مشروع الدولة الوطنية فى السودان مازال يمر بمخاض عسيرة ومحطات صعبة عبر حقب تاريخية طويلة ولكن المدهش فى الامر ان المفتاح السحرى لكل المراحل هى المواطنة الحقيقة ولربما اصبحت الموطتة والوطن والوطنية كلمات لا عمق لها فى نفوسنا بسبب الممارسة غير المسئولة التى لازمت العهود التاريخية يقصد او بدون قصد وهما سيان لان المحصلة واحدة وهى ان نضيع المشروع الوطنى بضياع الانفس والموارد ولربما هيانا الظروف الموضوعيةللاستعمار او التدخل الاجنبى. اليس بالجدير ان نقف ان محطات تاريخية عسى ان نستلهم منها العبر ففلسفة التاريخ انها تذودنا بالعوامل والسببات التى تفسر النتائج القاء الضوء على المكون الوجودى (الحاكم والمحكوم و الارادة الاجنبية). ولكن تظهر معضلتان للبحث التاريخى وهى ان:- *التاريخ السودانى غير محقق او موثق سواء القديم او الحديث مما يجعل من العسير الوصول الى الاحداث الحقيقة وفق سياقها التاريخى ولان التطور فى مجال سواء الصناعى او الثقاقى يحتاج الى التجارب السابقة لتكون قاعدة انطلاق لمشروع التحديث. * التاريخ السودانى به من التزييف المتعمد والجب والغير مبرر بل يصل الحد الى ان تصادر الوثائق القومية لانها تحكى عن ممارسة لربما اساءت الى حزب معين وما علموا ان الامانة غائبة عن ذلك الفعل. علينا ان نقف عند بعض المحطات نستلهم منها بعض العبر. المحطة الاولى :- دولة الفونج:- وليس الوقوف فيها بدافع القاء الوجود الثقافى للدولة السودانية لما قبلها ولكن لان البناء الحضارى قد توقف امد بعيد فيما فبل دولة الفونج والتى كانت مشروعا للدولة السودانية وذلك للاتى: امتلاكها الى دين مقدس يرسم حياة الناس ويربطهم بغايات متفق عليها وهناك فلسفة صوفية مقنعة نابعة منه. هناك لغة بمكن ان تؤسس الى تلاقى فكرى ومزاحى بل على محيط اشمل. ارض زاخرة بالخيرات اى موارد طبيعة تحكم لا مركزيا. عند دولة الفونج قام مؤسسوها على جعل السودان ارض الخير الدنيوى والاخروى وهذا ما يظهر جليا عند حادثة قدوم الشيخ البهارى . عندما الشيوخ السناريون فى مكة الشيخ تاج الدين البهارى الى القدوم دولة سنار او السودان الحالى وجاء الى البلاد وترك لنا رسالة عميقة المعنى فى حادثة (اعطاء الطريق للمريديين) وفى ( اول خطبة له فى السودان). فيما انه صرح على راس الملا الذين اتوا اليه لاخذ الطريق الصوفى انه لا احد يستطيه ان ياخذ الا من ارتضى ان يقبل ان يزيح ثمنا الى اخلاصه وكانه يستزكر – كانه يستزكر الاية التى مهناها تمنوا الموت ان كنتم صادقين – فلم يتقدم احد . الا الشيخ ود الصادق والشيخ الفضلى الجعلى ودخل كل واحد منفردا مع الشيخ البهارى فى مكان بعيد الانظار و خرج ملطخا بالدماء امام الناس بين الدهشة والرهبة ونادى بصوت عالى هل من اناس يريدون اخذ الطريق ولم يتقدم احد . عندها نادى الشيخ البهارى على الشيخ ود الصادق والشيخ الفضلى الجعلى وامر باحضار الكبشين –مصدر الدماء- وامرهم بان ياكلوا منهم وقال لهم ( اديدكم الطريق وبكرة سوف تلدون البلد عكبم بالاخلاص وكفى). وفى اول خطبته أسس لمفهوم المواطنة بحسب تعبيرنا اليوم قال ( علينا أن نعمر الأرض لتكون البلاد خير بلاد لأهلها الزنج والعرب ولا يجب علينا أن نحمل فيها مرارات الماضي والتظالم ، فهي بمتسع لكل الناس - أعبدوا الله في هذه الارض وأخلصوا لله تخلص لكم أرض الله ) . المحطة الثانية التركية السابقة : ولكي تتضح عوامل الانهيار للدولة السودانية السنارية اللا مركزية لابد من النظر الى حال الحاكم والمحكومين ومجريات الاحداث الخارجية . حال الحكام في صراع بين ملوك الاسرة المالكة فتارة حاكم يشد على الناس يقهرهم وأخر يترك الححبل على القارب وكانوا في ىخر عهدهم ملوك عظام بهيبة مصطنعة وقوة خائرة لاصوارم هندية ولا خيول ادهمية ، لايستطيعون حماية الارض والأمن الوطني . والممالك مشغولة في صراع أبناء عمومتها على السلطان أو المكوكية ( والمثال أن من تصدى للجيش التركي المك نمر الذي خرج هو من حرب منذ أعوام قتل فيها ألاف الرجال من أبناء عمومته السعداب )اذن الأمن الوطني وحماية الأرض مختزل عند البطون لاحتى القبيلة