[email protected] أصبح من المؤكّد الآن أن مفاوضات الدوحة التي استمرت لمدة أسبوع بين كلٍّ من الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة المتمردة بدارفور لن تكون نهاية المطاف من أجل إنهاء أزمة دارفور، التي مرّت من قبل بمحطات تفاوض عديدة في انجامينا وأبوجا وطرابلس وسرت وأروشا، ولم يكن متوقعاً لها أن تكون كذلك لأن طريق التسوية السلمية للأزمة طويل وصعب في ظل تعقيدات داخلية وخارجية على حدّ سواء، يزيدها تعقيداً هذه المرة توقع صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن توقيف الرئيس السوداني عمر البشير قريباً، وهو ما ألقى بظلاله على تلك المحادثات.. فهل ينفض السامر وتنقضي هذه المحادثات مثل غيرها وتلحق بسابقاتها، أم تستطيع أن تثمر وتقدم جديداً، وتكون بداية طريق جاد لمفاوضات يمكن أن تفضي إلى حلٍّ للأزمة التي دخلت عامها السابع، وأدخلت السودان كله في مأزق ومتاهات لا قبل له بها. وقد ووجهت المبادرة العربية التي ترعاها قطر منذ اللحظة الأولى للإعلان عنها في الجامعة العربية في سبتمبر الماضي بآمال كبيرة من كثيرين، وأيضاً بشكوك كثيرة من قبل الحركات المسلحة بدارفور، باعتبارها جاءت بعد إعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو لاتهاماته بحق الرئيس السوداني بإرتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب وضد الإنسانية بدارفور، وكأن المبادرة جاءت لدعم الحكومة السودانية وإقناع المجتمع الدولي بتأجيل إجراءات المحكمة، لكن المبادرة سرعان ما ضمت إليها الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، والبعض يرى أن نشأة المبادرة تعود إلى أبعد من ذلك، وأنها ظهرت بشكل حقيقي بعد الاجتماع الرباعي عقب اجتماع وزراء الخارجية العرب في دمشق، والذي ضم أمير قطر والرؤساء الفرنسي والتركي والسوري، وخرج اللقاء الرباعي بترشيح قطر لحل أزمة دارفور على خلفية نجاحها في حل الأزمة اللبنانية. ويميز محادثات الدوحة أنها جمعت لأول مرة منذ عام 2005 بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة المتمردة بدارفور، وهما الطرفان اللذان كانا أبعد ما يكونان عن بعضهما البعض، خاصة بعد هجوم الحركة على العاصمة السودانية في 10 مايو الماضي، وهو الأمر الجلل الذي أكدت الحكومة السودانية بعده مراراً أنها لن تفاوض الحركة إطلاقاً، بينما أصرت الحركة في تجاوبها مع المبادرة العربية على رغبتها في مفاوضات مباشرة مع الخرطوم، ورفضت أي مفاوضات ضمن فصائل دارفورية أخرى، باعتبار أن بعضها مخترق من قبل الخرطوم، وبعضها حركات وهمية لا وجود عسكري لها، واعتبرت أنها الحركة الوحيدة التي تحارب في الميدان. إلا أن هذه الإيجابية التي حققتها المبادرة القطرية تحمل في ثناياها العديد من السلبيات، وأحاطت المبادرة بمزيد من الشكوك من قبل باقي الأطراف في دارفور، كما يتوقع أن تنتج عنها العديد من التناقضات مع الإتفاقية التي سبق التوصل إليها في أبوجا، أو مع ما سيلحق بها من اتفاقات مع باقي أطراف الأزمة، إلى جانب أن المبادرة غيبت أدواراً إقليمية مهمة لا يمكن أن يتم الحل في دارفور بمعزل عن دور إيجابي مباشر وواضح لها، وفي مقدمتها الدور المصري والليبي والتشادي، فضلاً عن ما يعتري المحادثات ذاتها من تعثر وصعوبات كبيرة، تبدو جلية في إستمرار المعارك بين الطرفين في دارفور دون توقف، وأيضاً استمرار المعارك الإعلامية التي اتخذت في الأيام الماضية من قناة (الجزيرة) وغيرها من الوسائل الإعلامية منبراً لها، حيث كان قادة حركة العدل والمساواة يخرجون من قاعات التفاوض لمطالبة الرئيس السوداني عمر البشير بتسليم نفسه للمحكمة الجنائية الدولية، ويعلنون تعهدهم إن لم يقدم على ذلك أن يقوموا هم بالقبض عليه بأنفسهم وتسليمه، وهي تصريحات لم يكن يقل عنها تشدداً تصريحات أعضاء الوفد الحكومي. هذا فضلاً عن عجز الطرفين المتفاوضين عن التوصل إلى اتفاق إطاري للمفاوضات تم الإعلان عنه قبل بدء المحادثات