في عام 1960، وانا في السنة الثالثة في مدرسة وادي سيدنا الثانوية، بدات كتابة مذكرات يومية. لم تكن منتظمة، وكانت تتوقف شهورا. واحيانا سنوات. لكن، تستمر حتى اليوم. بعون من الله. يوجد بعضها في مفكرات مكتبية، وبعضها في مفكرات جيبية، وفي عصر التكنولوجيا الحديثة، في الكمبيوتر. ليست هذه اشياء شخصية، بقدر ما هي مواضيع وقضايا وطنية (مع اضافات، وبتصرف): اولا: سنوات وادي سيدنا الثانوية (قروى في المدينة. مدرسون بريطانيون. مظاهرات ضد دكتاتورية عبود). ثانيا: سنوات جامعة الخرطوم (اسلاميون وشيوعيون واشتراكيون. ثورة اكتوبر. نفاق الصفوة). ثالثا: سنوات جريدة "الصحافة" (عرب او افارقة؟ مع الشرق او مع الغرب؟ تقليديون او علمانيون؟ مدنيون او عسكريون؟ رجال او نساء؟ شماليون او جنوبيون؟ حرية او لا حرية؟ المجئ الى امريكا). ------------------- 21-1: فول "نواي"، مرة اخرى: بقيت داخلية "الداخل" في المدرسة يومي الخميس والجمعة، مع الذين لا يذهبون الى العاصمة. (تذهب كل داخلية من الداخليات الخمس الى العاصمة كل خميس وجمعة). وتذكرت مجموعة الاصدقاء (عبد الله، وعبد الفتاح، وعبد المنعم، وادريس، وانا) ان زجاجة السمن البلدي، هدية والدة عبد الله له مع نهاية الاجازة، فيها باقي سمن. وقررنا العودة الى عشاء فول "مدنكل" في نادي عمال مدرسة وادي سيدنا (في قرية وادي سيدنا، غرب المدرسة). كان العشاء هناك مثل "ترفيه"، ومثل "تمرد"، على الاكل في غرفة الطعام العملاقة في المدرسة، حيث القوانين "البريطانية" الصارمة عن الاكل، والكلام، والنظام. (اتذكر غرفة الطعام كلما اشاهد افلام "هاري بوتر" البريطاني، الطالب في مدرسة "هوقوارتز") رحب بنا، مرة اخرى، "نواي"، صاحب النادي. هذه المرة، جلس، وتونس معنا. قال انه من بابنوسة، في غرب السودان. وتذكرنا دروس الجغرافيا في المدرسة الاولية. تذكرنا كتاب"اصدقاؤنا في السودان." تذكرنا زيارات خيالية لتسعة اصدقاء في مختلف مناطق السودان. (كان الهدف من هذه المقررات هو معرفة نوع الحياة في كل منطقة، بمرافقة كل صديق). كان الاصدقاء هم: صديق عبد الرحيم (القولد، الشمالية). محمد القرشي الحسن (ريرة، البطانة). سليمان محمد عثمان (الجفيل، دارفور). محمد الفضل (بابنوسة، كردفان). منقو زمبيري (يامبيو، الجنوب). حاج طاهر (محمد قول، شرق السودان). احمد محمد صالح (ودسلفاب، الجزيرة). عبد الحميد ابراهيم (عطبرة). ادريس ابراهيم (امدرمان). استغرب نواي، وهو يستمع لنا نتذكر جولتنا الخيالية في بابنوسه، مع صديقنا محمد الفضل، وكاننا زرناها فعلا. واستغرب اكثر عندما انشدنا نشيد زيارة بابنوسة. (حفظنا، في نهاية،كل رحلة خيالية، نشيدا عن المكان الذى زرناه). ---------------------- "صاحبي ابن الفضل": انشدنا كلنا بصوت واحد: . "ومرة بارحت دار اهلي. لكى ازور صاحبى ابن الفضل. وجدته واهله قد رحلوا. من كيلك، وفي الفضاء نزلوا. في بقعة تسمى بابنوسة. حيث التقوا ذبابة تعيسة." سالنا نواي عن "الذبابة التعيسة"، وقال ان هناك كثيرا من انواع الذباب، خاصة في فصل الخريف. وسالناه عن حياة "الغرباويين" (او "الغرابة)، لاننا لم نكن نعرف كثيرا عنهم. عرفت انا بعض "الغرباويين" في ارقو، حيث ولدت وتربيت. كانوا يعملون في قسم الصحة، الذي انتقل اليه والدي مسئولا