بيت الكباشي بيت شرف وكرم وولاية فهم على حد قول المعري : أنتم بنو النسب القصيرِ ** ففضلكم بادٍ على الكبراء والأشرافِ وإلى هذه الشجرة المباركة ينتمي الدكتور إبراهيم الكباشي مؤلف كتاب منازل الظعائن . وقد أخبرني الشيخ طه ود المصباح على قبره شآبيب الرحمة والرضوان أن النسبة إلى الشيخ الكباشي هي الكرم ، وقال لي : ( البقولك أنا ود الكباشي ولم يكن كريماً فنسبه موضوع ) .. وطه من أفذاذ كرماء السودان ، وقد سأل أحد الطارئين على حلة الكباشي عن بيت طه فقالوا له : أنظر إلى الحدية محل بتحوم دا بيت طه ، ( والحدأة لا تحوم إلا على الذبائح ) . والدكتور إبراهيم معم مخول وقد كتب بإسهاب عن أخواله الكبابيش .. الكبابيش هذه القبيلة الرائعة هي عبارة عن نسيج نادر لحمته وسداته من الذهب الإبريز فهي قبيلة تنتسب للكرم ومكارم الأخلاق فهي أقرب إلى الطريقة منها إلى القبيلة وهي ألحق بالرباط المقدس منها بأرومة النسب ، فهي عبارة عن حلف ذي نسب معنوي وأكرم به من نسب ، لذلك انتسب لها الأشراف من أبناء الولي الكبير الشيخ إبراهيم الكباشي وانتسب لها الأشراف القادمون من بلاد شنقيط وقد قال شاعرهم : لعمرك ما ينسى الكبابيش ماجدٌ ** يقدرُ في الناس الحجا والمحامد وأنا أطالع كتاب منازل الظعائن للدكتور إبراهيم الكباشي لاحت لي صور الظعائن وكانت العرب تشبه الظعائن بأشجار الدوم والنخل يقول ول الطلبة اليعقوبي الشنقيطي واصفاً الظعن : هاج قرح الغرام بعد اندمال ** ظعنُ ظعن الخليط يوم إنال يوم ولت كأنها حين جدت ** باسقات النخيل من كانوال وقد شبه أبو كريشة غني الفحلاوي خال المؤلف الدكتور إبراهيم الكباشي الظعائن بأشجار التبلدي حيث يقول : بي غرب النصب مدهاج ضعنهن جاني عطافهن تبلدي الزرنخ الصعداني وكنت على شرخ الشباب قد جاريت شاعر الكبابيش الكبير النور ود شيخ إدريس وهو يصف الظعائن بقوله : الودع البفصلوبو الشلايل شوره علو شديدا فوق كاكوم أبو فاخوره عرب البادية قالوا مخارفن ممطوره ساقوها الظريفة الفي الصفات مشكوره قلت : الودع والشلايل والشميلو مدرع علو شديدا فوق كاكوم وقام اضرع عرب البادية والكتب البجيكا مشرع راحلين بي البراريب الشنيفهن كرع كنت أجلس في خيمة من خيام أولاد فحل بشق كنجير وخيام النوراب خيام عز واستقراطية .. وأنا من المؤمنين بطي الزمان والمكان فكأنما طوي الزمان ونحن في بادية العرب وجرير ينشد : متى كان الخيام بذي طلوح ** سقيتِ الغيثُ أيتها الخيامُ وطوي المكان و ( عاكمت ) تلاع شق كنجير أحياء الأعظمية والرصافة وعبد الرزاق عبد الواحد ينشد مخاطباً ولده : يا من شددنا به مجرى مروءتنا ** كما يجاذب زهو الخيمة الوتد فسر على بركات الله يا ولدي ** قد يصلح الغي ما لا يصلح الرشد ما بين قرين أم حياية غربانية حمرة الشيخ وتمثال الحرية بنيويورك ومدرجات جامعات أوهايو وكلفورنيا مسافة من الخيال والمفارقات لا تقاس إلا بالسنين الضوئية استطاع الدكتور إبراهيم الكباشي أن يقطع هذه المسافة وثباً متوشحاً بهمة عالية وذكاءٍ مفرط يجمع بين الماء والنار . وقد شرق السفير د.