هل رضيت؟    موقف موسى هلال يجب أن يسجل في دفاتر التاريخ    الخال والسيرة الهلالية!    الدعم السريع يغتال حمد النيل شقيق ابوعاقلة كيكل    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    وصول البرهان إلى شندي ووالي شمال كردفان يقدم تنويرا حول الانتصارات بالابيض    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    نائب البرهان يصدر توجيها    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    أمانة جدة تضبط موقعاً لإعادة تدوير البيض الفاسد بحي الفيصلية – صور    لافروف: العالم يشهد أزمة في مجال الحد من التسلح وعدم الانتشار النووي    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    بمشاركة أمريكا والسعودية وتركيا .. الإمارات تعلن انطلاق التمرين الجوي المشترك متعدد الجنسيات "علم الصحراء 9" لعام 2024    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    محمد وداعة يكتب: حميدتى .. فى مواجهة ( ماغنتيسكى )    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسكوت عنه في الموقف المصري من ثورة السودان
نشر في سودان موشن يوم 09 - 10 - 2013

*المراقب لكم المقالات التي كتبها مفكرون وكتاب ومحللون وصحافيون مصريون, منذ تفجرت ثورة سبتمبر الظافرة لا محالة, لا يشعر بتفاؤل في أن "الثورة
المصرية" على الرغم من أنها نقلت الشعب المصري نقلة نوعية على مستوى "الوعي والإدراك السياسي" بخطر الأخوان المسلمين على حاضر ومستقبل الدولة المصرية, وفي الوقت ذاته عمقت في وجدان المصريين "أهمية وقيمة" الديموقراطية كممارسة وأسلوب في حياتهم, إلا أنك عندما تنظر من الجانب الآخرلكتابات بعض المفكرين والكتاب والمحللين السياسيين والصحافيين المصريين, تشك في أن النقلة التي حدثت للشعب المصري قد حدثت لهم هم أيضا؟!
إذ لا تزال تختبيء بين سطور كتاباتهم وفيديوهاتهم–التي تصل إلى المواقع السودانية بطريقة أو أخرى-والتي ليس لها أي تأثير على توجيه أو تشكيل وعي القاريء السوداني كما قد يخطيء الظن من يتوهم ذلك, بسبب ما تنطوي عليه من أجندات تتعلق بالأمن القومي المصري, مغفلة ومتجاهلة مصالح السودان وأمنه وسيادته على أراضيه؟ ولربما لهذا علاقة بعقلية "الفلول" و"الحس الأمني" المناصر لكل الديكتاتوريات في المنطقة, والمعادي للديموقراطية في السودان "خصوصا", مما يشكل حجر عثرة أمام البلدان الجاران في علاقة طبيعية تقوم على إحترام خيارات الآخرين والندية وحسن الجوار.
*كما أن إستدامة وتكريس الديموقراطية (في السودان) بما تنطوي عليه من قيم قبول الآخر وإحترامه- في تقديري الخاص- لا تشكل خطرا على الأنظمة في مصر -بصرف النظر عن طبيعة النظام الذي يحكم مصر- كما أن الديموقراطية لا تتوقف بالنسبة للسودان عند حدود كونها "أداة تصريف سياسي" فهي أيضا "قاعدة لتنمية مستدامة" تفضي للإستقرار والإزدهار والقوة, وبالتالي إحتلال السودان لموقعه الرائد الذي أقعسته عنه الأنظمة المتعاقبة, وهو موقع طليعي متقدم في المنطقة العربية والأفريقية, والسودان يستحقه عن جدارة وهذا لا يشكل خطرا على مصر في شيء!
*ولكن هذا ليس جوهر المسألة الآن فجوهر المسألة أن عقلية المحللين والمفكرين "الفلول" الذين ثار شعب مصر على نظامهم القابض منذ1952 لا تزال هذه العقلية تعتقد أنها (تعرف وتعي وتدرك السودان) أكثر من أهله –بينما لا يفترض السودانيون أنهم يعرفون مصر أكثر من أهلها, فأهل مكة أدرى بشعابها- وتتوهم هذه العقلية أنها وصية على السودان, فهي بطريقة أو أخرى إمتداد لعقلية محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة, والذي غزت وأحتلت جيوشه السودان في 1821 طلبا للمال لمشاريع التعمير وبناء مصر وطلبا للرجال لأجل تجهيز جيشه لحماية نزعته الإستقلالية عن الخلافة التركية!
