شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    دورتموند يسقط باريس بهدف فولكروج.. ويؤجل الحسم لحديقة الأمراء    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    واشنطن: دول في المنطقة تحاول صب الزيت على النار في السودان    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصور.. المودل والممثلة السودانية الحسناء هديل إسماعيل تشعل مواقع التواصل بإطلالة مثيرة بأزياء قوات العمل الخاص    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    طبيب مصري يحسم الجدل ويكشف السبب الحقيقي لوفاة الرئيس المخلوع محمد مرسي    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    الى قيادة الدولة، وزير الخارجية، مندوب السودان الحارث    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فلوران لم يخلق من فسيخ النهضة شربات    رئيس نادي المريخ : وقوفنا خلف القوات المسلحة وقائدها أمر طبيعي وواجب وطني    المنتخب يتدرب وياسر مزمل ينضم للمعسكر    عائشة الماجدي: دارفور عروس السودان    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    الحراك الطلابي الأمريكي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الأرشيف البرليني: السودان نموذجاً للصراع بين الدولة والثقافة (1/2) ..عثمان سعيد (جامعة برلين الحرة) .. تقديم ومراجعة د. حامد فضل الله /برلين
نشر في سودانيل يوم 17 - 12 - 2016

هذا الموضوع عبارة عن رسالة (أطروحة) تقدم بها عثمان سعيد لقسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية / جامعة برلين الحرة / ألمانيا في فبراير 2002، للحصول على دبلوم عالي في علم الاجتماع. ينقسم البحث إلى تسعة فصول ويحتوى كل فصل على مجموعة من الموضوعات.
في الفصل الأول يشير الباحث إلى مشاكل منطقة القرن الأفريقي المتعددة والمعقدة والتي يصعب حصرها في سياق واحد لتشعبها. ويشير الى أهمية الموقع الجغرافي والسياسي وتعدد الثقافات والاقتصاد إلى جانب الهجرة والتطورات السياسية داخل كل بلد وكذلك العوامل المناخية والبيئية وعلاقات ذلك بالتدخلات الخارجية العالمية والتي يرتبط جزء منها بالاستعمار وصراعاته على حساب شعوب هذه المنطقة ومصالحها التي دفعته إلى ترسيم الحدود وضم أو عزل مجموعات عرقية أو إثنية مختلفة بطريقة اعتباطية وأحيانا قسرية داخل وخارج حدود الدول المصطنعة، مما أدى إلى نشوء عواقب وخيمة على التطور الاقتصادي والسياسي والثقافي والبيئي.
أن الصراع بين الدولة والثقافة يظهر مدى تعقيد وتعدد الأسباب التي أدت إلى رفع وتيرة الصراع وعواقبها المدمرة. أن التبسيط المخل بحصر المشكلة بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي يخفي أسباب الصراع المركب ولا يعكس صورة الواقع.
إن المفتاح لفهم الأزمة السودانية يرتبط بثلاثة عوامل متداخلة تؤثر في بعضها البعض:
عامل سياسي / سلطوي، عامل ثقافي \ ديني، عامل اقتصادي \ بيئي.
وبدون تحليل علمي لهذه العوامل لا يمكن فهم جذور الأزمة واستخلاص النتائج والبحث عن الحلول الممكنة. ويشير الباحث بتواضع إن هذه المساهمة مثل مساهمة آخرين من أجل تحقيق سلام دائم وعادل في السودان.
تحتوي الفصول – الثاني والثالث والرابع – وصف وتحليل علمي مختصر للنزاعات في أفريقيا و"العالم الثالث" وعلاقة السودان بدول منطقة القرن الأفريقي. ففي الفترة بين عامي 1960 إلى عام 2000 حدثت 25 من الحروب الأهلية لا تزال 12 منها مستمرة، راح ضحيتها 7 ملايين بجانب الملايين من المعوقين والنازحين.
إن الافتراض التاريخي الذي له مكان الصدارة بان الصراعات الدموية في أفريقيا هي صراعات "هُويات متنافسة" على أساس اختلاف عرقي وديني وثقافي يعتبر افتراضاً منقوصاً ومحدوداً، فلانقسامات العرقية تبدو نتيجة أكثر منها سبباً لقيام هذه الصراعات.
كلما أستمر الصراع طويلاً، اختفت مسبباته الأساسية وتداخلت عوامل التأثير، سواء أكانت قصيرة أم متوسطة أم طويلة المدى، مع العوامل الجانبية وتوابعها وتختلط بحيث لا يظهر على السطح سوى عوامل كالدين والعرق والثقافة كمسبب أساسي للصراعات.