إبراهيم الكباشي في البلاد وغرب وتقاذفته النوى إلى ديار بعيدة حتى تمثل قول المعري : وسألت كم بين العقيق إلى الغضى ** فجزعت من أمد النوى المتطاول وعذرت طيفك في الجفاء لأنه يسري ** فيصبح دوننا بمراحل وردد مع القائل : أأحبابنا هل تمنحوا الطيف زورة ** وهيهات أين الديلمياتُ من عدنْ وكما يقول أديبنا الفلتة الطيب صالح وهو في أستراليا : ( لا بد من قفزة في الخيال أين وادي العقيق ووادي الخزامى ووادي هور من هذه الأصقاع النائية ). يقول الدكتور إبراهيم الكباشي ( في المحطة قصدت مكتب مبيع التذاكر لأول بص مغادر إلى أثينس ، ما إن تركنا مدينة كولومبس الضخمة حتى طفقت الحافلة تخترق جبالاً تكسوها غابات كثيفة وثلوج ، داخل الحافلة كان دافئاً غير أنه لا أحدٌ يحدث أحداً بينما ينزل خارجها مطر هتون وبرد وزمهرير ، تملكتني وحشة لم أشهد لها من قبل مثيلاً وكانت وحشة فراق أبي وهو يسلمني سائق اللوري من سودري إلى الأبيض غائرة في الذاكرة ) . طريقة الدكتور إبراهيم الكباشي في السرد والطرح المتماسك من الطرائق المتفردة في كتابات السير والتراجم السودانية ولعل المناهج الأكاديمية الصارمة التي تلقاها عبر مسيرته الأكاديمية الباذخة في الجامعات الأمريكية قد أكسبته هذا المنهج ذا التسلسل المنطقي .. أما أنا فأكتب بأسلوب مغاير إن لم يكن مناقض لأسلوبه فأنا أكتب بما يعرف بالاستطراد عند القدماء والتداعي الحر عند الحداثيين . الدكتور الكباشي متخصص في العلوم السياسية وعلى وعي تام بأن التاريخ له أثر متجدد على الحاضر فهو يتوسل بقراءة التاريخ لاستشراف المستقبل ، فالتاريخ هو ديوان المبتدأ والخبر .. ولذلك عنون عبقري التاريخ بن خلدون كتابه بالمبتدأ والخبر وكتب مقدمته الرائعة التي كانت فتحاً جديداً في التاريخ والاجتماع ، والدكتور الكباشي قدم لنا نبذاً في التاريخ وزبداً كانت أشبه بمزبد أمه في تلك ( الجُمع ) من طفولته الرائعة في بادية الكبابيش ، والكباشي أكاديمي متمرس ويكتب احياناً بشاعرية عالية أنظر إلى قوله : فصون جلاء المودة أقيم عندنا من استيفاء الحقوق وهذا يذكرني بقول المتنبي : وإنا نلاقي الحادثات بأنفس ** كثير الرزايا عندهن قليل يهون علينا أن تصاب جسومنا ** وتسلم أعراض لنا وعقول تضمن الدكتور بيت إمام الشعر العربي أبي تمام وكأنه جزء من سياقه النثري وذلك لا يليق بأكاديمي بارع مثله وإن كنت أرجح أن يكون ذلك من أخطاء الطباعة ، قصدت بيت أبي تمام : ثم انقضت تلك السنون وأهلها ** وكأنها وكأنهم أحلام وقصيدة حبيب الطائي مطلعها : دمن ألم بها فقال سلام ** كم حل عقدة صبره الإلمام ولقد تتبعت عقد الشعر العربي ووجدت أولها عقدة أبي تمام هذه وثانيها عقدة الصادق ود آمنة : بحاكي الضفدعة الوابل العين بلاها نامن عقدة الليل الحَمار حلاها وثالثة الأثافي عقدة شاعر الكبابيش الكوني أحمد ود عيسى أبو فديوة يرثي معيزه وقد ضربتهن الصرقاعة أو الطرقاعة ( الصاعقة ) . الطرقاعة فوق ضهب القفير ادلت ضربتهن رمتهن شلوحت واتعلت عفي مي بشارة