عن العمال. (بعد ان ترك حياة البادية، وعائلته العربية الكباشية، ومهنة نقل البريد بالابل). في ذلك الوقت، كنا نصف الناس اوصافا عرقية، او قبلية. لكن، بطريقة ودية (بهدف التعريف، لا بهدف الاساءة). كان هناك "الغرباوي" و"الدنقلاوي" و "العربي" و "الفلاحي"، الخ ... سالنا نواي عن انفسنا. سمانا دناقلة (لاننا من منطقة دنقلا). وحسب معلوماته، قال اننا "رطانة" (نتكلم لغة الدناقلة). استغربنا لهذا الوصف. لماذا جمعنا في وصف واحد، رغم وجود اختلافات بيننا؟ ولماذا قال اننا "رطانة"، رغم ان اكثرنا لا يتكلم "الرطانة"؟ -------------------- "ستيريوتايب": (تعلمت، عندما كبرت، كلمة "ستيريوتايب"، الصورة النمطية. ظاهرة طبيعية وسط الناس. بسبب قلة معرفتهم بالاخرين. لهذا، يجمعون الاخرين في بوتقة واحدة. يكون هذا الجمع سلبيا اذا القصد هو الاساءة او الاذى او القتل. ويكون ايجابيا اذا القصد هو الاشادة. مثل ذكاء اليابانيين، رغم ان كل اليابانيين ليسوا اذكياء). قال عبد الفتاح انه دنقلاوى، وفخور بدنقلاويته. لكنه عاش سنوات في مصر مع خاله. ولهذا، ليس فصيحا في اللغة الدنقلاوية. وقال عبد الله انه دنقلاوى "اصيل." ويتحدث الدنقلاوية احسن من عبد الفتاح. وفاجأنا كلنا عندما قال: "اي اوقجي دجي هميسكى نواي اقاركي." استغرب نواي لانه سمع اسمه في الجملة. واسنغربنا نحن. وسارع عبد الله، وترجم ما قال: "نحن خمسة رجال جئنا يوم الخميس الى مكان نواي." وتنفسنا كلنا الصعداء. وقال نواي لعبد الله، فى ود: "علمنى كلام الدناقلة." واكتفى عبد الله بالتحية الدنقلاوية:"سرن اقمن". وقال ادريس انه شايقي ابا واما. انتقل والده ووالدته من بلاد الشايقية الى بلاد الدناقلة. انتقل الى مشروع البرقيق الزراعي الكبير (شمال ارقو)، عندما اسس البريطانيون المشروع في اربعنيات القرن الماضي. واشار ادريس الى شلوخ الشايقية على خديه. ولاحظ نواي: "دية شلوخ شايقية صحيح." وقال ادريس ان والده ارسل له خطابا، وقال فيه ان دنقلاويا يريد زواج اخت ادريس. لكن، يريد الوالد ان يتزوجها شايقي. وقال ادريس انه ارسل خطابا الى والده، قال فيه: "يا ابوى، نحن زمان ما خلينا بلاد الشايقية. وبعدين، الدناقلة مالهم؟" وتندر عبد المنعم، من دنقلا (جنوب ارقو)، وسال نواي ضاحكا: "مش شايفنى انا فلاحي؟" قصد انه من سلالة مصريين هاجروا الى شمال السودان في القرن التاسع عشر، واستقر عدد كبير منهم في ارقو، ودنقلا، ومروى، وشندى. وقال: "يسموننا حلب، ويسموننا اولاد الريف، ويسموننا فلاليح (جمع فلاح)." ولاحظ نواي ان عبد المنعم يميل نحو اللون الابيض. وقال: "زى لون الخواجات." ورد عبد المنعم، مستنكرا: "لا، لا. ما تلمنى مع الكفار." واضاف: "انا ما دنقلاوى، لكن عندى قريبي متزوج دنقلاوية. الدناقلة احسن ناس." ----------------- من انا؟