الفرح لا يدوم ولا الحزن يدوم فهما أمران فطريان متضدان بل هناك صراع بينهما يخمد أحدهما بطغيان الآخر عليه وظهوره وهكذا الحياة لا تدوم على حال.. فدوام الحال من المحال. أمم تفنى وأخرى تولد وأفراد يولدون وآخرون يموتون .. عزّ وذلً .. صحة ومرض وهكذا.. ولله في خلقه شؤؤن. هذا التقلب هو إبداع إلهي لحفظ توازن الإنسان ولتجدد الحياة فلا الليل دائم ولا النهار دائم لكن الإنسان عادة بين إسراف ذهنى بالغ في الأفراح وكأنه إمتلك الدنيا وما عليها وبين إنتكاس ذهنى بالغ في الأحزان وكأنه فقد الدنيا وكل شيء فيها.. وعلى العاقل أن يتعامل مع الفرح والحزن بمنهجٍ حكيم ..الاقتصاد في الحزن على ما فات والإقتصاد في الفرح بما أقبل. وأحياناً يجتمع الفرح والحزن معاً في آن واحد لحدثين مختلفين تزامنا فتمتزج مشاعر الفرح مع مشاعر الحزن وتمر تلك اللحظات مابين إشعال شمعة وإنهمار دمعة.. وهكذا كان الحال فى 6 يونيو... في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق 6 يونيو 2017 أرسلت لى إبنة أخى الحبيبة رسالة مطولة تهنئنى فيها بعيد ميلادى الذى يصادف ذلك اليوم ولم أتفاجأ بهذا اليوم كما كانت العادة في هذا العمرلأن أحفادى كريم وليلى ومعهما إبنة خالة والدتهم ندى الصغيرة كانوا يعدون لى الهدايا والمفآجآت في ذلك اليوم إحتفالاً بالمناسبة ذاتها إلا أن ما أعدوه من الصباح الباكر ما عاد مفاجأة لى حيث أنهم من الفرحة والإثارة لم يتمالكوا أنفسهم ولم يستطيعوا الصبرلسويعات فأفسدوا بهجة المفآجأة لى ولهم وهكذا الأطفال دائماً كالصحفيين يحبون أن يحوذوا على قصب السبق وخاصة الحفيد كريم الذى كان كعادته أكثر حماساً وشوقاً فأرانى في الخفاء كروت التهنئة وما كتبوه في تورتة عيد الميلاد. في المساء وبعد إفطار رمضان مباشرة سارت الأمور كما يجب وإجتمعنا كباراً وصغاراً وفرحنا وفرح الأطفال ومربياتهم من أهل الفلبين وتغنينا جميعاً حول التورتة باللغة الإنجليزية "هابى بيرث دييى توو يوو" وبالعربية المصرية "سنة حلوة يا جميل" وبالفلبينية " منقايو باتى" - وهنا إكتشفت أن اللغة السودانية قاصرة في هكذا مناسبة - وألقى الحفيد كريم بلغته الإنجليزية كلمة ضافية بالنيابة عى فريق الإحتفال وقال من ضمن ما قال : " أنه وضع شمعتين فقط فوق التورته إلا أن ذلك لا يعنى العمر الحقيقى لجدو وذلك لأننى لو وضعت أكثر من 60 شمعة لأحترقت التورتة بأكملها ولما وجدتم شيئاً تأكلونه.." فضحكنا جميعاً..قالها بكل براءة ولكن ما أستغرب له أنه ما كان مطلوباً منه أن يبررعن عدد الشمعات. وفى أمسية نفس يوم الثلاثاء الموافق 6 يونيو 2017 وبعد صلاة التراويح مباشرة أرسلت لى إبنة أخى الحبيبة رسالة مقتضبة بأن عمها " أبوالروس" قد إنتقل إلى الدار الآخرة الآن. في البداية لم أستوعب الخبرمن هوله كما أننى كنت أتحدث معه هاتفياً قبل سويعات.. فهو إبن عمى "محمد سليمان أبوالريش" الذي تربى معنا في منزلنا منذ الطفولة فأصبح أخاً لى لم تلده أمى.. عُشرة سنوات طويلة ضقنا فيه الحلو من الشقاوة والمرمن العقاب سوياً ثم كبرنا وتفرقت بنا السبل. أبوالروس لم يواصل تعليمه رغم ذكائه وساقته الأقدار أن يدخل مجال التمريض فأصبح ممرضاً في المستشفى الذي يقع في المدينة وبعد دوامه الرسمي يعود إلى قريته التي تبعد عن المدينة ليعمل مناوباً يعالج المرضى ويداوى الجرحى حاملاً حقيبته الصغيرة فيها المعدات الطبية التي تعينه على الفحص والعلاج.. كان يقضى اليوم كله من بيت إلى آخر يسأل عن هذا ويعالج ذلك إلى أن أحيل إلى المعاش الحكومى لكنه لم يقف عن عمله بل ظل يمارس مهنته في القرية بكل صبر وعناية وتفانى إلى أن طاح يوماً في الطريق وكسرعظمة حوضه وأصبح غير قادرٍ على السير بل ظل طريح الفراش.. كان شخصية من الشخصيات الهامة وركناً من أركان قريته..كان شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة وكان عوناً للمرضى المساكين فكسب الأجر للآخرة وحب الناس أجمعين في الدنيا. الموت حق والحياة أيضاً حق.. الموت هو مصير الأولين والآخرين "وكل إبن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول " لكن ما زادنى حزناً على حزن أن "أبوالروس" عانى ما عانى قبل أن يفارق الحياة بسبب جرح أبى أن يندمل لخطأ من طبيب وإهمال من مستشفى خاص في عملية جراحية تفرعت منها ثلاث عمليات لتثبيت الكسر... هذا الجرح الغائر الذى ظل ينزف حتى بعد وفاته نفث سمومه إلى بقية أعضاء جسمه النحيل وعطل وظائفها فذهب إلى خالقه في لمح البصر مبكياً عليه. ومن سخريات القدر أن الرجل الذي كان يداوي الجرحى طوال حياته ليلاً ونهاراً لم يجد من يداوي جرحه فغادرالحياة تاركاً جرحاً عميقاً لوالدته المكلومة وإخوته ورفيقة دربه وأبنائه وبناته وأهله. 6 يونيو أصبح يوماً مشهوداً لإبنة أخى الحبيبة فهو يوم مولد عمّ ورحيل عمّ آخر.. إمتزجت في قلبها شتى المشاعر في ذات اليوم. وخير ما أختتم به هذا االمشهد هو أن نرفع أكف الضراعة لله الخالق المميت أن يتغمد الفقيد أبوالروس بواسع رحمته وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة.. وأن يجعل في مرضه وصبره تطهيراً لذنوبه ورحمة له وثباتاً له عند السؤال.. وأن يجعل مثواه الجنة بغير حساب أو سابق عذاب وأن يصبر والدته وإخوته وزوجته وأولاده وبناته وأهله واحبابه أجمعين.. وإنا لله وإنا إليه راجعون وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. شوقى محى الدين أبوالريش عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. 12 يونيو 2017 /////////////////////