كلها ، وهذا مثال لكل الممالك . أما حال المحكومين فهم بين التنازع القبلي وبين المتكأ الصوفي رغم ما للحركة الصوفية من الفضل الأجزل في نشر الدين والتهذيب بين الناس إلا أن المكون المحلي جعلها تدور في فلك التيسير المخل في البساطة مما أدى الى التدهور الفكري ولربما التاريخ المذهبي وما أداه الخلاف من فتن جعلت الشيوخ يرتكنون الى التبسيط وحسب الناس بالفقه ( مختصر الخليل - ومختصر الرسالة ) وجعل الناس حل القضايا للأولياء أو المهدي المنتظر . ومجريات الأحداث العالمية بعيدة عن أذهان الحكام والمحكومين والتنافس الدولي وميزان القوة والدول المستعمرة وحساباتها غائبة عن الشان السناري وليس هناك أدنى استراتيجية للدفاع الوطني لذلك جاء الاستعمالار وتحت ابطه سيف النصر وسقطت الدولة السنارية . المحطة الثالثة الدولة المهدية : أصبح الحكم التركي عبئا لا يطاق على كاهل الشعب السوداني في حريته الغير مؤطرة في شكل دولة مركزية لاتعرف سوى الجبايات بقوانين صارمة ومهينة تتقاطع مع النفسية السودانية التي تكره التسلط وترفض الإنحناء . جاء محمد أحمد المهدي ليشكل الرأي العام السوداني ويحقق أشواق الدولة الوطنية والحكم العادل وينجح الإمام في نضاله لتحرير السودان . ولكن العهد التعايشي قد ضرب المشروع الوطني في مقتل ، فقد فرق الناس بعد أن اجتمعوا وذلك بالإقصاء والعنف والإرهاب الفكري وأسس الى جهوية عرفت ( أولاد البحر وأولاد الغرب ) . والحال عند المحكومين مزيد من البطش والحملات بعرض البلاد للتأديب والجهادية يطيحون بالبلاد مما أهلك البلاد في الأنفس والموارد ، وفتحت حروبات مع دول الجوار لم تزد البلاد إلا عنتا ، فصار حال السودانيين مزيدا من الإنهاك والفتن وضيق العيش ومظالم في نفوس الناس ومجريات الأحداث العالمية ترسم خطط وتنظر الى السودان كجزء من استراتيجية استعمارية ، والتعايشي كشغول بتجريداته الداخلية بعد أن اصيبت الجبهة الداخلية بالتفكك ، فعندما جاء المستعمر الستحال الدفاع الوطني ، فالناس ما بينم قتال المستعمر وأماني الخلاص من المهدية ومظالمهم ( يالنقز يالترك ألفونا ) وجاء الإستعمار للمرة الثانية وتحت إبطه سيف النصر و سقط السودان . المحطة الرابعة دولة الاستقلال : بعد أن ورث الاستعمار السودانيين الدولة وتمت مرحلة السودنة والاستقلال بنجاح ولكن لم تنجح القوى السياسية في : * صياغة المصالح العليا للبلاد عبر دستور دائم بدوام المصالح المشتركة الوطنية .* تنازعت القوى السياسية بافق مصالح حزبية ضيقة وأتت بأساليب عرضت البلاد واستقرارها واقتصادها واستباحت البلاد للنقلابات العسكرية التي وئدت التقدم الديمقراطي * تصرفت القوى السياسية بإختزال مصالح البلاد عبر مصالحها الضيقة بل لم تعترف بمصالح الأقلية مما فتح باب التمرد الذي كان واحدا من أسباب التدهور الاقتصادي والاجتماعي للدولة السودانية وتكررت دائرة الحكم الديمقراطي ثم الانقلاب العسكري التي أسست الى نتائج كلية هي : إشاعة فقه التظالم والغبن مما حرك الفتن ودعاوي الانفصال * فقدت المصداقية السياسية التي تؤسس الى ارساء قيم اجتماعية وقيادة المجتمع .* التدهور التنموي و ضعف الخدمات الضرورية والمستوى المعيشي المتدهور .* تراجع مفهوم الدولة الراعية للمواطن وأمنه والالتجاء الى الجهوية والقبلية لتسد مكان الدولة ، فما الدولة الا بناء فوقي لاأثر لمواطن فيها .* العزلة ما بين الحاكم والمحكومين ( أزمة تأييد ) كل في هم يسبحون حتى أصبحت المشاركة في الحكم تعني الأحزاب في شخوصها ليس أكثر . والعالم ودوله الكبار صاروا يعرفون ثروات السودان و أراضيه وخاماته ومياهه أكثر من أهله يزكون فيه الفتن ويأتون عند الاتفاقيات كالمشفق المحتال وهم يرون في السودان مخزنهم الاستراتيجي لأجيالهم القادمة ، يجعلون أنفسهم أوصياء ومانحين لإتفاقيات لعلموا أنها قد تصبح واقعا نافعا لأهل السودان لما دعموها . كان وما يزال واجب كل وطني شريف أن يخلص للوطن وأن نخرج معا بعزم صادق من أجل الوطن لا من أجل الحزب أو النفس أو المال حتى نترك ولنا لأجيالنا القادمة وطن الذي لايبنى الا بالرجال العظام المخلصين .