يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    حزب الأمة القومي: يجب الإسراع في تنفيذ ما اتفق عليه بين كباشي والحلو    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    الفنانة نانسي عجاج صاحبة المبادئ سقطت في تناقض أخلاقي فظيع    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    جبريل ومناوي واردول في القاهرة    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    وزير الخارجية يبحث مع نظيره المصري سبل تمتين علاقات البلدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    الأمم المتحدة: آلاف اللاجئين السودانيين مازالو يعبرون الحدود يومياً    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    تمندل المليشيا بطلبة العلم    ((كل تأخيرة فيها خير))    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوار مع شيخي عبد الله .. بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 21 - 03 - 2017

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
(1)
أُحب دائما ان أنعت شيخي الدكتور عبد الله على ابراهيم بنعت (المفكر)، وهي الصفة التي كان قد أنكرها عليه نجم اليسار الغائب المغفور له الخاتم عدلان في مرافعته الشهيرة التي تخطفتها المنابر عند منتصف العام 2011. غير أنني وجدت في المقال الأخير لشيخي ما حفزني على ان أعزّز صفة (المفكر) بلقب (المناضل)، فهو المفكر المناضل. إذ ألفيت بعض ما جاء في نص كلمته الأخيرة في شأن سلسلتي (معادلة الأمن والحرية) أقرب ما يكون الى منتجات أحبابي من مناضلي الأسافير. لا غرو انهم احتفوا بمقاله أيما أحتفاء، على بُغضٍ قديم مستبطن له (ولي أنا أيضا)، فبدلوا عنوان مقاله تبديلا وجعلوه: (مقالات البطل محض هرج .. بقلم عبدالله على ابراهيم)، ثم دفعوا به الى عوالم النشر الالكتروني وتشاطروه كما يتشاطر الغرثى شطائر الاغاثة ودقيقها وعدسها.
وذلك مع ان شيخي، لم يقل بذلك، وانما استخدم عبارة (محض لؤم وهرج) مرة واحدة يتيمة في خاتمة مقاله حصراً، ووظفها تخصيصا في وصف جزئية بعينها جاءت في معرض (الهُزء) المنسوب الينا بحبيبنا المناضل الكبير ابراهيم الشيخ. وحاشانا ان نستهزئ بأيقونة المعارضة ونجمها الساطع، ومليارديرها صاحب السر الباتع. بل أن صوتنا الانتخابي مدخور له، بأمر الله، في انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2020، اللهم إلا إذا قرر شيخنا عبد الله ان يخوض تلك الانتخابات ايضاً. عندها نقول بقول أحبابنا المغاربة: الله غالب!
وذلك النهج، أعني نهج التخطّف والتلبيس الذي تقوم عليه تجارة النضال الاسفيري لا يشبه شيخي عبد الله ولا هو من أهله، ولذا فقد أقلقني ما رأيت من تورطه في مثل تلك الدروب الوعرة، إذ وجدته يضيّق من عبارات سلسلتي حينا، ويوسّع حينا، وينتقي خارج السياقات أحيانا اخرى تبعاً للهوى، فيرميني بما ليس عندي، وينسب اليّ ما اُنكره على نفسي. والقراءة الافتراضية، والانتقائية في التعقيب، والمسارعة الى الاحكام الاطلاقية مما لا يليق بمفكر في قامة شيخي عبد الله، حتى وهو يخرج علينا مرتدياً لامّة النضال في سبيل الحريات.
(2)
الخلط الأكبر الذي وقع فيه شيخنا، وما كنت أتمنى له ذلك، كونه الأقدر على القراءة غير المغرضة، هو انه تورط في ترويج خزعبلة أنني أؤازر البطش وأبارك التعسف في استخدام قانون الأمن الوطني. وتلك علة فاشية عند السوادنة، الناهضين الى النضال مثل شيخي، والقاعدين مثلي. عندهم دائما ان هناك طرفان نقيضان بلا توسط، فإما انك في هذا المعسكر او ذاك. وهنا أمامنا معسكران، واحد للأمن والقمع والعسف، وآخر للنضال والحريات والحقوق، فاختر لنفسك. عقلك في راسك تعرف خلاصك. وما هكذا تورد إبل الحوار. والحوار الذي نريده يستوعب كل شئ، وفي الطليعة من ذلك توسيع قاعدة المشاركة في مراجعة التشريع الأمني الوطني، وتوكيد الرقابة القضائية، وتأمين الحقوق في القوانين والممارسة، وتوفير الضمانات ألا تجور السلطة على مواطنيها، وان تحفظ كراماتهم وتصون حرماتهم.