بينهما من خلال تسريبات صحفية، إلا أن سقف طموحات رعاة المفاوضات قد انخفض إلى ما دون ذلك، وسعوا فقط من أجل الدفع بصعوبة على ما يبدو من أجل إعلان حسن النوايا فقط الذي أعلن أمس، على أمل أن يمهّد الطريق أمام اتفاق إطاري في وقت لاحق، يكون بدوره مقدمة للتفاوض، على أن يعقب ذلك في مرحلة لاحقة تبادل الأسرى وإطلاق سراح المعتقلين ووقف قصف المدنيين وعدم عرقلة الحكومة للمعونات الإنسانية، على أمل أن تنضم إليه باقي الحركات المسلحة بدارفور. ويبدو أن إطلاق سراح المعتقلين من حركة العدل والمساواة الذين أسرتهم الحكومة السودانية بعد غزوهم للعاصمة هو المطلب الرئيسي للحركة قبل الدخول في أي مفاوضات أو أطر، وعددهم حوالى (47) شخصاً وفقاً لتقديرات الحركة، من بينهم (3) من أهم قيادات الحركة هم محمد بحر نائب رئيس الحركة وعبد العزيز نور عشر رئيس استخبارات الحركة والأخ غير الشقيق لرئيسها خليل إبراهيم، ويوسف لبس الذي ينظر له كواحد من أخطر الشخصيات بالحركة، وتقول الخرطوم إنهم حوكموا من قبل القضاء السوداني، بينما تصر الحركة على اعتبارهم أسرى حرب لا تنطبق عليهم القوانين المحلية. ولا شك أن حركة العدل والمساواة استفادت كثيراً من هذه المحادثات بالدوحة، التي أكسبتها إعترافاً وشرعية من المجتمع الدولي والإقليمي، وحاولت خلالها الحركة تقديم نفسها إلى الواجهة باعتبارها حركة راغبة في السلام، ولها وزنها وامكاناتها في الميدان كلاعب وحيد، وأن على باقي الحركات إما الإنضمام لركبها أو الإنتهاء تلقائياً، وأنها تملك رؤية قومية لحل مشكلات السودان، كما نفت الحركة الاتهامات عن نفسها كذراع عسكري لحزب الدكتور حسن الترابي «المؤتمر الشعبي»، أو كحزب يقوم على قبيلة واحدة «الزغاوة»، أو كتابع لدولة أخرى «تشاد». بينما الحكومة تكون قد أرادت عبر محادثات الدوحة ان تقدم شيئاً للمجتمع الدولي الذي يتهمها بعدم فعل شيء من أجل السلام بدارفور وممارسة إنتهاكات، عله يكون سنداً لها الآن في معركتها من أجل تأجيل إجراءات المحكمة الجنائية الدولية لمدة عام، وهو ما تسعى إليه الآن جهود سودانية حثيثة. ولا شك أن الدوحة والوسيط الأفريقي الدولي المشترك قد بذلا جهوداً مضنية من أجل الضغط على الطرفين للوصول إلى الحد الأدنى وهو اتفاق حسن النوايا، في ظل ما يسود بينهما من أزمة ثقة عميقة ونوايا غير حسنة وحرب تدور على الأرض. إلا أن واقع الحال يؤكد أن مباحثات الدوحة ستظل خطوة على طريق طويل وشاق من أجل إحلال السلام الشامل بدارفور، خطوة قد لا يلتزم بها موقعوها، وينظر إليها من قبل الحركات المتمردة بدارفور بكثير من الإتهامات والشكوك كأمر ثنائي اقتصر فقط على طرفين، وكعمل يكرر خطأ اتفاق أبوجا الذي وقعته الحكومة السودانية مع الفصيل الأقوى وقتها «حركة تحربر السودان» برئاسة مني أركو ميناوي، لكن ذلك لم ينه الأزمة وزادها تعقيداً، حيث دفع ذلك الحركات الأخرى إلى تصعيد عملها العسكري والتجمع معا فيما عرف باسم جبهة الخلاص، وقد ارتفعت وتيرة العمل العسكري من بعض الحركات في شمال دارفور خلال الأيام الماضي، ربما في محاولة لإثبات وجودها، كما أن مباحثات الدوحة كررت ذات الخطأ الذي ارتكبته الوساطة المشتركة من قبل في سرت حينما دعت لمؤتمر حضره الجميع ولم تحضره الأطراف الرئيسة بدارفور. وبقدر ما ينطوي التوصل لأي اتفاق مع حركة العدل والمساواة على إيجابية، وهو ما يبدو حتى الآن متعثراً بعيد المنال، إلا أنه حتى في حال التوصل إليه سيظل مثل أبوجا أو إلى جانبها، ربما يمثّل عقبة في طريق الحل النهائي الذي يجب أن يشمل الجميع، لكن لهذا الحل تعرقله الآن الإنشقاقات الكبيرة في صفوف الحركات المسلحة بدارفور والتشوهات الكبيرة التي أصابتها، وأيضاً التطورات الأخيرة في مجمل الوضع السوداني، الذي بات يستدعي اليوم أن يكون حل أزمة دارفور أكبر من الحلول الجزئية أو الثنائية، ويتم النظر إليه كحزمة واحدة في إطار بحث الأطراف السودانية عن مخرج للمأزق السوداني الراهن.