الخلاف الأيديولوجي العميق بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية جعل اتفاقية السلام تكتيكاً وليس خياراً استراتيجياً الدكتور عبده مختار موسي يحلل د. موسي العقبات التي واجها اتفاقية السلام في السودان، ويكشف أهم جوانب الاتفاقية المتعلقة بموقف وفهم الطرفين الأساسيين فيها، كما يأتي: كذلك يلاحظ البعض ان الثنائية في التفاوض وفي الحكم (مؤتمر وطني يعبر عن الحركة الاسلامية، وحركة شعبية تعبر عن حركة التمرد الجنوبي)، ابعدت الاخرين عن الاحساس بملكية الاتفاقية وثبطت همم المؤيدين لها من خارج المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وجعلت اخرين يقفون علي الرصيف متفرجين، وفي الوقت نفسه قللت من فرص التوافق القائم علي القناعات بين الطرفين، نظرا إلي غياب الطرف الثالث المحلي. وصارت المرجعية لحسم الخلافات هي التحكيم مرورا عبر مؤسسة الرئاسة، ومن اهم العوامل هنا هو الخلاف الايديولوجي العميق بين الطرفين، الذي يجعل من الاتفاقية في احسن الظروف مرحلية وتكتيكية اكثر من كونها خيارا استراتيجياً. وربما يفسر هذا تراجع فكرة السودان الجديد التي بشر بها جون غارنغ لكل اهل السودان، وليس لجنوب السودان فقط. 4 اضافة إلي كون هذه الاتفاقية تقوم علي ضمانات دولية، فان كثيرا من القوي السياسية في الداخل وجه نقدا شديدا لها، فهناك من يري ان الاتفاقية تنطوي علي الكثير من النواقص والتناقضات. من اوجه هذه التناقضات ان الاتفاقية اعلنت انها اتافاقية سلامشامل، ولكن نصوصها خالفت هذا المعني لتؤسس صفقة ثنائية بين حزبين. كما ان هذه الاتفاقية اهتمت بتفاصيل دقيقة فيتوزيع مقاعد السلطة، واغفلت مسائل قد تشكل قنابل موقوتة اذا لم تعالج بصورة وفاقية. فهناك عدة مسائل مهمة كانت من اسباب الصراع في السودان ولم تحظ بالمعالجة اللازمة مثل: قضية الاستعلاء والدونية الثقافية والحاجة إلي بروتوكول أو ميثاق مفصل للمسألة الثقافية. قضية العلاقات بين الاديان: الاسلام والمسيحية واليهودية، والاديان السودانية المحلية، كما ان القول ان (الشريعة الاسلامية) واجماع الشعب السوداني مصدر للتشريعات (المبحث الثاني) ربما يفجر مشكلة لان الاديان الأخري (غير الاسلام) في السودان هي ليست محل اجماع، بل هي اديان اقليات، كما ان البعض لا ديني أو وثني. اقتصرت الثروة علي نفط الجنوب، وعلي ايرادات الضرائب وحسب وهذه نظرة قاصرة للثروة في السودان. فهناك الموارد في باطن الارض، وهناك مياه النيل، والملاحظة هنا ان هناك تعميما وعدم دقة في تقسيم الثروة، كما جاء في نصيب ابي من الموارد المالية، حيث جاء في اتفاقية تسوية نزاع ابيي البند (3) 2: نصيب المنطقة في الصندوق القومي لاعادة الاعمار، ونصيب عادل من صندوق جنوب السودان للتنمية واعادة التعمير، حيث لم يتم تحديد نسبة هذا (النصيب العادل)، وبالتالي يكون الامر متروكاً لتقدير السلطات، وهوما من شأنه ان يشكل مشكلة في أي وقت. اهملت الاتفاقية مسألة مهمة عالجتها كل اتفاقيات السلام الناجحة وهي الاتفاق علي مباديء وآليات للتعامل مع مظالم الماضي، حتي لا يؤثر ذلك سلبا في الوفاق والاستقرار. كذلك هنالك نصوص مجحفة لانها تؤسس لدكتاتورية ثنائية وهي: النص علي حرمان الشخص أو الحزب من حقوقه في المواطنة، وفي المشاركة الديمقراطية اذا لم يلتزم بالاتفاقية الثنائية. إقحام ديمومة السلطان الثنائي في صيغة الاستفتاء لتقرير المصير. تقديم إئتلاف عسكري ثنائي باعتباره التكوين القومي للقوات المسلحة. ترك مسألة الانتخابات من حيث قانونها والاشراف عليها، وتحديد مواعيدها لحزبين سياسيين دون غيرهما. 