*كيف يخرج هذا التريخ المزري لعلاقة المستعمر (بكسر الميم) بالمستعمر (بفتحها) إلى السطح من غياهب الماضي المظلم؟.. التاريخ حلقات متصلة ووقائعه من الممكن أن تستثار متى وجدت المحفزات اللازمة, على سبيل المثال عندما تحتل مصر أراضي سودانية (حلايب وشلاتين) هذا سلوك عدائي يستصحب معه حتى ممارسات جباة محمد على للضرائب من أجدادنا السودانيين الفقراء والكادحين, بإستخدام وسائل وحشية جدا لدرجة ضربهم وجلدهم ووضعهم في الخازوق! ليس بإمكان أي شخص ينتمي لبلاده إلا أن يدين مثل هذا السلوك رغم أنه ينتمي للماضي, فهو يستصحبه معه في سعيه لتحرير بلاده من غزاتها ومحتليها بكل السبل!..
وعندما يتحدث أيمن نور وقوى المعارضة المصرية "بالطريقة التي تحدثوا بها" عن السودان, إبان أزمة سد النهضة الأثيوبي, في إجتماعهم بالرئيس المخلوع مرسي. هذا أمر لا يمكن القبول به, لأنه ببساطة يكشف العقلية التآمرية التي تفكر بها بعض النخب المصرية في السودان وشعبه, وتؤكد الصورة الساخرة التي تصورها السينما والدراما المصرية للسوداني!..
وعندما يتكلم مرشح رئاسي بطريقة لا تخلو من صلف وعجرفة الأتراك الغزاة, بأنه لا يعترف بدولة إسمها السودان متجاهلا أن السودان دولة عضو في الأمم المتحدة وفي العديد من المنظمات الإقليمية والدولية ولها جنسيتها وعملتها وعلمها ونشيدها الوطني وكل رموز السيادة وحقوقها في السيادة على كل أراضيها وحمايتها من الغزاة بما في ذلك (حلايب وشلاتين) فمن المؤكد أن مثل هذا التجاهل لحقائق التاريخ والحاضر, سينضاف إلى ما تراكم في فجوة علاقة السودان بمصر!
فبدلا عن التفكير في تنفيذ الأجندات الأمنية من خلال توظيف وسائل الدعاية والإعلام, سخروا الإمكانات التي تمضي في هذا الإتجاه, في إبتداع وسائل تردم فجوة الثقة بين نخب البلدين, بحيث تراعى مصالح الشعبين معا ومن موقع الندية وليس من موقع "الشقيقة الكبرى للعرب" فنحن أساسا لسنا عربا خلصا فالعروبة هي مكون واحد فقط في خريطة التنوع السوداني؟
بموجب هذه المقدمة الطويلة ما الذي بإمكان "مصر الثورة" التي أصبح منظري النظام السابق يتحدثون بمنطق ثورتها اليوم؟ ماذا بإمكانكم أن تقدموا "لسودان الثورة"؟ فلا محالة أن ثورته ستنتصر بإرادة شعبها قبل مساعد الآخرين حتى لو لم يناصرها أحد في العالم كله لأنها ثورة حقوق مشروعة؟
ذلك هو ما يهمنا الآن كسودانيين: نجاح ثورتنا, بإسقاط هذا النظام وليس (إصلاحه أو تغييره) لأن إصلاحه أو تغييره لا يخدم مصالح شعب السودان ووحدة أراضيه وتنميته وقوته وإزدهاره, خصوصا أن السودان غني بالموارد ويفتقر فقط للإدارة الرشيدة, التي لا تتأتي إلا بإجتثاث هذا النظام من جذوره.
ولهذه الأسباب كلها نصر على قراءة ما خلف السطور, التي يكتبها الآخرون عن الثورة السودانية وقضايا السودان –التي بالنسبة لهم مجرد ملف أمني- قبل أن نقرأ السطور نفسها! إذ يتوهمون حسب تقارير المخابرات أنهم يعرفون السودان أكثر من معرفة شعبه به ويجنحون في خيالهم بصياغة سيناريوهات محتملة لا محالة ستؤول إليها بلاد السودان في ظروف الثورة الحالية, بحزم وجزم يحسدون عليه! فهم أهل القول الفصل حتى في معرفة اللغة؟
ما الهدف من قول كل ما سبق؟
الهدف هو أن "الفلول" لديهم رأي حتى في طريقة نطقنا للحروف "الشعب يريد إصقاط النظام" كما نشرت الراكوبة هنا مقالا للكاتب المصري عيد "أسطى فانوس" فإستهلاله لمقاله بهذه الطريقة ليس فيه طرفة أو نكتة أو "خفة دم" ففي تقديري الخاص أن السودانيون عموما لا يعيرون أدنى إهتمام لتدخل العامية المصرية في تحريف "الميزان الصرفي للفعل" إذ يضيفون"شي" و "هوشي" لأي فعل على كيفهم!
