المواطن السوداني مواجه هذا الأسبوع بموجة غلاء طاحنة جديدة، عندما تبدأ الحكومة في تنفيذ سياساتها الاقتصادية الهادفة لسد العجز في موازنة الدولة عبر تحميل المواطن المغلوب على أمره كل نتائج الأخطاء المتراكمة في إدارة الاقتصاد السوداني, والأزمة الحادة التي فجرها انفصال الجنوب وخروج ثلاثة أرباع إنتاج النفط السوداني معه، منهياً بذلك الحقبة البترولية السودانية التي استمرت أكثر من عقد من الزمان كان خلالها السودان دولة منتجة ومصدرة للنفط، مما وفر للسودان -رغم محدودية الإنتاج- قدراً من الدخل لم يشهده من قبل. ولا يعرف أحد أين ذهبت كل تلك العائدات من السنوات النفطية لانعدام الشفافية في التعامل مع هذه العائدات, لكن المؤكد أن السودان لم يستثمرها في تطوير قطاعاته الإنتاجية الزراعية والصناعية, ولا في بناء احتياطي من العملات الأجنبية كي يعتمد عليه في السنوات العجاف, والمسؤولون كانوا يعرفون سلفاً أن جنوب السودان قد ينفصل وفق نصوص اتفاق السلام ويحمل معه معظم حقول النفط، وكان ذلك هو الخطأ الأول في إدارة الاقتصاد السوداني مع أن النذر كانت واضحة. وحتى بعد انفصال الجنوب لم يجد الوضع الاقتصادي الاهتمام الذي يستحقه، ولم تتعامل الحكومة مع الواقع الجديد بالجدية المطلوبة, ولم تستفد من الميزة النسبية التي توفرت لها بسبب أن كل البنى التحتية لمعالجة إنتاج البترول الجنوبي وترحيله عبر خط الأنابيب وتصديره عبر ميناء بورتسودان -كانت كلها في الشمال وليس للجنوب أي بديل آخر في المستقبل القريب- وبدلاً من أن توظف هذه الميزة بطريقة منطقية لمصلحة الاقتصاد السوداني ولمصلحة جنوب السودان لتؤكد على الاعتماد المتبادل آثرت أن تبتز الجنوب اعتماداً على حاجته الملحة لهذه البنيات النفطية التحتية، التي لا يملك الجنوب بديلاً لها, فضاعفت الرسوم التي طالبت بها إلى درجة غير معقولة ولا مقبولة, وكان تقديرها أن الجنوب سيركع أمام هذا الابتزاز لأنه لا يستطيع أن يؤسس دولة قادرة على البقاء إذا لم يصدر بتروله، وليس أمامه من سبيل إلا تصديره عبر السودان، ولكن الجنوب فاجأ الحكومة باتخاذ القرار الانتحاري غير المتوقع بوقف ضخ نفطه, وهو يعلم مدى ما يلحقه به من ضرر, وأضر القرار بالاقتصاد السوداني أيضاً ضرراً بالغاً. وقد أثبت الجنوب وهو يتخذ هذا القرار قدرته على المناورة،واضطر الشمال أن يقبل رسوماً أقل من ثلث ما كان يطالب به, فقبل رسماً لعبور برميل النفط يتراوح بين 10 و11 دولاراً للبرميل بدلاً من ال36 دولاراً التي طالب بها بداية, ولكن هذا القرار جاء بعد خمسة عشر شهراً من وقف ضخ النفط, وبذلك فقد السودان بسبب هذا التوقف 5 مليارات دولار كان سيجنيها من عائدات عبور النفط, ومن اتفاقية الإجراءات المالية المؤقتة التي كانت تضمن له تعويضاً لفقدان عائدات النفط بالانفصال, وثالث الأخطاء التي ارتكبها السودان كانت إغلاق حدوده مع الجنوب بسب المشاكل الحدودية, وأوقف بذلك التجارة بين البلدين التي كانت مرشحة لأن تدر على الشمال مليارين من الدولارات سنوياً، وبفقدان كل هذه العائدات تضاعفت الفجوة الاقتصادية بصورة غير مسبوقة. كانت النتيجة الحتمية لهذه الأخطاء زيادة المشاكل الاقتصادية وعدم الاستقرار الاقتصادي، وحدوث ارتفاع متصاعد في التضخم, وانخفاض قيمة الجنيه السوداني واختلال في الميزان الداخلي والخارجي, وزيادة عجز الموازنة وشح في النقد الأجنبي, مصحوباً بالعجز في الميزان التجاري, واعتمدت الحكومة أكثر وأكثر على طبع النقود والتمويل بالعجز, وقصارى ما أقدمت عليه هو وضع ما أسمته بالبرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي، الذي كانت تعتمد عليه في إحداث إصلاح سريع, لكنه لم يسجل نجاحات تذكر في نهاية عامه الأول, ولم تنفذ الوعود التي أجزلت بضبط الإنفاق الحكومي،فلم يتحقق حتى الآن فرض ولاية وزارة المالية على المال العام, وما زال التجنيب مستمراً والترهل في جهاز الدولة قائماً, والفساد متواصلاً, ولم تحقق الخطة الزراعية أي تقدم محسوس في الإنتاج, وكل التحسن الذي طرأ جاء نتيجة لموسم أمطار جيد, ولم يتم ابتداع أوعية إيرادية جديدة, ولم ترفع كفاءة التحصيل, والأخطر من هذا أن الصرف على الحرب تزايد بسبب قرارات سياسية ألغت اتفاق نافع/عقار الذي كان مرشحاً لتجنيب البلاد ويلات الحرب في الولايتين, فاندلعت الحرب وتضاعف الصرف عليها, مؤدياً إلى مزيد من الضغوط على الاقتصاد المنهك أصلاً. تحت هذه الظروف تتحرك الحكومة الآن لترمي بكامل العبء على كاهل المواطن المنهك, والسياسات الجديدة ليست قاصرة على رفع الدعم عن بعض المنتجات البترولية, ولكن ما تسرب من خطة وزارة المالية يفيد أن ثمة عناصر أخرى في المشروع مثل زيادة سعر الدولار الجمركي، مما يرفع حصيلة الرسوم الجمركية, وبالتالي يحدث زيادة في أسعار كل السلع وزيادة القيمة المضافة وغير ذلك. وكل هذه الإجراءات التي يقع العبء الأساسي فيها على المواطن لا تعالج الخلل ولا تخاطب جذور المشكلة, ولا يعدو الغرض منها أن يكون معالجة الميزانية الجارية, وتظل الأزمة الاقتصادية الشاملة تراوح مكانها! إن رفع الدعم عن المحروقات هو الجزء البارز من جبل الجليد, ولو نفذت مقترحات وزارة المالية بكاملها فإنه سيكون من المستحيل على المواطن الحصول على ضروريات الحياة. د. محجوب محمد صالح عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.