5 كذلك من الملاحظ ان هناك عدة عوامل اثرت في تنفيذ الاتفاقية، وفي درجة تفاعل المواطنين معها، من اهمها: رحيل غارنغ عائقاً الرحيل المفاجيء للدكتور جون غارنغ دي ميبور، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان وهو المهندس الرئيس للاتفاقية قبل بدء التطبيق الفعلي للاتفاقية. د. غارنغ بما يتمتع به من شخصية كاريزمية ورؤية كلية عكستها كتاباته، وبما تميز به من علاقات داخلية وخارجية، كان من المؤكد انه سيسخرها لمصلحة تنفيذ الاتفاقية. وفاة جون غارنغ أدت إلي تأجيل أو تعطيل تنفيذ عدد من الخطوات الاولية والتأسيسية للفترة الانتقالية (الجهاز الاداري للجنوب، والمفوضيات.. الخ) وفاته المفاجأة اعاقت عملية تحول الحركة الشعبية من حركة عسكرية إلي حزب سياسي، وانعكس ذلك في هيمنة المؤتمر الوطني الكاملة (في ما عدا عائدات النفط)، وهيمنة العقلية العسكرية والامنية في ادارة السياسة. ولمتسهم الحركة الشعبية بشكل فاعل في تغيير هذا الواقع، علي رغم التصريحات الايجابية من القيادة. لكن هناك من يري ان الحركة في عهد جون غارنغ قد اخذت بخيار الوحدة لاسباب تكتيكية تتعلق بوعي غارنغ بان الدعوة الصريحة إلي الانفصال ستضيق من مجالات المناورة والحصول علي الدعم، وذلك في الاطارين الاقليمي والدولي. ويكشف الباحث عن ردود الفعل الاقليمية، والجوار السوداني، بشأن الانفصال الاقليمي للجنوب بقوله: فالدول الافريقية لن ترحب بمثل هذه الدعوة طبقا لمبدأ الحفاظ علي الحدود السياسية الموروثة من الاستعمار الذي اقرته منظمة الوحدة الافريقية. كما ان دول الجوار السوداني لن تكون سعيدة بالمطالبات الانفصالية التي قد تنتقل عدواها اليها بسبب التدخلات الاثنية والقبلية العابرة للحدود السياسية. وربما رأي جون غارنغ ايضا ان المطالبة بالانفصال ستؤدي بلاشك إلي استنفار القوي المؤيدة المناوئية. ومن ثم فان وجهات النظر هذه تري ان الطرح الوحدوي لغارنغ يرتكز علي اعتبارات الحاجة إلي الدعم السياسي والمادي والعسكري اللازم لاستمرار حركته، والعمل علي تحقيق مكتسبات متزايدة علي الارض، الامر الذي سيؤدي به في نهاية المطاف إلي تحقيق اهدافه في السيطرة علي السودان، واعادة صياغة هوية الدولة فيه (لبناء السودان الجديد) أو التراجع عن هذا الهدف الكبير اذا اقتضت الضرورة ذلك، والاقتصار علي السيطرة علي الجنوب في كيان مستقل، أو ذي صلاحيات واسعة النطاق. مثل الحكم الذاتي الاقليمي الاشبه بالنظام الكونفدرالي. شكاوي متبادلة هناك شكاوي من كلا الطرفين، احدهما ضد الآخر، في الالتزام بنصوص الاتفاقية، تشتكي الحركة الشعبية من البطء في تطبيق الاتفاقية مثل: عدم انفاذ تقرير الخبراء حول حدود ابيي وانشاء ادارة لها (تم انشاء ادارة مشتركة للمنطقة قبل نهاية العام 2008) وحل المليشيات العسكرية التي حاربت مع الحكومة في الجنوب والشفافية حول عائدات النفط، وتهميش الحركة في العديد من القرارت مثل ملف ابوجا (الخاص بمشكلة دارفور) ومشكلة الشرق (التي تمت اتفاقية حولها في أسمرا في عام 2007) وطرد الممثل الاممي وبعض الدبلوماسيين الغربيين، ومسألة تسليم المتهمين في جرائم حرب في دارفور إلي المحكمة الجنائية الدولية. كما تشكو الحكومة من ان الحركة لم تسلم المعلومات الخاصة بامكان وجود قواتها، وان الجيش الشعبي لم يلتزم بالبقاء في معسكراته القديمة في مناطق الحركة، بل تمدد في مناطق الحكومة بما فيها المدن، وانه هاجم القوات المسلحة في ملكاك مناصرة للفصائل التي انضمت إلي الحركة، وارجاع