إن سرد الأسباب بالتتابع التي تثير الصراعات والتي تؤدي بدورها إلى رزمة من التوابع، ثم تصبح التوابع مرة أخرى أسباب جديدة – فتتكون بذلك شبكة معقدة ومتنوعة من أسباب – توابع – أسباب – توابع، عندها يصعب حل عقدتها وتحليلها في أبعادها التاريخية والراهنة. ومن هنا لا بد من الحذر عند تحليل أسباب الحروب وإرجاعها إلى عاملين فقط: الفقر والتعدد العرقي.
هنا يفترض الرجوع إلى تاريخ الاستعمار على القارة الإفريقية. فالمستعمرون جاءوا إلى "العالم الثالث" بذريعة العمل على تحضر شعوبه "المتوحشة" والتي لا تملك ثقافة أو حضارة كما يدعون. فكانت النتيجة هي الاضطهاد والاستعباد والنهب المستمر لثرواتها، ثم أصبحت مسرحاً للصراع "الحرب الباردة" بين الشرق والغرب وحقل تجارب لنظريات التنمية، ووسائل الإعلام الغربية التي كانت وما زالت تروج بأن الأزمات التي تنتاب أفريقيا هي الأسباب الفعلية للنزاعات الاِثنية بين قبائل وشعوب متنافرة ومتحاربة.
ويستخدمون تعبير المجتمعات الاِثنية (العرقية) المتعددة عندما يشيرون إلى دول "العالم الثالث" بينما يستخدمون في بلادهم تعبير المجتمعات الثقافية المتعددة. وكذلك يهملون الإشارة إلى الإكراهات السياسية والاقتصادية والبيئية التي يلعب الغرب دوراً رئيسياً فيها.
ويشير الباحث إلى دول منطقة القرن الأفريقي "الصومال، إثيوبيا، إرتريا وجبوتي" ويضيف إليها السودان بحكم الجغرافيا وكذلك كينيا ويبحث ويشرح الأزمة السودانية من خلال ترابطها وتداعياتها مع هذه المنطقة، فالمشكلة معقدة ومتداخلة وتتقاطع عبر الحدود الوطنية وخاصة السودان بحدوده الواسعة والمفتوحة. فالقرن الأفريقي صورة مصغرة من القارة الأفريقية أو متحف زاخر للشعوب والثقافات وهو من أكثر مناطق أفريقيا الحافلة بالصراعات لأهمية موقعه الجغرافي السياسي كمدخل بحري مباشر لمنطقة الشرق الأوسط والأدنى وكمركز للصراع بين الشرق والغرب وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية. والذي لا يزال يحتفظ بأهميته بالرغم من سقوط المعسكر الاشتراكي. وتتخذه الولايات المتحدة الآن كمعبر لحربها ضد الإرهاب العالمي.
والقرن الأفريقي يعتبر الآن من أفقر وأقل المناطق نمواً على نطاق العالم نتيجة للإرث الاستعماري والحرب الباردة، بالإضافة إلى العوامل الطبيعية من جفاف وهطول الأمطار غير المنتظم وتأكل التربة وقطع الأشجار والتصحر الزاحف ومشكلة مياه النيل والمجاعة والاستخدام اللاعقلاني للموارد الطبيعية المتجددة والمتدهورة والتنافس عليها بين المجموعات العرقية المختلفة والتي أصبحت جزءً من متلازمات الحرب الأهلية ومؤججة للصراعات العرقية في مناطق التماس من نهب للمحاصيل والماشية. ويشير هنا إلى المشاكل بين الدينكا نقوك المستوطنين في شمال بحر الغزال والعرب الرحل – المسيرية الحمر – الرزيقات والبقارة ومشاكل دارفور بين العرب الرحل والمزارعين وكذلك مشاكل جبال النوبا وجبل مرة ومشاكل الدينكا والنوير إلى جانب السطو والنهب المسلح. ويشير إلى زيادة معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر كأحد تداعيات الحروب الأهلية. وفشل المساعدات الخارجية لحل الأزمات الطاحنة والمتداخلة داخل منطقة القرن الأفريقي.
الفصل الخامس يتناول جغرافية السودان وسكانه وتنوعه العرقي واللغوي والثقافي وتاريخه القديم – الفرعوني، الوثني، المسيحي والإسلامي – والحديث، وفترة الحكم التركي المصري وتاريخ الرق وتداعياته النفسية والاجتماعية بما فيها من مرارة وغبن وحقد ثم الثورة المهدية والحكم الثنائي الإنجليزي المصري والكفاح ضد الاستعمار وتكوين الأحزاب السياسية السودانية ومشكلة جنوب السودان متتبعاً المسار التاريخي حتى الانقلاب العسكري الأخير في يونيو 1989 واستلام الجبهة الإسلامية القومية للسلطة.
