قصدت اقتباس ( الوضوح المنهجي ) من عنوان كتاب للكاتب الماركسي الطيب تيزيني ( على طريق الوضوح المنهجي ) ليس تمشياً مع الموضة السائدة الآن في أوساط بعض الإسلاميين , ولكن حتى أدخل بسلاسة على مقال للكاتب المثقف عثمان جلال يستحضر غرامشي ومثقفه العضوي ، ويلامس الطبقية ، ويجعل لنا في التجربة الأوروبية ومخاضها الطويل بمراحله المختلفة أسوة حسنة . المقال في جملته دعوة للثورة ولعدم الخوف من الفوضى و لعدم الإستماع لبروباغاندا التخويف بالفوضى ، ومع هذا ابتدر الكاتب مقاله بالقول : ( منطق سقيم ومعتل ذلك الذي يفضل بقاء الدكتاتورية على الثورة الهادفة لاسقاطها خوفا من الفوضى لأن حالة الفوضى نتاج طبيعي للاستبداد والسكون على هذه الحالة ستؤدي إلى ذات الفوضى وبصورة أشد وانكى ) ، ولو تفحصنا العبارة نجدها تستخدم ذات المنطق ( السقيم ) الذي سفهته !! ، فالإستبداد هو سبب الفوضى وبقاؤه يؤدي إلى فوضى أشد ، إذن تعالوا لا نخشى الفوضى ونتوكل على تجارب أوروبا وعلى وعود (قوى التغيير) وننجز ثورتنا بفوضاها المؤقتة حتى لا نسقط في فوضى أشد وأنكى ! من الذي يستخدم منطق تخويف الناس بالفوضى هنا ؟! أهو الذي يقول لهم تعالوا نتحاور ونتفاوض ونحافظ على الإستقرار المتوفر ونمده ليشمل مناطق الفوضى التي تصنعها الحركات ونحل كل مشاكلنا أم الذي يقول للناس إن لم تثوروا وتصنعوا الفوضى الصغرى ستقعون في أختها الكبرى ؟! تحدث الكاتب عن (أصحاب العقلية الإستبدادية والطبقة الطفيلية وأصحاب الذهن المتكلس ) الذين اتهمهم بأنهم يقفون وراء (البروباغاندا والدعاية) الهادفة لتحجيم المجتمع (من الإنتهاض والثورة) بذريعة الفوضى التي عاد وأكدها هو بنفسه في نهاية المقال بقوله : ( مع التأكيد أيضا أن مسيرة التغيير في انتفاضتها وانتهاضتها لابد أن تمر بحالة فوضي وانحرافات ومنحنيات وازقة،، وهذه ثمرة طبيعية للاستبداد ولكن حالة الفوضى لن تستمر وستتم محاصرتها من قبل مشروع قوى التغيير والذي جوهره الحرية والكرامة ودولة القانون )! . إذن الإختلاف بين من يشنع عليهم وبينه ليس حول حدوث العنف والفوضى وما إذا كان مجرد دعاية وبروباغندا صنعوها هم أم قدر حتمي الوقوع ، بل هو حول كونهما ثمناً مقبولاً لإسقاط النظام أم لا ، وحول قدرتهما على إسقاطه . فالمقال لم يفعل شيئاً سوى القول بأن العنف والفوضى حتميان، وأن ( قوى الإستبداد ) هي المسؤولة عنهما وأنهما ثمن معقول ومقبول للتغيير . مع الوعد بأن (قوى التغيير) ستحاصر حالة الفوضى ، هذا الوعد بشكله هذا هش جداً لأنه لا يعد بعدم وقوع الفوضى ابتداءً ، ولأن سقفه الأعلى هو معالجة ومحاصرة لاحقة لحالة الفوضى الأكيدة حسب الكاتب ، ولأنه يعد بمعالجة الفوضى الأكيدة بالمعالجة المحتملة المبنية على تصور رومانسي رغبوي أكثر منه واقعي عملي يتعلق بتصور محدد لكيفية سيرورة الأحداث وقتها وكيف أنها ستنتهي بحسم سريع أكيد لأحد أطراف الفوضى ، والمبنية أيضاً على صورة مثالية ل ( قوى التغيير ) كرسل للحرية والكرامة ودولة القانون ! ، الأمر الذي يجعل المقال بجملته يحمل الوعيد أكثر من الوعد ، فلا الجمهور بأغلبيته مستعد للفوضى من الأساس ولا القطاع القابل منه لقبول مثل هذه المرافعة عن الفوضى قد وجد وعداً قوياً بما فيه الكفاية ليطمئنه بأن حالة الفوضى عابرة وستزول بسرعة ، لأن الكاتب لم يعدهم بشئ يقوم بالمعالجة اللاحقة لحالة الفوضى سوى حديث موغل في التنظير البارد عن بدهية التعارض بين حالة الفوضى