ولكن موقفنا الثابت يبقى هو أننا نرفض تجريد جهاز الأمن والمخابرات من سلطاته وصلاحياته للأسباب التي أتينا عليها تفصيلا، والتي تجاهلها شيخنا في مرافعته تجاهلاً مريباً، وكأنه لم يقرأها او يسمع بها. مع أننا طالما آزرناه، وطالما آزرنا في حربنا ضد التحالف المسلح الخبيث، تحالف الضغائن والغبائن، الذي لم يعرف للوطن إلّا ولا ذمة، فما يبالي ان يحيله صومالاً اخرى. وها هي جدران التحالف اليوم تتصدّع، وتتفرق جماعاته شذر مذر، والجثث تترى على ضفة النهر!
ومحاولة تصوير موقفنا هذا وتسويقه على انه معادل ومطابق للعسف والقهر وانتهاك الحريات، وانه (خيانة مثقف) قد تجوز من الغوغاء والهوائم السابلة في حواري الأسافير، ولكنها لا تليق بالمفكرين الأحرار مثل شيخي عبد الله.
(3)
حملت سلسلتي عنوان (معادلة الأمن والحرية). ولفظة معادلة في اللغة تعني الموازنة والمساواة بين شيئين او قيمتين. والفعل الماضي (عادَل) بفتح العين والدال تعني التسوية بين شيئين او عنصرين والإقرار بأنهما متساويان في القيمة. وعندما تكون الدعوة الى المعادلة بين الأمن والحرية يكون المراد ضمناً، بل وتصريحا، ان كل قيمة من القيمتين تكافئ الأخرى.
وكون أنني خرجت في مواجهة تيار هستيري متصاعد للداعين الى تجريد جهاز الأمن من سلطاته وصلاحياته وجعله قاصرا على جمع المعلومات، لا يجعل من صوتي نشازا مفارقا لاجماع الأمة كما يدعي بعض المخاتلين، كما لا يجعل مني مؤرقا بالأمن مفتئتا على الحرية كما يزعم شيخي عبد الله في مقدمته. وانما يضعني فقط في مورد الدعوة الى الموازنة بين القيمتين بعد أن سدر البعض في الاخلال بالمعادلة حين جنحوا الى المناداة بتجريد الجهاز كليا من سلطاته وصلاحياته، بما يهدر ويبدّد آليات حماية الأمن القومي. وموقفي هنا هو ان هذه الدعوى تخل بالمعادلة. وبيننا الحوار. هذا كل ما في الأمر!
(4)
ولأن الحملة العارمة التى تولت كبرها قوى سياسية معلومة نادت بخلع سلطات وصلاحيات جهاز الأمن والمخابرات، وكادت ان تفلح في ايهام الناس بصواب دعواها، فإنه كان من الطبيعي ان ينهض اصحاب الموقف المخالف والرأى المضاد ليصدعوا بكلماتهم.
ولم أكن اقف وحيدا في البرية أعزف اللحن النشاز، فإنما صدع بذات الرأى وجاهر بذات الموقف عبر الصحافة الورقية عدد مقدر من كتاب الصف الأول، في مقدمتهم الاستاذ عثمان ميرغني، رئيس تحرير صحيفة (التيار)، وهو من أشرس معارضي النظام، وقد تضافرت رؤيته وتماهى موقفه مع رؤيتي وموقفي ووقعت عليها وقع الحافر على الحافر. بيد أن أحدا من الناقمين على سلسلتي لم يفتح الله عليه بكلمة واحدة في مواجهة تسخيف عثمان وتسفيهه لدعاة التجريد والخلع، ودعوته الصريحة للإبقاء على سلطات وصلاحيات جهاز الامن والمخابرات، ورفضه تحويل الجهاز الى (فرقة كشافة) بحسب النص من كلماته.