قول مانعة عقدتي انحلت وقد كان قطيع المعيز عروته الوثقى .. ومراثيه لمعيزه من قلائده الثائرات في الأرض كما يقول بن المعتز . أورد الكاتب في معرض بيت شعري : ( يا جدية الرميد ) وشرحها بقوله : والرميد قش أخضر ولعله صحف كلمة ( المرميد ) ، والمرميد نبت معروف ورهد المرميد من ديارات الحواراب في أعالي منابع وادي الخدم .. ووادي الخدم المتحدر من المردمة من الوديان الساحرة وكنت قد خاطبته ذات ضحىً بقولي : يا وادي الخدم مسرح بنات الجن حلاوة فجرك الزاهي وبلابلو ترن صبح يومك عريساً شمسو ما بتعن وحيا حياهو حياً في حداكا مبن وقد أشار الكاتب إلى العمل الحقلي العظيم الذي قام به البروفيسور عبد الله علي إبراهيم في دار الكبابيش .. وعبد الله هذا أنا أعده ثاني اثنين هما أعظم الباحثين السودانيين من حيث الهمة والإنجاز .. المرحوم الطيب محمد الطيب وعبد الله علي إبراهيم أطال الله عمره ، وعبد الله لا زالت همته مثل ذكرى الناصر قريب لوداي الوكيل بأمبادر . كم لوادي الوكيل عندي ذكرى ** زادها جدةً مرورُ الليالي ولقد سرنا معاشر الرعاة تصديه الباسل للنور حمد في تشريح العقل الرعوي وشتان ما بينهما في الكسب والوهب ، وعبد الله علاوة على علو كعبه في التاريخ فهو من المفتوح عليهم في النظرية الماركسية . ومحمد فال ول البشير صاحب الراديو الذي تطلبه دكتور الكباشي لمعرفة نتيجة قبوله من أولاد أبي السباع جذوره من وادي درعة جنوب المغرب وحتى شمال بلاد شنقيط حيث تمتد مضارب بني أبي السباع ولهم وجود بحوز مراكش ، وقد كان محمد فال هذا رجلاً كريماً يلقبه الكبابيش بكاش لأنه يقول لهم البيع كاش ، وقد مدحته شاعرة الكبابيش بقولها : تاجر السرور يا كاش بزل الصرمه رشاش وتوفي محمد فال هذا بمدينة سبها عاصمة إقليم فزان بجنوب ليبيا ودفن في مقبرة سيدي سهل . ما كتبته ليس عرضاً للكتاب ولا نقداً لمحتواه إنما هي استطرادات وهوامش كانت تعتريني وأنا أطالع هذا السفر النفيس الذي خطه يراع أديب قوي الملكة ناصع الأسلوب متماسك الطرح وهو كتاب قيم جدير بالاطلاع .. وقديماً قال أرسطو : ( تكلم كي أعرفك ) ولكني أقول : ( أكتب كي أعرفك ) . وألحق المؤلف إرشيفاً لصور تذكارية جمعته مع بعض الشخصيات ومن أروع الصور تلك الصورة التي جمعته مع شيخ العرب وناظر الكواهلة الشيخ محمد فضل الله الإعيسر أحد حكماء الإدارة الأهلية الذي قل أن يجود بهم الزمان فتذكرت قول شاعرة الكواهلة : الضهري الكب واتماسك جيداً جيت لي ناسك قبال ما دارق راسك الناس لعبوبنا انقاسك شكراً للدكتور الكباشي على هذا الإمتاع والمؤانسة التي أنستنا ما كتب إمام الإمتاع والمؤانسة وشيخ الوراقين ومؤسس أدب المدن وتاريخ العوام أبو حيان التوحيدي .. فقد أعطانا الدكتور الكباشي عصارة تجربته الرائعة وهي تجربة حقيقة بالإعجاب والاحتذاء ، والتجارب والسير هي رحيق التاريخ وعصير الأجيال في رحلة ظعائن الحياة السائرة على درب التاريخ اللاحب المطرز بعلامات وبالنجم هم يهتدون . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.