أما الفصل السادس فيتناول موضوعة الدولة والثقافة في السودان. فمنذ فجر الاستقلال عام 1956 يعيش السودان في أزمة خانقة تتضح معالمها في:
حكومات غير مستقرة
فشل أساليب التنمية
الصراع حول موارد الثروات المتجددة وغير متجددة
التسلط على أساس ديني أو دنيوي (علماني)، إقليمي أو قومي
نقص البُنية التحتية (الهياكل الارتكازية)
مما أدى إلى عواقب وتداعيات وخيمة هي:
الحرب الأهلية في الجنوب 1955، 1983 ومنذ 1987 في غرب السودان، 1996 في شرق السودان
الحلقة الشريرة – حكومات انتقالية – برلمانية – انقلابات عسكرية – دكتاتورية استبدادية
وكذلك ثلاثة مسائل متلاحمة لا تقبل التجزئة: وحدة الوطن – الديمقراطية – والسلام.
ويقول حول المشروع الوطني السوداني بان تكوين قومية يتطلب دائماً ليس من الناحية العملية فحسب بل أيضاً من الناحية الايدولوجية تكوين هوية. وفي هذا يمكن أن تلعب دوراً الروابط الدينية، الثقافية / الاِثنية بل وأحياناً ربما تقوم بالدور الرئيسي في تكوين هذه الهوية.
ويسوق في هذا الصدد مثالين:
المثال الأول: فدولة إسرائيل على سبيل المثال أقامت هويتها القومية على أساس الانتساب إلى الديانة اليهودية بالرغم من الاختلافات والتي أحياناً جوهرية في الممارسات الدينية والتصورات العقائدية والاختلافات الثقافية / الاِثنية التي تميز اليهود. إن الخبرة الجماعية لسنوات طويلة من المطاردة في جميع أجزاء العالم والمحرقة النازية استطاعت أن تكون كافية لتكوين وتثبيت هوية قومية بنجاح.
المثال الثاني: أوروبا، فقيم مثل العلمنة، والحرية والمساواة والآخاء (الثورة الفرنسية) التي جاءت بعد صراعات وتطورات اجتماعية تاريخية طويلة في أوروبا قامت بدور أساسي في تكوين الدولة القومية وصياغة الهوية القومية.
أما السودان فمنذ تكوين الدولة الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر لا يزال يبحث على تعريف صالح لهويته القومية. فالتجربة المشتركة لمناهضة الاستعمار في السودان لا تكفي لصياغة هوية قومية بنجاح لأن هذه التجارب لم تنبع من عملية (صيرورة) داخلية وإنما تنطوي على عنصر خارجي وهو مكافحة الغاصب الدخيل. ويستطرد قائلاً إن العلاقة بين الدولة المصطنعة والثقافة في السودان تظهر كنوعين متضادين: الدولة ككتلة (كقامة) محددة مادية عقلانية والثقافة ككائن غير عقلاني ميتافيزيقي غير محدد المعالم.
فالسودان الذي يتكون من 512 مجموعة عرقية ويتحدث بأكثر من مئة لغة ولهجة مختلفة يبحث عن هوية سودانية. إن البحث عن هوية ثقافية سودانية من منظور التعدد الاِثني في السودان، يظهر للمراقب وكأنها فكرة هزلية. ولكن في الواقع إن البحث في هذا الصدد تتواري خلفه الرغبة الجامحة للسودانيين لتأمين أساس مشترك لحل الصراع في السودان. إن هذه الرغبة المشتركة يمكن لوحدها إن تدحض الافتراض القائل عدم التجانس الاِثني كمسبب للصراع.
إن البحث عن الهوية السودانية الذي بداء منذ عشرينيات القرن السابق أشعل نقاشات حادة وسط المجموعات الشعبية وخاصة وسط المثقفين والأدباء والفنانين، الذين كانوا يدبجون كتاباتهم باللغة العربية ويبحثون في الوقت نفسه عن "أدب سوداني" (عرفات محمد عبد الله، حمزة الملك طمبل، محمد عشري الصديق ، حسين شريف، محمد أحمد محجوب ...) فغالبية الشعراء من رواد الفكر القومي كانوا ينتمون في الغالب إلى أهم طائفتين تتطلعان دوماً إلى السلطة هما طائفتي: الختمية والأنصار.