: وجاء دوري. وقلت انا لست دنقلاويا (والدي عربي كباشي، ووالدتي من البديرية). لكنى ولدت في بلاد الدناقلة. وتربيت معهم. ومدين لهم بحسن معاملتهم لعائلتى "الاجنبية." وفخور بهم. وبالانتماء الى منطقتهم. والتفت نحو عبد المنعم "الفلاحي"، وقلت اننى مدين، ايضا، لسلالة المهاجرين من مصر. وان "فلاليح" ارقو هم الذين جلبو الحضارة الى ارقو، والى المناطق القريبة منها. بنى تجارهم الاسواق، واستوردوا البضائع، واشتروا شاحنات تنقلها من الخرطوم. وادخل مزارعوهم (احفاد صعايدة مصر) طريقة الرى الميكانيكي ("الدونكي") بعد ان كان الناس يستعملون السواقي، ربما منذ ايام الفراعنة. وساهموا في بناء اول مدرسة اولية في المنطقة (بناها البريطانيون عام 1910). ثم اول مدرسة متوسطة في المنطقة (بنوها هم عام 1954). هاتان هما المدرستان اللتان درست فيهما. وتندرت: "لولا الفلاليح، كنت الان ارعى الابل." مع نهاية العشاء والونسة، عاد نواي الى مطبخ النادي، وعدنا الى داخلياتنا. تندرنا على "الغرباوى" الذي سمانا كلنا "رطانة" و "دناقلة." وقال واحد منا: "ربما تندر نواي مع ابنه (يعمل معه فى النادي) على "الرطانة" الذين سموه "غرباوى." كانت الزيارة ودية، وكان الحديث طيبا. عدنا، بعد ذلك، مرات كثيرة الى مطعم نواي. وصار يقول: "الدناقلة جونا الليلة." وصرنا نقول: "الغرباوي، جهز الفول." في ود، وفي حسن نية. -------------------- الغرباويون وانا: لم اعرف غرباويا في مدرسة وادي سيدنا. وذلك لان اكثرهم كانوا يذهبون الى مدرسة حنتوب الثانوية (قرب الابيض). وعرفت، وصادقت، غرباويين في جامعة الخرطوم. لكن، كنا كبرنا، وصرنا نتحاشا وصف بعضنا البعض بالاوصاف القبلية (ما عدا وقت التندر، وفي ود). خلال وجودي في الولاياتالمتحدة، عرفت، وصادقت، غرباويين. لكن، اختلفت مع بعضهم بسبب ما تسمى "مشكلة دارفور". وذلك لأنهم: اولا: يتعاونون مع السياسة الخارجية الامريكية (التى لا تريد الخير للسودان، ولا للمسلمين، ولا للعرب). ثانيا: يخونون الوطن الام (بعد ان جاءوا الى الوطن الذي تبناهم). ثالثا: ينافقون بالعيش في بلد الحرية والرفاهية، ثم ينتقدون الذين يعيشون في السودان. رابعا: يركزون على الحل العسكرى (وهم يعيشون في بلد الحلول السلمية للمشاكل الداخلية). اتذكر الدناقلة والغرباوي في مدرسة وادي سيدنا الثانوية، والاحظ قول بعض الناس ان التركيز عن القبلية في السودان يهدد الوحدة الوطنية. لكن، يقول اخرون، وانا منهم، ألاتي: اولا: يحتاج الشخص لان يفتخر بنفسه، وعائلتة، وقبيلته، ووطنه، ودينه. ثانيا: يعرقل انكار وجود مشكلة البحث عن حل لها. وربما لا تكون مشكلة، بل حكمة: الاية: "انا خلقناكم شعوبا وقبائل، لتعارفوا ...". طبعا، لا توجد في الولاياتالمتحدة قبائل. لكن، توجد تقسيمات عنصرية واثنية. لكن، يحاول الاميركيون، في ظل الحرية، التعايش بين هذه التقسيمات. (يمكن اعتبار ميل كثير من البيض نحو الرئيس الجمهوري دونالد ترامب جزءا من موازنات وترتيبات تاريخية، وستظل مستمرة). يفتخر كل امريكي بنفسه، وعائلته، وخلفيته، ودينه، وانتمائه. ويتندر الاميركيون على "البولندي الغبى" و "النيويوركي الفوضوى" و "اليهودي البخيل" و "الافريقي الكسلان"، و حتى "المسلم الارهابي." اخيرا، بعد اكثر من 50 سنة، تذكرت نواي، وفوله، وبلدته بابنوسة. وبحثت عن "بابنوسة" في قوقل. ووجدت هاشم بابنوسة يغنى: "بقاريه، نبع الحنان يا بنيه. سودانيه، ست البنات يا بنيه." تماما، لا يوجد تناقض بين الافتخار بالقبيلة والافتخار بالوطن. ================= (الحلقة الثالثة: اول مقابلة صحفية مع خواجه) ================= عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. MohammadAliSalih.com Facebook/Mohammad Ali Salih