(5)
عبّر شيخنا عبد الله في مقالته، مثنى وثلاث، عن مقولة او قناعة مؤداها ان الكاتب، أي كاتب، لا بد أن يكون أرقه الأول والأخير هو الحرية، لا الأمن. ومن هنا كان الشذوذ المتوهم في الموقع الذي وجدني فيه الشيخ، فهاله ما أنا فيه من خبال.
ودعوى عبد الله تلك عن الكاتب والحرية والأرق، على مفارقتها لمقتضى الحال والبيان في ضوء ما قدمنا، فإنها تنضح بالرومانطيقية والعاطفة والخيالات الشاعرية الوردية. والحال كذلك فإنها قد تصلح في مجالس الشعر والشعراء والدندنة في أنصاف الليالي على ضفاف النيل الخالد، ولكن لا مكان لها بالقطع واليقين في ادارة الدول وسياسة البلدان والمسئولية عن مقدرات الشعوب وسلامها الوطني والاجتماعي. لا سيما تلك المنكوبة منها بالاضطراب السياسي والأمني، والتي تعتورها دعوات خبيثة موتورة عن ثروات يستأثر بها أقوام، وينهض لاقتلاعها عنوة واقتدارا اقوامٌ آخرون. البلدان المكتظة حتى الأسنان بالأسلحة، الثقيلة منها والخفيفة، تحتضنها الأيدي عند إثنيات بعينها تروم اسقاط السلطة المركزية بدعوى الحق في حكم السودان واقتلاع الثروات المزعومة من بين يدي العنصر العربي في المركز (راجع عدد المرات التي وردت فيها لفظة "جلابة" في خطاب استقالة عبد العزيز الحلو من موقعه في الحركة الشعبية بتاريخ 7 مارس الجاري، وهو يصف اهل الشمال والوسط).
ثم أنه لا مكان أيضا لمثل هذه الدعوات الرومانطيقية في البلدان التي لم تشب قواها السياسية بعد عن الطوق، فلا يفرق المعارضون فيها بين الوطن والنظام، ولا تتورع اياديهم عن ان تمتد في يأسٍ عاجز لتصافح وتعانق كل من تأبط شراً من حملة السلاح والمتمردين الخارجين على الدولة إن توسموا فيه أملاً وقدرة على اسقاط النظام بالوكالة عنهم. هكذا كانوا من لدن العقيد جون قرنق الذي تعلقوا بأذيال جلبابه كاليتامي فركلهم بقدمه بعد ان نال منهم وطرا وألزمهم بالتوقيع على صك منح الجنوب حق تقرير المصير في مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا عام 1995، وصولاً الى متمردي الحركة الشعبية الذين استمع السوادنة بآذانهم الى محادثة خاصة لناطقهم الرسمي مبارك أردول، في اغسطس 2016، جرى تسجيلها بغير علمه وبثها في الأسافير بوساطة احد خبثائهم، يصرح فيها لمحدثه بأنهم لا يأبهون لحلفائهم من الشماليين ولا يقيمون لهم وزناً، وان حلفائهم الحقيقيين هم (الشيوعيين وأبوعيسى وعبد الواحد). وما يزال التسجيل مبذولا لطالبيه في سماوات الشبكة العنكبوتية، فيا للذل ويا للمهانة!
(6)
كتب عبد الله: (لم أسعد بالطبع أن أجد البطل، الكاتب المحسن، يكتب مقالات توالت يروج لمبدأ الأمن أولاً كما لا يخيل على كاتب). ولا اعرف ان هناك مبدأً يحمل مثل هذا الإسم، ناهيك عن ان أتبناه وأروج له. والتنظير، أى تنظير، لا بد ان يتعلق بالواقع، والا اصبح تهويماً من التهويمات خاوية المحتوى عديمة المعنى، أقرب الى الشعارات والهتافيات. نحن لم ندعُ الى كتم انفاس الشعب وتحويل السودان الى دولة بوليسية يحكمها سافاك محلي. جوهر ما قلناه هو ان تجريد جهاز الأمن والمخابرات من سلطاته في المرحلة التي تجتازها البلاد مغامرة غير محسوبة تلقى بالبلاد الى كف عفريت، وقدمنا دفوعاتنا مدعومة بالشواهد من تشريعات وممارسات لدى الاجهزة الشبيهة والمناظرة في بلدان العالم الاخرى.