وحدات القوات المسلحة المشاركة في القوات المدمجة من الجنوب وجنوب كردفان واستمرار التجنيد في مناطق وقف اطلاق النار، وفتح معسكرات استقطاب في جنوب دارفور وغرب كردفان، واستيراد اسلحة ثقيلة للجيش الشعبي، وتخصيص اكثر من 40 بالمئة من ميزانية الجنوب للانفاق علي الجيش علي رغم الحاجة الماسة إلي اعمار البنيات التحتية وتقديم الخدمات، وتعدي الجيش الشعبي علي سلطات ومنسوبي القضاء والامن والشرطة والخدمة المدنية في جنوب كردفان، وطرد مواطنين من الجنوب ومنعهم من ممارسة نشاطهم الاقتصادي، وممارسة نشاطات خارجية دولية دون التنسيق مع وزارة الخارجية، والقيام باعمال دبلوماسية وقنصلية عن طريق مكاتب الحركة في الخارج كذلك التعدي علي سلطات اتحادية في الجنوب، مثل الطيران المدني والجمارك والجوازات والمواصفات والاتصالات والتعدين، ومصادرة مباني كليات الجامعات الاسلامية في جوبا وملكال.. الخ، والمضايقات التي يتعرض لها المسلمون في الجنوب وقد حذر نائب الرئيس طه، حكومة الجنوب من هذه المضايقات. كما تعرض التجار الشماليون إلي اعتداءات في جوبا حيث قتل احد التجار بسكين علي يد احد ابناء الدينكا في الاسبوع في 8 نيسان (ابريل) 2008 وغيرها من الاحداث والاتهامات المتبادلة، التي تؤكد كلها عدم الثقة بين الطرفين، وقد اشارت اليه هذه الدراسة كما مر سابقا. انشغال القوي الدولية الرئيسية الضامنة للاتفاق بحروبها في العراق وافغانستان ومحاربة الإرهاب، مما خلق الانطباع وسط بعض قيادات المؤتمر الوطني بإمكانية التباطؤ والمماطلة في تنفيذ الاتفاقية، خاصة في ما يتعلق بالتحول الديمقراطي، واستبدال القوانين المقيدة للحريات، واعادة هيكلة الجهة الامنية ونزع السلاح الموجود خارج سيطرة القوات المسلحة. ازدياد الفجوة بين الشماليين والجنوبيين علي المستوي المجتمعي عقب احداث الاثنين الدامية (آب (اغسطس) 2008) التي شجعت الانفصاليين في الجنوب والشمال، وقد أشار الفصل الرابع إلي ذلك بالتفصيل. كان المؤتمر الوطني يتوقع ان تكون الحركة جزءا من النظام وسياساته ويكون صوتهما واحدا، غير ان الحركة اختلفت مع المؤتمر الوطني في كثير من التوجهات والمواقف والسياسات، مثلا رفضت الحركة تقييد حرية الصحافة وحرية الرأي، ووقفت في وجه المؤتمر الوطني في القضايا المتعلقة بالحريات العامة. كذلك بشأن ملف دارفور رفض المؤتمر الوطني دخول القوات الدولية إلي دار فور بينما تؤيد الحركة ذلك. المواطن وعائدات السلام كذلك في شأن مذكرة مدعي المحكمة الجنائية الدولية (لويس مورينو اوكامبو) الخاصة بتوقيف علي كوشيب واحمد هارون ثم الرئيس البشير اذ رفضت الحكومة التعامل مع المحكمة الجنائية، بينما ايدت الحركة الشعبية التعامل مع المحكمة وتسليم المطلوبين، كذلك سحبت الحركة الشعبية 42 من اعضائها (في الجهازين التنفيذي والتشريعي) احتجاجاً علي هجوم الشرطة علي معسكر كلمة (جنوب دارفور) في 25 آب (اغسطس) 2008 بحجة البحث عن السلاح، حيث قتل 36 شخصا منهم 22 امرأة و13 طفلا، وجرح عشرات النازحين في المعسكر. ثم يكشف الباحث السلبيات العديدة التي رافقت الوضع بين شريكي نيفاشا كما يأتي: 6 يمكن الحديث عن الوضع بين شريكي نيفاشا بعد مرور أربعة اعوام في انه يتسم بالسلبيات الاتية: علي رغم اتفاقية السلام الا ان المواطن السوداني حتي الآن لم ينعم بعائدات السلام أمنا أو رخاءً اقتصادياً فميا زالت الضرائب عالية وتكلفة الخدمات في ارتفاع وكذلك غلاء المعيشة وزيادة نسبة الفقر والمعاناة، علي رغم انتاج وتصدير النفط وتوقف الحرب. انتشار السلاح