط مملكتي المقرة وعلوة، دخل السودان في مرحلة جديدة، سمتها الرئيسة، الحروب القبلية، والصراع ضد سلطة الدولة. وعلى الرغم من أن دولة مركزية جديدة في سنار، عقب اسقاط علوة، إلا أنها كانت دولة مضطربة. توسعت دولة الفونج بسرعة كبيرة لكنها أخذت تأكل نفسها، في نفس الوقت، وهي تتوسع، حتى انهارت بسبب الصراعات. فأطماع القبائل، وتمردها المستمر على السلطة المركزية، سببا رئيسًا في الاضطرابات والحروب المستمرة التي انهكتها، فسقطت مثل التفاحة الناضجة في فم الخديوية التي زحفت عليها من الشمال في عام 1821.
لقد وُلد الواقع السوداني الحاضر من رحم مخاض الحروب الكبيرة والصغيرة، التي زخرت بها فترة السلطنة الزرقاء. وهي حروب بالغة الكثرة، حتى ليمكن القول أن العهد السناري لم يكن سوى مسلسلٍ من الحروب المتصلة، المدمرة، خاصة في حقبته الأخيرة. لقد تسرب العقل البدوي الرعوي، بسبب المصاهرات التي أضطر إليها النوبيون لدرء شر الأعراب، إلى أماكن الاستقرار على الشريط النيلي.
أخذت الحروب تنشأ وسط الأسر النيلية نفسها. وعلى سبيل المثال، استغل ملكا الجعليين، نمر ومساعد، غياب ملك بربر، فهجما عليها ونهباها، ونصبا موالً لهما عليها. (E. A. Robinson, Nimir, the Last King of Shendi, Sudan Notes and Records, 1926, ، ترجمة بدر الدين الهاشمي(. وقد تنازع فرعا الجعليين هذان على السلطة، أيضا. فقد تحالف البطاحين مع فرع النمراب من الجعليين، الذين ربطتهم بهم صلة مصاهرة، فهجم الفريقان على جيش الملك مساعد، الذي جروه إلى منطقة تسمى دهاسير بوادي الهواد، فهزموه ثم ذهبوا واحتلوا شندي. ولكن شيوخ المجاذيب تدخلوا ونزعوا فتيل النزاع، وانتهى الأمر بأن أصبح للجعليين مملكتان؛ إحداهما بغرب النيل في "المتمة"، والأخرى في شرق النيل، في "شندي"، يفصل بين عاصمتيهما النهر. (سبولدينق، عصر البطولة في سنار، 331). ولم يكن سكان شندي، حينها، يتعدون الستة آلاف نسمة.
أما في منحنى النيل، فقد دفع تسلط الشايقية، بعضًا من البديرية والركابية إلى ترك المنطقة والاتجاه إلى كردفان ودارفور. وفي البطانة أضطر الشكرية كلا من الحلاوين والركابية والبديرية والخوالدة إلى ترك المنطقة والهجرة إلى غرب النيل الأزرق، ووصلت مجموعات منهم إلى كردفان. وقد أدت معركة المندرة إلى أن يتوجه الركابية إلى الغرب، ورافقتهم في لجوئهم إلى الغرب، شراذم من البديرية، والكواهلة، ورفاعة، والشنابلة، والضباينة والبطاحين، وممن لجأوا إلى الغرب أسرة النوراب التي التفت حول قبيلة الكبابيش، وأحتلت مركز القيادة أثناء حقبة الكيرا، (سبولدينق، المصدر السابق، 345).
أيضًا، يروي كاتب الشونة، أن الصراع الذي نشب بين الهمج والشكرية، قاد الشكرية للهجوم على أربجي وتسويتها بالأرض. وفي البطانة نفسها سال دم غزير بن الشكرية والبطاحين، نتيجة للحروب المتواصلة، التي أصبحت من القصص الشعبي الذي ترويه الأجيال. وقد جرت حرب مركبة في شمال كردفان قبيل الغزو التركي كان طرفاها الرئيسان الكبابيش وبني جرار. كما جرت حرب بين الجعليين السعداب والجميعاب. وهذه نماذج فقط لما جرى من حروبٍ في وسط السودان، مما حفظه لنا التاريخ. ولو حاولنا احصاء النزاعات العنيفة المسلحة، التي جرت في العصر السناري، لبلغت مئات الحروب. ولذلك، فإن الحديث عن سلمية السودانيين، ليس سوى اعتناقٍ لفكرةٍ متخيلةٍ، لا تقف وراءها شواهد القرون الخمسة المنصرمة. وعلى من يرد الاستزادة من شؤون العنف القبلي في السلطنة الزرقاء، مراجعة كتاب سبولدينق، "عصر البطولة في سنار"، الصفحات من 291 إلى 357.