وشعارات قوى التغيير ! وفوق ذلك لأن الكاتب الذي طلب من المثقفين والجمهور التحلي بشجاعة دفع الثمن وعدم الخوف من الفوضى ، لم يمتلك هو نفسه شجاعة تعريف ( قوى التغيير ) التي يتحدث عنها ، والتي ستكون (شعاراتها) هي العاصم من استمرار الفوضى ! فالمقال ينقصه تعريف لقوى التغيير هذه حتى يرى الناس إن كانت فعلاً مؤهلة لحسن الظن ، وتنقصه أيضاً مرافعة عن أصالة هذه الشعارات لدى قوى التغيير وعن تجذرها بحيث تكون هي الترياق الأكيد الذي سيعالج الفوضى بعد أن ساهمت فيها بدعوة الناس إلى عدم الخوف منها وإلى خوض غمار تجربتها ! من أجل الوضوح أكثر ولأن الكاتب يتحدث عن ( المثقف العضوي الحر هو الذي ينتج فكرا وحراكا يوائم بين عبر التاريخ وفرضيات الواقع وسياقاته لابتداع أفكار وممارسات لإنجاز التغيير الذي يكرس لقوامة ومرجعية المجتمع في الحكم ) ، فإنه كان ينبغي للكاتب -كمثقف عضوي - أن يحدّث المجتمع مثلاً عن مكان الحركات المتمردة بين قوى التغيير ، فهي الآن تصنع الفوضى في الأماكن التي تتحرك فيها ولا أظن أن عاقلاً يقول بأن نموذج الفوضى المصغرة هذا يغري الجماهير وإلا لشاهدنا أفواج الفارين من ( الإستبداد )إلى (المناطق المحررة ) حيث تحكم بعض قوى التغيير و تقدم نموذجها في حكم الشعوب لنفسها ! ، وهي الآن تحتجز مئات الآلاف في مناطق سيطرتها وتساوم بهم ، وتحيل حياتهم إلى جحيم إلى الدرجة التي جعلت إغاثتهم هي المهمة الأعجل وفي ذات الوقت هي المهمة القابلة للتأجيل وراء التأجيل لأن قادة الحركة يرون بأن 20٪ من الإغاثة لا بد أن تأتي مباشرة من الخارج حتى لو التزمت حكومة السودان بتوفير كل مواد الإغاثة من الداخل ! ، ولا مجال هنا للحديث عن أن الكاتب ليس مخولاً لتحديد قوى التغيير فما دام لم يعدم الوضوح الكامل في تحديد خياراته وفي تسويق مشروع الثورة ولو في ظل الفوضى ، فإن صاحب الخيارات المصيرية كهذه عليه أن يكون في قمة الوضوح فالأمر ليس (نزهة في غابة السرد) البارد للأفكار الصدامية العنيفة ، بل هو مصير أمة بكاملها ، فالسؤال هنا إن كانت قوى التغيير تتضمن الحركات : ما هو دور سلاح الحركات في مرحلة (الثورة) وفي مرحلة معالجة الفوضى ؟ وهل أصلاً تمتلك حركة الإصلاح الآن شجاعة القول بأن الحركات المتمردة ضمن قوى التغيير أو شجاعة القول بأنها ليست كذلك ؟ وحتى لو امتلكت شجاعة عدم اعتبار حركات التمرد من ضمن قوى التغيير التي تساهم في ( التكريس القوامة ومرجعية المجتمع في الحكم ) فما الذي تقترحه للجم سلاحها الفوضوي وقت (الثورة) ، فالحديث عن أنهم سيصلون معها إلى تسوية ( عادلة ) سيكون مجرد ثرثرة لا معنى لها في ظل الفوضى التي تغري مالك السلاح بالسيطرة الكاملة . هذا إضافة إلى حالة التشظي والخلافات التي تضرب كل تحالفات المعارضة ، وحالات الغيرة والتنافس والضرب تحت الحزام بين بعضها البعض ، وتحالف قوى المستقبل نفسه لا يخلو من ذلك ، وحركة الإصلاح نفسها لا تحظى بالقبول في بعض تجمعات (قوى التغيير) ! بدلاً من إعادة اختراع العجلة والتكرار لأفكار قيلت بصيغ وقوالب مختلفة منذ أن كان معظم قادة حركة الإصلاح ليسو في حالة تعايش اجباري خوف الفوضى مع ما يسمونه الآن بقوى الإستبداد ، بل أعداء صرحاء ل(قوى التغيير) ، بدلاً عن ذلك ، كان الأفيد للحركة أن تقوم بمثقفيها ( العضويين ) بنقد تجربة قياداتها في الحكم ، نقد حقيقي يسائل الذات ويحاسبها أكثر من أن ينشغل بالدفاع عنها والهجوم على الآخرين ، وأيضاً