دعوانا لا تقدم الأمن على الحرية، ولا الحرية على الأمن. وانما توازن بينهما تأسيساً على موقف تقديري يستند الى تحليل فاحص ومتمحّص للحالة السودانية، والتي تشكل مدخلاتها الاولية عدد من المهدّدات منها الاختلال الديموغرافي وحالة القلق والاضطراب النفسي وعدم الاحساس بالأمان عند قطاعات معتبرة من اهل السودان، والسيولة الأمنية وعدم الاستقرار الاقليمي، والتدخلات الاجنبية، والافتقار الى منظومة اجماع وطني بالنظر الى تفاحش المكايدات السياسية والضعف المريع للتنظيمات المعارضة، ومكابدة الدولة في سبيل السيطرة على كميات السلاح المتداولة.
(6)
ثم أنني جزعت إذ رأيت شيخي عبد الله وقد أوغل دروب الشعارات والهتافيات وترديد المزاعم الجزافية من شاكلة: (الوطنية عند البطل مفصلة على الجانحين نحو مبدأ الأمن). لماذا وكيف توصل الشيخ الى هذه النتيجة؟ الله اعلم. أيجوز ان التفصيل يرد في الفقرة التي افترعها بقوله: (فشروطه لمن رجحوا مبدأ الحرية قاسية وهو فيها كمن قال كونوا مثلي الخالق الناطق وإلا فأنتم من المشكوك في طنيتكم). ولكن ما هي تلك الشروط ومتى واين وضعتها فجرّدت خلق الله من الوطنية؟ العلم عند الله وعند شيخي.
الأنكى وأضل هو رأى عبد الله في بعض كلمات سطرتها في مورد الدعوة الى توسيع قاعدة الحوار حول قضية الأمن والحرية جاء فيها قولي بضرورة (أن يتسم هذا الحوار بالقسط والاعتدال، وان يكتسي رداء المسئولية الوطنية .. الخ). إذ وصف شيخي هذه الفقرة بأنها من نوع (العبارات المستهلكة من نفايات اعلام النظم المستبدة). هكذا دون ان يرمش له جفن! صعقتني العبارة وقلت في عقل بالي: يا راجل؟! (نفايات أنظمة مستبدة) حتة واحدة؟! طيب ماذا تركت يا شيخنا لصبي الحركة الشعبية مصطفى سري وغيره من عيال ياسر عرمان الذين ظلوا على مدار السنوات يطاردونني ويطاردونك بالبذاءات والشتم القبيح في مواخير الأسافير وصناديق بريدنا الالكترونية الخاصة وكأننا سرقنا محافظ أمهاتهم، وكل ذلك تحت دعاوى النضال من اجل السودان الجديد؟!
فإذا جاز ان يُقال عن كلماتي اليوم أنها (نفايات أنظمة مستبدة) فإنه سيتعين على شيخنا وبالضرورة ان يزيل حيرتنا، فيبيّن لنا أى صفات اذن ستستقيم وتصح في وصف أدبيات العصبة المنقذة وهو يشاركها مؤتمراتها ويصوغ مواثيقها غداة الانقلاب على الديمقراطية في العام 1989؟!
يا سبحان الله! كلماتي أنا (نفايات أنظمة مستبدة)؟ يا مولانا قول كلام تاني!
(7)
من اكثر ما أثار حيرتي في مقال شيخنا عبد الله تكرار محاولاته للايحاء للقارئ بأنني اكتب بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فتراه يقدم تلخيصا لبعض ما كتبت، ثم يضيف من عنده عبارات من شاكلة (وليس الأمر كما يعتقد البطل). وهكذا فإن القارئ يجد نفسه مهيئاً لإطراح المعلومات الفاسدة التي قدمها له البطل وتلقي العلم النافع من أهل الذكر. ولكنك عندما تستأنف المطالعة بأمل ان ترى اللثام وقد اميط عن العلم الحق الذي لم يعرفه البطل، فإنك تصاب بالإعياء دون ان تحصل على عُقاد نافع!