إن هذا الوضع المعقد بين المثقفين الحداثيين والحكام التقليديين لا يزال يؤثر حتى اليوم على المشروع القومي السوداني. فالإسلام والعروبة كانتا الصيغة التي صُممت عليها القومية الوطنية وتأثرت بهما الطبقة الوسطى، وخاصة "الأفندية" في شمال السودان.
فيما عدا مساهمة حديثة من الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان لتعريف الهوية السودانية وهي المساهمة الأولى التي لم تأتٍ من دائرة المثقفين العرب المسلمين، فإن جميع الأدبيات المتعلقة بالهوية في السودان كانت نتاج "الأفندية" العرب المسلمين.
ويسوق الباحث مثالين في هذا الصدد:
أولاً: يكتب المحامي والشاعر محمد أحمد محجوب مقالاً في مجلة "النهضة" السودانية بتاريخ 13/6/1941 تحت عنوان الأدب القومي، ما يلي: "إنه لا يوجد شك في أن الثقافة العربية هي السائدة وكذلك الإسلام هو دين الأغلبية وانطلاقاً من هذا يمكن إن نشير إلى الطريق التي يجب إن تسلكها الحركة الفكرية في هذا البلد حتى تصل إلى هدفها". إن هذا الرأي يحتوي على فكرة الثقافة القائدة ويخفي تحته مطلب الشرعية التي تمنح الأغلبية حق السيطرة على الأقلية، إي من خلال هوية الأغلبية التي تتكون على أساس إثني / ديني، تفسح هذه الفكرة المجال لشرعنه حق تسلط الأغلبية، وفي الوقت عينه ينسج بهذه الفكرة أيضاً تأسيس الأقلية على عوامل إثنية / دينية مما تمكنه من ناحية أخرى الاحتفاظ بالاختلاف اللازم. إن أفكار المحجوب انعكست في مسودة الدساتير من عام 1958 إلى عام 1968.
فاللغة العربية ينبغي أن تكون لغة البلاد الرسمية. وبذلك وقع الإملاء من ثقافة معينة – الثقافة الإسلامية العربية – على المجموعات الأخرى غير الإسلامية العربية. بهذا الأجراء وإجراءات أخرى تمت لصالح التعريب (الاستعراب) تأجج تسلح المعارضة السودانية الجنوبية التي لا تتطابق مع القيم الإسلامية العربية. وبسب هذه السياسة ومحاولة فرض هوية الأغلبية بطريق القوة – فشل مشروع الهوية الإسلامية العربية " للأفندية" وانتهى إلى حرب أهلية دموية.
ثانياً: بقيام الضباط الأحرار (التقدميون) استلام السلطة في السودان عام 1969 عن طريق الانقلاب العسكري بهدف إنهاء الحرب المقدسة التي أعلنتها الحكومات البرلمانية كحل لمشكلة جنوب السودان، ظهر قبيل ذلك على المسرح السياسي، شاعر آخر هو محمد عبد الحي كمساهم في مشروع الهوية الوطنية السودانية. أسس محمد عبد الحي مع بعض الشعراء في الستينيات مدرسة الغابة والصحراء بهدف مزج الدم الأفريقي في الأدب العربي عبر مشروع الوحدة الوطنية مع التعدد الثقافي.
فالمدرسة تدعو إلى الاعتداد والعزة والتصالح بين العربي والأفريقي السوداني، لخلق الوحدة بين الانتماء الزنجي والانتماء الإسلامي العربي مستلهمين نموذج "سنار"، عاصمة "سلطنة الفونج" الإسلامية الزنجية "السلطنة الزرقاء". إن العزة بالتعدد الثقافي الذي يقترحه الشاعر في مشروعه ما هو إلا إظهار هذا التنوع من خلال "الانتماء الإسلامي". إن إعادة تطابق "الانتماء الزنجي" مع "الانتماء الإسلامي" على بركة "سلطنة الفونج" في القرن السادس عشر ما هي إلا أوهام وتقهقر سلس إلى الوراء وأسطورة مثالية للوحدة الوطنية عبر التنوع الثقافي التي تدافع وتدعو لها مدرسة الغابة والصحراء. والباحث يتساءل لماذا تُتخذ "سلطنة الفونج" كنموذج لتكوين الهوية الوطنية في الوقت الذي يزخر تاريخ السودان بممالك عديدة وهامة منذ 2000 عام قبل الميلاد، ويجد الإجابة:
أولاً: في الانتماء الإسلامي العربي للشعراء وكموظفين أيضاً في جهاز الدولة. فمثلاً الشاعر محمد عبد الحي هو مؤسس السياسة الثقافية الرسمية كمدير لمصلحة الثقافة (من 1975 إلى 1977) في وزارة الثقافة والأعلام في العهد المايوي.