بين الافراد والانفلات الامني في المدن، كما حدث في جوبا وملكال والكلاكلة وام درمان وابيي، وما حدث ويحدث للشماليين في الجنوب (انظر الفصل الرابع) اضافة إلي وجود اكثر من 600.000 قطعة سلاح (غير مرخصة) في أيدي المواطنين في جنوب كردفان وحدها. تردي الحماسة لدي المواطن للاتفاق حتي في الجنوب علي رغم كل المكتسبات علي المستوي الحكومي فمازالت عمليات اعادةالاعمار ضعيفة وعودة النازحين محدودة. استمرار احتكار الدولة للاعلام المسموع والمرئي، وتبني وجهة نظر الحكومة (مع اغلبية المؤتمر الوطني)، الامر الذي لم يسهم في نشر الاتفاقية أو تناولها الموضوعي ونشر ثقافة السلام. حالة الاحباط منذ وفاة غارنغ وما تلاها من احداث ربما تدفع في اتجاه الانفصال خاصة مع وجود عناصر من الشمال والجنوب لها مصالح مباشرة في الانفصال. الوضع الدستوري الانتقالي الحالي للجنوب، والتسليح الكبير والنوعي للجيش الشعبي الذي يسيطر علي الامن في الجنوب، واستمرار الخلافات بين الشريكين في كثير من القضايا الاساسية، والمستجدات المختلفة كلها عوامل قد تجعل الحركة الشعبية تنزي تدريجيا في الجنوب وتنسحب من القضايا القومية وكل ذلك ربما يشجع الاتجاه نحو الانفصال. اتفاقية نيفاشا، بما منحته للجنوب من سلطة وثروة شجعت الجماعات المسلحة الأخري المعارضة مثل الشرق ودارفور علي المطالبة بمنصب نائب الرئيس. وهذا من شأنه ان يسبب عدم استقرار في الدستور، ويشجع المزيد من الجهات الأخري علي مطالبات مماثلة مما يسبب تقعيدات سياسية اخري. ابرم نظام الانقاذ اتفاقيات سلام (معيبة نجحت في ارضار بعض القوي السياسية، ولكنها لم تنجح في بناء السلام العادل الشامل، بل صارت مدخلا إلي تدويل الشأن السوداني بصورة غير مسبوقة) كما حدث في دارفور وجنوب كردفان. حتي منتصف عام 2009 مازالت العلاقة بين الطرفين مأزومة ومتوترة ومن امثلة ذلك: أ في ايار (مايو) 2009 صرح احد قياديي الحركة الشعبية لتحرير السودان ان حركته سوف تشن حربا علي الحكومة ما لم يتم حسم القضايا الست العالقة ومن اهمها: عدم تنفيذ اتفاق نيفاشا روحاً ونصاً وموقف المؤتمر الوطني من تبعية منطقة ابيي للجنوب (وقد صدر الحكم بشأنها في 22 تموز / يوليو 2009) وتسليح المؤتمر الوطني لبعض قبائل الجنوب لتقاتل الحركة الشعبية. ب كشفت الحركة بان لها خطة اسمتها (ب ج) ستتخذها لاحقا في حال تعنت المؤتمر الوطني في انفاذ القوانين وتنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وصرح يان ماثيو الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية ان هناك مجموعة في المؤتمر الوطني تعرقل القوانين وتسعي إلي نسف الاتفاقية، وقال ان الحركة سترد علي أي هجوم من المؤتمر الوطني بالادلة الدامغة، خاصة في ما يتعلق بالفساد في الحكومة، واتهم المؤتمر الوطني بانه يسعي إلي شق الحركة بتسجيل اسم في الخفاء (هو الحركة الشعبية التغيير الديمقراطي) ووصف ذلك بسيناريو اطلق عليه (المؤامرة الكبري)، وبالفعل اعلن د. لام اكول في الاسبوع الأول من حزيران (يونيو) 2009 انشقاقه عن الحركة الشعبية، وتأسيس حزب جنوبي جديد بذلك الاسم المشار اليه سابقا. ج صرح سالفا كير رئيس الحركة الشعبية، ورئيس حكومة الجنوب في 18 ايار (مايو) 2009 انه غير راض بنتيجة التعداد السكاني التي قالت ان شعب الجنوب يشكل 21 بالمئة من سكان السودان ويري انهم يشكلون ثلث سكان السودان وليس خمسه. واعترضت الحركة علي ما جاء في نتيجة الاحصاء الذي تتم علي اساسه الانتخابات وهددت بمقاطعة الانتخابات ان تمت علي اساس هذا التعداد