خذ عندك هذا المثال. كتبت عن وكالة المخابرات الامريكية، ثم جاء عبد الله معقبا في مقاله يبتغي ان يصحح (خزعبلاتي). جزاه الله خيرا. فسطر العبارة التالية: (الوكالة تعريفا منظمة مدنية مختصة بأمن امريكا القومي وظيفتها جمع المعلومات بسبل مختلفة منها القوالين نزولا الى "ماشطات" البطل). والذي يقرأ يظن ان الرجل قد افحمني ودك حجتي في ما زعمته من ان المخابرات الامريكية تمارس في واقع الامر سلطات تنفيذية وتقوم بتنفيذ عمليات قتل للإرهابيين من منظورها بطائرات من غير طيار Unmanned) Aerial Vehicle) وتعرف ايضا باسم (Drone). ولكن الحيرة ستأخذ بتلابيبك مثلما أخذت بتلابيبي عندما تجد الرجل يمضي قدما فيكتب ان المخابرات الامريكية تقتل أيضاً رؤساء الدول. وطيب؟!
فإذا استأنفت القراءة تجده يقول ان العمليات التنفيذية التي تقوم بها المخابرات الامريكية تستوجب تصاديق وتصريحات معينة من الحكومة قبل تنفيذها وأنها (ليست طليقة اليد كما زعم البطل)! أين زعمت ذلك؟ الله أعلم، فأنا لم اتطرق الى أمر التصاديق اصلا، لا من قريب ولا من بعيد. معلوم ان كل مخابرات الدنيا تتطلب بعض عملياتها واجراءاتها تصديقات معينة قد تصل متطلباتها الى توقيع رئيس الدولة. بل وحتى في السودان يتطلب تجديد اعتقال اي مواطن لمدة ستة أشهر (ناهيك عن قتله بطائرة من غير طيار) موافقة رئيس الجمهورية شخصيا. هذه التفصيلات القانونية موجودة في كل الاجهزة بدول العالم فما دخل ذلك بما نحن فيه، وكيف يقدح ذلك في حديثي وينفيه؟!
ثم يفيدنا الشيخ بأن عمليات المخابرات الامريكية التنفيذية (خلافية) بمعنى ان بعض الناس في الولايات المتحدة يعترضون عليها، وبالتالي لا يجوز الاقتداء بها. ولا شك ان بعض عمليات المخابرات الامريكية منذ تأسيس الوكالة في سبتمبر 1947 ظلت موضعا للخلاف في دوائر الصحافة والرأى العام، بل ان من أهل اليسار الامريكي من طالب بحل الوكالة نفسها قولاً واحدا. ولكن الحقيقة تبقى وهي ان الكونغرس والبيت الابيض ظلا يمنحان ثقتهما للوكالة ويصدقان على عملياتها التنفيذية منذ ذلك العهد، اي منذ سبتمبر 1947 وحتى يوم الناس هذا .. بلا توقف!
ذلك اذن هو حال وكالة المخابرات الامريكية، تماما كما وصفناه، ولم يأتنا عبد الله في حقيقة الأمر بجديد، سوى ان هناك في الولايات المتحدة من الناس من لهم رأي مخالف لرأى الرئيس والكونغرس بشأن سلطاتها وعملياتها. يا شيخي نوّرتنا. نوّر الله عليك!
والحقيقة بالطبع هي أنه لا توجد قضية واحدة معروضة على الرأى العام في الولايات المتحدة ليست خلافية. الخلاف في امريكا هو الأساس. والفيصل هنا هو الواقع الشاخص أمامنا على الأرض من التشريع والممارسة وآليات ونظم مباشرة مؤسسات الحكم، بما فيها وكالة المخابرات لمسئولياتها، وليس وجود المخالفين الذين هم اكثر من الهم على القلب في كل مكان، فماذا دها شيخنا عبد الله حتى يأتينا بمثل هذه الغرائب من الحجج التالفة والعلل العرجاء المضطربة، وكأنه يتحيّن ويتحيّل ويتصيّد ولا يطلب الحق كما عهدناه؟!
