أذكر جيداً الزيارة التي قمنا بها نحن دفعة السنة الرابعة الأولية بمعية أستاذ التاريخ إلى شخصية تاريخية وهي زوجة البطل عبدالرحمن النجومي وذلك بحي ود عكيفة بمدينة الأبيض حاضرة مديرية كرفان آنذاك. جلسنا إليها - ونحن لم نتجاوز العاشرة من أعمارنا - كانت كبيرة في السن ولكنها كانت متقدة الذهن والذاكرة، روت لنا عن البطل عبدالرحمن النجومي وعن تلك الفترة، وكانت كثيراً ما تعرج بنا إلى تفاصيل جانبية وتعود لتربط بينها وبين ما قدمه البطل عبدالرحمن النجومي للمهدية .. كأطفال وقتذاك كنا مندهشين أن نسمع عن البطل عبدالرحمن النجومي وعن صولاته وجولاته، كانت تتجول بنا زوجته في سرد شيق ودقيق عن تلك الحقبة وكانت من فطنتها أو فطرتها تجعل الكلام بسيطاً وسلسلاً .. فربما كانت تراعي أعمارنا اليافعة وعقولنا، وكانت تنقل لنا الأحداث كأنها نقلاً مباشر كما نقول هذه الأيام. أفتح بهذه المقدمة نافذة نحو موضوع مهم جداً؛ هو عنوان هذا المقال. وهي دعوة لتوثيق تاريخنا من أفواه كبارنا قبل أن فوات الأوان، فلنلحق بجدودنا وجداتنا حتى نستخلص منهم ما كان من أمرنا، لنبني عليه ما سيكون من أمرنا. كما هي دعوة لعلماء التاريخ والآثار أن يعودوا لتاريخنا الذي كتبه المستعمر (على مزاجه) فينقحوا ويفندوا ويسطروا التاريخ الحقيقي، بعيداً عن الأهواء الشخصية والأحقاد والعصبية. ورغم قناعتي أن التاريخ يجب ألا يكتب مرة واحدة؛ إلا أننا قد ركنا كثيراً إلى ذلك، وقبلنا بما كتبه لنا المستعمر عن تاريخنا، فالذي يكتب التاريخ عادة يكتبه جميلاً دون شوائب، بمعنى أنه قد يداري الأحداث السالبة، أو قد يعزوها لأمر عنصري، أو قبلي، أو جهوي، فيصبح تاريخاً لتلك الحقبة، وحامياً لتلك الزمرة من معاتبة وربما حنق الأجيال القادمة، وبالمقابل أيضاً فهو قد ينسب الأحداث والإنجازات والأعمال المبهرة لتلك الحقبة رابطاً لها بحنكة القيادة وحكمة البطانة التي عادة ما تحجب عن القيادة ما يشينها، وتظهر ما يفرحها، مثل هؤلاء هم الذين يكتبون التاريخ المزيف، لذلك كانت البطانة الصالحة هي التي تعين القيادة في مساعيها لإقامة حكم رشيد، ومتى فسدت هذه البطانة فسدت القيادة، وفسد التاريخ بالضرورة. والتاريخ الصادق يكتب من أفواه الصادقين والأمينين الذين حضروا تلك الحقب المختلفة. فلنعد بمسؤولية نحو إعادة كتابة تاريخنا حتى لا يلعنا أحفادنا ويرمون بنا في مزابل التاريخ. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.