ثانياً: بتبلور تيارين وسط المثقفين السودانيين منذ عام 1969، تيار يرى أن الهوية القومية لابد أن تتكون داخل نطاق الإسلام والعروبة حتى لو أدى ذلك إلى فرضها بقوة السلاح، وتيار آخر معتدل يرفض استعمال الحرب المقدسة لفرض الهوية القومية ولكنه في نفس الوقت إسلامي التفكير.
ولهذا يظهر وكأن النموذج "السناري" هو الأكمل والأمثل لحل إشكالية الهوية القومية. فمن جهة يمكن احتواء القوميات الزنجية وربطها ربطاً شكلياً لمشروع الهوية القومية ومن جهة أخرى يمكن شرعنه الإسلام بربطه بالعروبة. ولكن هذا النموذج في الواقع ما هو إلا إخفاء ومحاولة طمس لهويات مختلفة وليس قوة ابتكار أو تجديد. وبالرغم من ذلك استطاع رواد مدرسة الغابة والصحراء الوصول إلى نقطتين:
الأولى أن هؤلاء "الأفندية" كعرب صاغوا خطابهم الثقافي الإسلامي العربي في صلب مشروع الهوية الثقافية السودانية.
والثانية يصفون أنفسهم كأفارقه مسلمين لمواجهة الأصوليين الإسلاميين المتشددين الذين يسيطرون على الساحة الإسلامية.
وفي هذا الفصل يتابع الباحث التطورات السياسية منذ عام 1969 – الفترة المايوية في بدايتها اليسارية ونهايتها اليمينية الرجعية والتخبط السياسي بين المعسكرين الشرقي والغربي وإعلان الشريعة الإسلامية عام 1983 والتي أنهت مشروع وفكرة الوحدة الوطنية عبر التنوع الثقافي. ثم تجدد الحرب الأهلية بتكوين الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان وفشل الحكومات الائتلافية البرلمانية بعد سقوط العهد المايوي في حل الأزمة المستحكمة والتلاعب بالبرلمانية التي أصبحت مناورات حزبية إلى حين وصول الجبهة الإسلامية القومية إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري عام 1989، ثم التصعيد العسكري وتسليح القبائل والمليشيات وإعلان الجهاد الإسلامي والتعريب والأسلمة القسرية. ثم دور التجمع الوطني الديمقراطي ميثاق 89 – مقررات اسمرا 1995 – المعارضة الداخلية. ويناقش أسباب فشل الديمقراطية، التي يعتبرها حجر الأساس في حل الأزمة السودانية. كما يناقش فشل المثقفين بسبب أنانيتهم وجريهم وراء المكاسب الشخصية، ثم يعرج في تحليله على مواقف الحكومات المختلفة التي لم تعرف كيف تتعامل مع التنوع السياسي والديني والثقافي ولم تفهم أن تطور هذا التنوع كقوة دفع وابتكار وتجديد، مما أدى إلى فشل تكوين الأمة والدولة إلى حين.
وفي الفصل السابع يناقش الباحث إشكالية المساعدات الخارجية مع الأنظمة الدكتاتورية ويرى أن مطالبة التجمع الوطني الديمقراطي بإيقاف كل المساعدات الخارجية للضغط على الحكومة لا يؤدي إلى نتيجة مرضية ويأتي على حساب الشعب الذي يكافح من أجل البقاء. كما أن الشروط التي تضعها الدول المانحة مثل احترام حقوق الإنسان والديمقراطية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات المصيرية وحرية الصحافة وحماية البيئة .... لا تلتزم بها الدول المانحة نفسها، لأنها تنطلق أولاً من مصالحها الخاصة والتي تتعارض مع الحاجات والالتزامات التي يفرضها الواقع المحلي. ويرى بالرغم من ذلك أن تقديم المساعدات مثلاً للمنظمات غير الحكومية مع الشفافية اللازمة يؤدي إلى تقوية المجتمع المدني والذي يمكن أن يقود بطريقة غير مباشرة إلى تقويض الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة. ويشير بأنه في فترة ما بين 5 إلى 6 سنوات سقط 30 نظاماً دكتاتورياً في فترة التسعينيات على نطاق العالم عن طريق الحركات الديمقراطية.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.