في منطقة البطانة مثلت قبيلة الشكرية مركز القوة في السودان الأوسط. فقد كانت قبيلةً قوية، لم تخضع خضوعًا مطلقًا للسلطة المركزية. كما أنها كانت تتقن انشاء التحالفات وفق موازين مراكز القوة، بما يحفظ لها مكانتها، ومصالحها، واستقلاليتها. كانت هذه القبائل تحتاج الحبوب، وكانت تتعرض أحيانا للمجاعات. وقد دفعت بها أنفتها وترفعها عن العمل الزراعي، وحاجتها إلى الحبوب، إلى الهجوم، باستمرار، على مناطق الزراعة حول مجرى النيل وأفرعه. وهكذا تعرض النشاط الزراعي المستقر على ضفاف النيل، وما حولها، إلى الاعتداءات المتكررة. (سبولدينق، 335). قادت تلك الأوضاع إلى إضعاف البنية الحضرية المتوارثة، وإلى تبني المستقرين لقيم البدو. فقد أضطر صراع البقاء المتسم بالعنف الجميع إلى تبني القيم الرعوية. وأصبحت شدة البأس، والقدرة على الاعتداء، ونزع الحيازات عنوة، وفرض قبول الظلم بحد السيف، هي الوسائل المنجية في هذا الصراع الشرس.
ساد الاضطراب والعنف منطقة السودان الأوسط منذ سقوط علوة والمقرة، واستمر هذا الحال طيلة الحقبة السنارية،و تواصل، فمشل حقبتي الخديوية والمهدية. كل ما في الأمر، أن الخديوية أرهبت الجميع بالسلاح الناري، وفرضت، سلطة الدولة المركزية. وقد أسهمت حملات الدفتردار البشعة، عقب مقتل اسماعيل باشا، في شندي، في فرض السلم لستين عامًا (1821-1881). أما المهدية، فقد امتلكت جيشا ضخمًا، ما كان لأي من القبائل قدرة على مواجهته. خاصة أن هزائم هذا الجيش للحكم التركي جعلته يمتلك السلاح الناري، والقدرة على استخدامه.
لقد واصلت النزعة الكارهة للدولة المركزية تجلياتها، عبر سنوات الدولة المهدوية. كان الشكرية حلفاء للحكم التركي، وعندما هاجم المهدويون، بقيادة عامر المكاشفي سنار، تمكن الخيدويون من إخراج المهدويين منها، بمعاونة ألفين من المقاتلين من حلفائهم الشكرية.(أ. ب. ثيوبولد، المهدية: تاريخ السودان الإنجليزي المصري، (ترجمة: محمد المصطفى حسن)، مركز عبد الكريم ميرغني، أمدرمان، السودان، 2010، ص 66-67).
أيضًا، قاومت قبيلة الكبابيش الحكم التركي في بدايته. كما قاومت، لاحقًا، الثورة المهدية، والدولة المهدية. فحين احتلت الخديوية السودان، دخل الكبابيش في خلافاتٍ وصراعاتٍ معها، حسمها محمد علي باشا أثناء زيارته للسودان في عام 1838، انخرط الكبابيش في النظام السياسي والاقتصادي للحكم الخديوي. وتولى الكبابيش، من ثم، ترحيل الصمغ المُصدَّر إلى مصر، وسيطروا على الطريق التجاري عبر الصحراء، وتحصلوا على النقود التي أدخلتهم في دائرة التعامل السلعي. (محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث، (ط2، 2000، ص 291).
أيضًا، عندما ظهرت الدعوة المهدية، تحفظ الكبابيش في تأييدهم لها، خشية أن يفقدوا استقلاليتهم، والوضعية التي تحققت لهم في ظل الحكم الخديوي. ورغم أن الشيخ التوم فضل الله، زار المهدي أثناء حصار الأخير لمدينة الأبيض، وقدم له هديةً تمثلت في مجموعة من الجمال. إلا أن مكاتباتٍ بين الشيخ التوم فضل الله، وغردون باشا، وقعت في يد المهدويين، فقادت إلى إعدام الشيخ، التوم فضل الله، في عام 1883.