(8)
وعلى ذات المنوال فاجأني الشيخ بما هو أغرب، أذ دهمني بمحاضرة مطولة في التفرقة بين الأمن الخارجي والأمن الداخلي في الولايات المتحدة. وكأنه يبيّن للناس جهلي بوجود تلك التفرقة. إنظر اليه يخاطب القارئ من علٍ ويكشف له ضعفي وخُصاصة كسبي من المعرفة. كتب الشيخ: (فجهاز أمننا مسؤول عن سائر أمننا في الخارج والداخل، بينما تفرق الولايات المتحدة بين أمن الخارج والداخل. فجعلت لوكالة المخابرات أمن الخارج ولوكالة التحقيقات الفدرالية أمن الداخل الوطني)، ثم استغرق في الشرح والتفصيل. وقد كان من ثمرة هذه المحاضرة ان تبادل الحبيبان الصحافي اللامع عطاف عبد الوهاب والمناضل الكبير ابراهيم الشيخ زعيم حزب المؤتمر السوداني التهانئ، فقد قرأت في علب الواتساب نص هذه التهنئة: (حق لك اليوم يا ابراهيم الشيخ ان تسعد. ها هو د. عبد الله على ابراهيم وقد مسح بالبطل البلاط وألبسه ثوب الجهل بأمريكا ونظمها، وهو الذي عاش فيها زهاء الربع قرن)!
ما قولك، أعزك الله، بعد هذا المشهد المذهل الباهر من استعراضات السيرك الذي أقامه شيخي عبد الله لو أنني طلبت منك ان ترجع الى سلسلتي (معادلة الأمن والحرية) لتجد انني خصصت الجزء الاول من حلقة كاملة لتبيان الفارق بين اختصاص وكالة المخابرات (CIA) واختصاص رفيقتها وكالة التحقيقات الفيدرالية (FBI) في التجربة الامريكية. وكتبت بلغة عربية مبينة عن طبيعة جهاز الأمن والمخابرات السوداني الذي يجمع بين الاختصاصين الامني والاستخباري، ونوّهت الى اختلاف الممارسة في غالب الدول النامية عن التجربة الامريكية التي تفرق بينهما. وكل ما كتبته متاح بين يدي الخلق!
ثم ماذا أقول بعد هذا؟!
هل لك، أعزك الله، ان تعينني، ولك الأجر والثواب، بتفسير لهذا النهج الجديد من المناظرات الذي افترعه وخرج به علينا شيخنا عبد الله؟ وفي هذا النهج الجديد يختار الكاتب مثلي مادته وحجته فيحررها، ويفيض في شرحها، ويدفع بها الى القارئ، ثم يأتي مُناظره من بعده فينتزع ذات المادة من بطن مقال الكاتب ويعيد تحريرها بنصها وفصّها، بلا زيادة ولا نقصان، ثم يقذف بها في وجه صاحبها، الذي كتبها في الأصل وفصّلها تفصيلا، وكأنه يقحمه ويفحمه. لا وإيه كمان؟! يتلقى التهانئ بأنه صرع مناظره ومسح به البلاط!
أيُعقل هذا؟ هل نحن حقاً نمارس الحوار، ام أننا ممثلون هزليون في مسرحية كوميدية، او ربما سيرك للبهلوانات؟!
(9)
ولكنني أعود فأُبرئ شيخي من شغل الكوميديا وألعاب البهلوانات. شيخي أسمق قامة وأرفع مقاماً من ان يتورط عامدا في مثل هذا الهذر، والظن عندي انه سارع الى الكيبورد قبل ان يُحسن القراءة، أو ربما طالع بعضا وترك بعضا، ومشاغل الدنيا كثر. بل لعلها نفثات الشيطان صادفته على غير وضوء!
وألتمس من شيخي في المقابل ان يبرئني من تُهمات التعالم وشبهات ادعاء المعرفة التي أغرقني في بحرها بغير طائل. وأدعوه الى أن يُحسن بي الظن، فلا يراني جلوازاً غليظ الكبد، جانحاً عن الحريات، بل غيوراً على أمن السودان وأمانه. والأمن غير الأمان. الاول عمل بشري يتمثل في الحفاظ على كيان الدولة وتماسكها الداخلي والوظيفي. أما الثاني فهو شعور إنساني بالطمأنينة يحسه المواطن، ينتج عن ثقته في وجود سلطة أمنية تنفيذية فاعلة ومقتدرة تؤمن حياته واستقراره، وتحمي وطنه ومقدراته.
وفي القرآن (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.