لكن هذا شيء لا يهم السودانيين ولا يشغلون به أنفسهم في كثير أو قليل.. فالعامية المصرية ليست عاميتهم.. لهجتهم وطريقة تعاملهم مع اللغة كمصريين وهم أحرار فيها, فالكلام عن "أصل الفعل" و"المجرد والمزيد فيه", عند العرب لديه ضوابط محددة (راجع الجابري – نقد العقل العربي: البنية والتكوين والعقل السياسي). والكلام هنا سيطول, وقد يقودنا للفرق بين الإنجليزية الأكاديمية ولغة الشارع, وإختلاف طريقة وسرعة الكلام من منطقة لأخرى في الولايات المتحدة,مثلا. والتي هي الدولة العظمى الأكثر تقدما في العالم الآن حتى على مستوى اللغة, بدليل تبني الكثير من الدول الناطقة بالإنجليزية للنطق الأمريكي وهو ليس موضوعنا لكن لتعميم الفائدة كاتب هذا المقال من أنصار المفكر المغربي محمد عابد الجابري وليس من أنصار المفكر المصري حسن حنفي.
أن عقلية "الفلول" التي لا تزال تنظر للسودان كملف أمني - رغم التطورات المدنية التي أفرزتها الثورة المصرية المجيدة على مستوى مفاهيم الشعب- هذه العقلية ترتبط بالمخاوف المصرية حول وضع النوبة, الأقباط , بدو سينا, مياه النيل,أمن البحر الأحمر, إلخ.. من ملفات تتعلق بالمصالح المصرية –وهي مصالح مشروعة ولكن في حدودها القانونية التي تستمد مشروعيتها من قانون الندية والحقوق وليس التبعية هذا فيما يخص مياه النيل وأمن البحر الأحمر والملفات المعلقة كالإحتلال المصري لأراض سودانية "حلايب" و "شلاتين"- كما أنه ليس بالضرورة أن تتمخض ثورة السودان عن تفكك لأوصال الدولة السودانية أو "صوملة" بما يؤثر في قضية النوبة أو الأقباط, فهذه قراءة المخابرات المصرية الرائجة لدى النظام والقوى الطائفية خصوصا "طائفة الإتحاديين" وقد تبناها حزب الأمة أيضا ومنذ وقت مبكروجعل منها فزاعة لقطع الطريق أمام الثورة لحماية مصالح الطائفية!
وتتعلق هذه القراءة بالنقطة المشتركة, التي تلتقي فيها مصالح الطائفية والديكتاتورية الإسلاموية الحاكمة مع مصالح مصر, فنجاح الثورة السودانية دون أن "يتصومل السودان" وهو الإحتمال الراجح وفقا للتطورات الأخيرة في المشهد السياسي السوداني فيما يخص تلاقي بعض القوى الديموقراطية السلمية في فهم مشترك مع القوى المسلحة, ما قد يفتح الطريق لتحالف عسكري مدني أوسع في حال تعذر "صغوط" هذا النظام الفاسد..
تحالف تكون لديه القدرة الكافية "لإصغاط" النظام . وفي هذه الحالة سيكون هناك سودان موحد وواحد وقوي بموارده المادية وإمكاناته البشرية, يلعب دوره الرائد المستقل عن التبعية لأي دولة! في الإقليمين العربي والأفريقي ولكن يبدو أن فكرة "مصر الشقيقة الكبرى للعرب" لن يسعدها هذا بما أثبتته تجربتها التاريخية في دعم ديكتاتوريات السودان.
مصر كدولة إستعمارية سابقة تعلم أكثر من غيرها –ربما في لا شعورها التاريخي-أن السودان مقبرة للغزاة والمستبدين, وربما هذا ما يجعل محلليها ومفكريها الذين لا زالوا يفكرون بعقلية "الفلول" يتعاملون الآن تجاه الثورة السودانية بحذر بالغ..