تكرر الصدام بين زعيم الكبابيش، صالح فضل الله، الذي خلف أخاه التوم على الزعامة، والدولة المهدية، أيام الخليفة عبد الله. تلكأ الشيخ، صالح فضل الله، في الاستجابة لدعوة الخليفة عبد الله له، للحضور إلى أمدرمان. فحوصر الكبابيش في ديارهم ومنع المهدويون القبائل من أن تبيعهم الحبوب، حتى تعضهم المجاعة فيرضخوا. في تلك الفترة، أوقفت قوات عبد الرحمن النجومي، التي كانت تراقب الطريق الصحراوي الرابط بمصر، قافلةً وجدتها تحمل أسلحةً وأموالاً مرسلةً من الخديوي في مصر إلى الكبابيش. قاد ذلك إلى أن يجرد المهدويون على الكبابيش حملةً عسكريةً شرسة، نكلت بهم وأعدمت زعيمهم صالح فضل الله في عام 1887. وفصلت بين إعدام صالح، وإعدام أخيه الأكبر التوم، خمس سنوات فقط. (نفس المصدر السابق).
أيضا ظل زعيم قبائل رفاعة الهوي، المتفرعة من قبائل جهينة، يوسف المرضي أبوروف، ساخطًا على سلطة الخليفة عبد الله، وظل يتصرف كزعيم اقطاعي في الشريط الممتد بمحاذاة النيل الأزرق، من جهة الغرب، في منطقة سنار. ولقد كانت هذه المنطقة وافرة الانتاج من الحبوب، التي يعتمد عليها غذاء أهل أمدرمان. وكان أبوروف يفرض ضرائب على القوارب المحملة بالحبوب المتجهة شمالا. تلكأ أبوروف في القدوم إلى أمدرمان لمبايعة الخليفة، كما قتل بعضًا من رجال الخليفة المشتتين في إقليمه. فما كان من الخليفة إلا أن جرّد عليه حملة عسكرية هزمته ودمرت قبيلته، (ثيوبولد، مصدر سابق، ص 211).
لم تسلم أمدرمان العاصمة المهدوية نفسها من الصراع الجهوي. فثورة الأشراف التي اندلعت عقب وفاة المهدي، كانت اعتراضًا على تولية المهدي الخلافة لعبد الله بن محمد تورشين، القادم من أقصى غرب البلاد. وكان الأشراف، يرون أنهم الأولى بالخلافة بحكم رابطة الدم. فلا الدعوة المهدية، كدعوة دينية، ولا الدولة المركزية التي أنشأتها، استطاعتا أن تقضيا على القبلية. يقول ثيوبولد، أن الأشراف لم يكونوا راضين بخلافة الخليفة عبد الله. فأخذ كل خليفة يظهر استقلاله عن البقية. وكان كل منهم يتجول في أمدرمان في موكب عظيم باهر، وكأنه ملك، آمرًا بضرب نحاس حربه الخاص. (ثيوبولد، مصدر سابق، ص 209). وكان يفعل نفس الشي القائد المهدوي الزاكي طمل، بسبب ما أصاب من ثراء أثناء توليه إدارة منطقة القضارف. فكان حين يأتي إلى أمدرمان يخرج في موكب عظيم يحيد به خمسون حارسًا مسلحًا، (محمد سعيد القدال، المهدية والحبشة). ويواصل ثيوبولد قائلا: أما الخليفة عبد الله فقد أخذ يعتمد كليًا على رجال قبيلته، وكانوا مقاتلين شرسين، يكنون احتقارًا لأهالي النهر، ويبادلهم أهالي النهر نفس النظرة، (ثيوبولد، مصدر سابق، ص 207).