كان يمكنهم أن يرفدوا الساحة الفكرية بتنظيرات قيمة عن الأسباب والديناميات الخفية التي تجعل الكثيرين يؤيدون النظام الذي يصفونه ( الآن !) بالإستبداد . على الأقل هم يرون أنهم أهل مبادئ وموضوعية وفكر ونزاهة ،وقد استمروا لحوالي ربع قرن في تأييد النظام ، إذن هناك من الأسباب غير ( الطبقية الطفيلية والعقلية الإستبدادية ) تجعل الكثيرين من أمثالهم يؤيدون النظام ولفترات طويلة ، عليهم إذن أن يبحثوا في دواخلهم عن هذه الأسباب ويفككوها ويضعوها أمام الناس ويثبتوا تهافتها في نظرهم (الآن) ، وأن يقبلوا دفع الثمن اللازم ، إما اعترافاً بالسذاجة والغفلة طوال هذه السنوات ! أو اعترافاً بأن هناك غير الطفيلية والعقلية الإستبدادية ما يدعو الناس إلى تأييد النظام ، ولا أظنه ثمن كبير إذا قارناه بالثمن الذي يهون منه الكاتب ويحرض الجماهير على دفعه . فالتعايش مع الإستبداد الذي تتحدث عنه الحركة والذي عنون الكاتب به مقاله هو قبل أن يكون عنوان المقال هو العنوان الكبير لمسيرة معظم - إن لم يكن كل- قادة الحركة إن سلمنا لهم جدلاً بوصف النظام بالإستبداد ، ولذلك هم مدعوون أكثر من غيرهم للتنظير حول آليات اشتغال (الإستبداد) واحتلاله لبعض العقول النيرة ( كعقولهم) لفترات طويلة . وهم مدعوون أيضاً لتوضيح لم اختاروا شعار الإصلاح وهو في التحليل النهائي نقيض الثورة رغم أنه يرفع بعض شعاراتها ، فالإصلاح دعوة لتجنب الثورة ومسبباتها ، والإصلاح كإسم تتسمى به الحركة يجعل صلتها بالنظام أكبر من غيرها ، لأنه بدأ كشعار داخل الحزب الحاكم وما خرج دعاته مستقيلين بل مفصولين. أو بأوامر من قيادة (الحراك الإصلاحي) بالداخل حسب تصريحات الحركة ، ولأن الحزب الحاكم يتبنى الإصلاح كشعار ويضع له الخطط التي يجري تنفيذها . والحقيقة أن إسم (الإصلاح الآن) يرتبط بالنظام بشكل يتعذر فصله منه ، فهو يصلح فعلاً لتيار داخل حزب حاكم ، ينادي بإصلاح الحزب والدولة ، ويسوق لأفكاره بين العضوية وصولاً إما إلى نجاح الضغط وتنفيذ شعاراته بواسطة القيادات المتهمة بمعاكسة رغبات الإصلاح ، أو اتساع دائرة تأيبد الإصلاحيين ووصولهم إلى القيادة وتنفيذ شعاراتهم ، كما حدث في إيران مثلاً ، فالإصلاح كتسمية وشعار بالنسبة لحزب معارض ينطوي على سيولة دلالية ، فإسم الحزب يترتبط بآخرين هم الحكام يٰطلٓب منهم الإصلاح وتُردٓف ب(الآن) في لهجة مطلبية أو آمرة لا فرق، ولا يحمل روح الوعد الخاص الذي يعبر عن فكر الحزب بعيداً عن الآخر المراد إصلاحه ، وكلمة الآن تحمل نوع من ( السكون ) الذي أتى الكاتب على ذكره من باب الهجاء ، فالزمن يمضي ومياه كثيرة جرت وتجري تحت الجسر و الحركة تأمر أو تطلب ب(الإصلاح الآن) . هذا الإسم يحتاج إلى مذكرة تفسيرية تضع مدى زمني للآن ، رغم ما ينطوي عليه ذلك من مفارقة ، ولكن لأغراض الوضوح المنهجي أيضاً كان عليها أن تحدد الآن المعني ، أهو أوان أول المفارقة أم هو آن ممتد بإمتداد الحاجة إلى الإصلاح وهي حاجة أبدية ؟ ، والإسم يحتاج في الجهة المقابلة النقيضة - لكي يستوعب مثل مقال الأستاذ عثمان جلال - إلى ( أو ) ليصبح ( الإصلاح الآن أو الثورة ) مما يلغي فكرة الأبدية التي احتملتها طاقة الإسم الدلالية في صيغته الأصلية . والإسم فوق ذلك يثير غضب مجموعة من (قوى التغيير) المحتملة بتواضع سقوفاته حسب وجهة نظرهم ، ومعهم حقك فمناهج الثورة بالتأكيد غير مناهج الإصلاح ! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.