لكن ما نود التأكيد عليه هنا أنه من الواضح أن تجارب "دول الربيع العربي المزعوم" وصلت إلى طرق مسدودة, و بحاجة لربيع عربي آخر لإنجاز مهام التغيير الديموقراطي, وهذا بالطبع رأي بعض المفكرين والمحللين الذين ينتمون لدول الربيع العربي, والسودان كبلد أساسا لا يتغشاه الربيع في أي فصل من فصوله الحصرية الثلاثة "الشتاء, الصيف والخريف" تجربته الثورية مختلفة عن دول الربيع, وعلاقته بالديموقراطية والحريات أيضا تختلف عن دول الربيع, فالسودان يتميز عن الدول العربية بالخصوصية الفائقة, التي تعطي ثورته طابعها وملامحها الخاصة بها التي قد لا تتشابه مع تجارب دول الربيع. والحديث عن "الخصوصية" هنا في مستوياتها المختلفة سواء كان على مستوى الهوية أو الثقافة أو الأعراق,
معقد جدا.لكن ما يهمنا فيه هنا أنه بحكم هذه الخصوصية التي تعتبر نقطة جوهرية.. إذ بقدر ما يستصحب طابع الصراعات فيه نمط الصراعات الأفريقية المسلحة, إلا أن التغييرات الثورية فيه "تاريخيا" لم تنحى ذات المنحى الأفريقي الدموي والتمزقي. و"السودان اليوم -كما قال الكاتب العراقي رعد محمود على صفحات الراكوبة- مخاضا حقيقيا "سيقلب الموازين في المنطقة, وسيغير وجه الثورات وسيكن مثالا حقيقيا لما تؤمن به الجماهير من خلاص من الأنظمة الغبية الفاشلة".
على أية حال من المفيد للأخوة المصريين أن يدركوا ثمة حوارات "حقيقية وجادة" تجري الآن في المشهد السياسي السوداني في الداخل بين الداعين لإسقاط النظام, وذات الحوارات حاضرة بقوة في المشهد الخارجي للمهاجرين والمغتربين السودانيين ودعاة الإصلاح والتغيير, وما صاحب ذلك من دور تفاعلي وفاعل للإعلام الجديد, أثمر نوع من الإستمرارية لحركة الإحتجاجات, التي لفتت إنتباه العالم والإقليم بأن هناك ثمة خطأ ما في السودان! منذ لحظة تداول المحتجون لرؤاهم عبر المشاركات الإجتماعية وشبكات التواصل والهواتف وصولا للحظة الإختبار الأولى بهجر مقاعد الدراسة والنزول إلى الشارع.
ليصل الحوار الجاري إلى تدشيناته الأولى كصراع بالأفكار والرؤى, حول شكل السودان الجديد ومضمونه.. نوعية الدولة ونظام الحكم ومن تخدم الدولة وعن من يعبر نظام الحكم وكيف يحكم من يمارس الحكم؟
وصحيح أن القتل الذي طال المحتجين وحملات الإعتقال الضارية, أثرت في حدة الثورة لكن هذا لا يعني أن جذوتها قد خمدت, فصراع الأفكاروالرؤى لا يتوقف في أية لحظة من لحظات التاريخ أو مرحلة من مراحل منعرجاته ومنعطفاته الحادة, ولن يتوارى بحكم أنه عملية ديناميكية مستمرة الحركة, فصحيح قد تتغير أدوات الصراع وأشكاله وأساليبه وطبقاً لذلك تتغير أيضاً نتائجه, لكنه يظل صراعاً تتعدد أوجهه وتتعرج مساراته, ولا أحد يستطيع أن يصفه بغير حقيقته ومفهومه, الذي إنطوت عليه ثورة تحاول فض الإشتباك بين مفاهيم أساسية, مثلت قلقا وتوترا للشعب ونخبه وقواه الحية: كمفاهيم الديموقراطية, والعلمانية, العدالة الإجتماعية,المدنية, الإسلام السياسي, الليبرالية, الإثنية, الطائفية,إلخ..
فالسودانيون ظلوا يتصارعون حول هذه الأفكار المركزية, التي تحدد شكل الدولة ونظام حكمها في كل المراحل التي سبقت ثوراتهم الكبرى كأكتوبر 1964 وأبريل 1985 والتي خضبوا فيها بدمائهم تراب هذه البلاد الكبيرة.