من غير إسهاب في التفاصيل، يمكن القول إن معظم زعماء كبرى القبائل السودانية، عارضوا المهدية. وقد أعدمت السلطات المهدوية، تقريبًا، كل زعماء القبائل الذين عارضوها، وحزّت رؤوسهم وجاءت بها إلى أمدرمان، وعلقتها على الأعواد، للعبرة. فكما سبق ذكره، أعدمت المهدية زعيمين من زعماء الكبابيش. وكانت قد أعدمت من قبلهم الفكي، المنا اسماعيل من قبيلة الجوامعة الذي ناصر المهدية، وأسقط حامية التيارة. كما أعدمت مادبو علي، زعيم الرزيقات، الذي ناصر المهدية في دارفور. وأعدمت المرضي أبوروف زعيم قبيلة رفاعة، الذي شارك المهدويين في حصار سنار. وأعدمت سبعة وستين من قيادات قبيلة البطاحين، بعد حربين طاحنتين معهم. كما قضت على عبدالله ود سعد زعيم الجعليين وخربت دياره في المتمة، وساقت نساء قبيلته سبايا، إلى أمدرمان. وقد أخذ سبي نساء المسلمين بواسطة المسلمين، يتواتر منذ الحقبة السنارية. وهذه واحدة من سمات العقل الرعوي الذي تبع قيم القبيلة وتجاهل قيم الإسلام.
أما زعيم الشكرية عوض الكريم أبو سن، سجنه المهدويين مع بعض قيادات فبيلته، بسبب هروب قسم من القبيلة إلى الحبشة، مبتعدين عن القبضة المهدوية. وقد بقي عوض الكريم أبو سن في سجن الخليفة حتى مات. أما زعيم الضباينة، محمود ود زايد، فقد جرى سجنه في أمدرمان، وأُطلق سراحه فيما بعد. غير أن قبيلته تضعضعت وضعفت كثيرًا بسبب الصدام المسلح مع المهدويين. أما قبيلة العبابدة التي كانت تعمل في الترحيل بين مصر والسودان، فقد عارضت الدعوة المهدية، لكنها، بقيت بمنأى من سلطة الدولة المهدية. إذ كانت كلما أحست بالخطر المهدوي، انسحبت إلى داخل الأراضي المصرية.
اتجه المهدي بدعوته إلى الرعاة، بعد أن عارضه شيوخ التصوف في السودان الأوسط، وعارضته المؤسسة الدينية السودانية، التي أنشأتها الخديوية. وقد قاد تجييش الرعاة، في نهاية المطاف، إلى قلب مركز الدولة، رأسًا على عقب. فالخليفة عبد الله، لم يعتمد في حكمه للبلاد، على السلطة الروحية للدعوة المهدية، وإنما على العصبية القبلية، التي أثارت عصبياتٍ قبليةٍ مضادة.
عمومًا، يمكن القول، إن القبيلة في السودان، لم تقبل سلطة الدولة المركزية، سواءً كانت حكما أجنبيًا، أو حكمًا وطنيًا، إلا على مضض. فعلاقة القبيلة بالدولة قامت، إما على المقاومة، أو على المراوغة والمخاتلة. كما يمكن القول إن تجارب الصدام المريرة والمدمرة للقبائل السودانية، مع الدولة المركزية، خاصة في فترة الحكم التركي والحكم المهدوي، قد علَّمتها كيف تحني رأسها لسلطة الدولة المركزية، وبأسها، اتقاءً لشرها. ولقد اهتدت القبائل، عبر التجارب، إلى أن في وسعهم أن يخدموا مصالحهم من خلال مداهنة الدولة والانخراط في بنيتها. نقل هذا التكتيك الجديد، الصراع من المجابهات المسلحة والعصيان الصريح، لسلطة الدولة المركزية، إلى التغلغل في بنيتها ونخرها من الداخل، من أجل الابقاء، ما أمكن، على الأوضاع القائمة.
ينبغي ألا ننخدع بالدولة المركزية التي أقامها الإنجليز وبسطوا سلطتها في كل ربوع السودان في الفترة الممتدة من 1898 و1956. هذه الدولة كانت نبتًا أجنبيًا جرى فرضه بقوة السلاح. وقد خرجت هذه الدولة المنضبطة مع مؤسسيها، يوم أن غادروا السودان. كمنت القبيلة طيلة فترة الحكم الثنائي (1898-1956)، وظهرت مع هبوب نسائم الاستقلال. فالسودان لا يزال في مرحلة القبلية تتحكم في مجريات أموره بنية العقل الرعوي. فالدولة الحديثة في السودان، لم تقم بعد. وهي لن تقوم إلا بعد أن ننجح في تفكيك وإزالة بنية العقل الرعوي التي لا تزال ممسكة لدينا بخناق كل شيء.
(يتواصل)
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.