وصحيح أن بعض الأفكار الإنقلابية التي هي رصيد للإسلام السياسي, كالإثنية والطائفية والدكتاتورية, نجحت في بعض مراحل الصراع السوداني, عبر سلاسل من الحروب والمجازر والتصفيات والتهميش والإقصاء, في فرض أفكارها الرجعية لحين من الدهر, لكن كانت سرعان ما تسقط تحت ضربات قوى الثورة والتغيير الديموقراطي.
السودان لم يشهد عبر تاريخه منذ نال إستقلاله في 1956نظاما قابضا على السلطة لربع قرن من الزمان سوى هذا النظام, وذلك لأنه أستعان بأرصدته الطائفية وتحالفاته الإثنية وتوظيفه للدين كرأسمال رمزي لمد عمر بقاءه, وهذا أحد أهم الدروس المستفادة من ثورة سبتمر الراهنة, التي لا زالت عملياتها تجري للوصول إلى لحظة التتويج النهائية, حتى لو إتخذ الصراع أشكالا متعددة لم يألفها السودانيون في تجاربهم الماضية في الصراع ضد النظم المستبدة, فالآن الأمر أكثر تعقيدا من الظروف العامة أو الخاصة التي أسهمت في إسقاط الفريق عبود في 1964 أو النميري1985.
ولذلك ما قد يظنه المراقب لعمليات الثورة وتفاعلاتها أحيانا, بأنها فقدت جذوتها يظل واهما. فالشعب السوداني جبل على عدم الإستسلام للدكتاتوريات والنظم الثيوقراطية, وظل يسجل مواقفه النضرة ضد القمع والفقر والجوع بل ويتمرد حتى على الديموقراطيات عندما ترتد على جوهر الديموقراطية, كتجربته مع النظام الديموقراطي في1964 و1985 ومظاهراته ضدها لتصحيح مساراتها لخذلانها تطلعاته وأحلامه ولذلك نزعم أن تجاربه وخبراته العميقة مع الديكتوريات والنظم الديموقراطية في هذه المرحلة هي مصدر الإلهام الأساسي لثورته في سبتمر الماثلة والمستمرة. فتلك الخبرات العميقة مدعاة لاكتشاف بذور الثورة وإعتمالها ومصادر إلهامها الوطني, وحتمية إنفجارها كما أنفجرت سبتمبر2013 بشكل مباغت ومفاجيء و غير متوقع من قبل الكثيرون من دعاة "الكوديسا والتغيير" و " الإصلاح" والنظام نفسه..
فالثورة هي "إسقاط لنظام فاسد" وأجتثاثه من جذوره, فهي تغيير يطال حتى الأسس الإجتماعية للحكم ولا يتوقف فقط عند الأسس الآيديلوجية الفكرية أو السياسية, بالتالي هي ليست تغييرا محدودا كما يتغنى قادة الطائفية الآن أو إصلاحا كما يرغب بعض رموز الإسلام السياسي الذي حكم البلاد لربع قرن ويرغبون القفز بالنظام في قطار الثورة إنقاذة لمشروعهم الإسلاموي الفاسد!
لذلك المتوقع من "المعارضة الطائفية الهشة وحلفائها الإسلامويون في النظام الحاكم" الذي يواجه الشعب الآن بصدره العاري دباباته وتاتشراته.. عليهم أن يفهموا أن الثورة الراهنة, هي حالة تبشير مستمرة بتحول سياسي واجتماعي هائل, جذري وعميق في بلاد السودان يطال حتى وظائف البنى الإجتماعية في علاقتها الجدلية بالشعب والدولة.
فالثورة السودانية الحديثة بجذورها العميقة في تاريخ السودان, التي تمتد حتى 1924 نجد نوياتها في ثورة جنوب السودان في 1955 والتي تمخضت عن إنفصاله, بسبب السياسات الخاطئة للأنظمة المتعاقبة والنظام الحالي, التي حولت الشعب إلى عدو ما أدى للإنفصال في 2011 ونجد ذات النويات في الثورات الطرفية المسلحة الأخرى, والثورة السلمية الراهنة التي تعتمل في المركز والشمال عموما والتي هي ليست إلا صراعاً سلمياً بصدور عارية أشهر فيه الشباب والشابات في كل المدن والأقاليم الهتافات بدلاً عن قنابل الغاز والمصفحات وعربات التاتشروالرصاص الحي, يواجهون الموت ببسالة وجسارة نادرة كجسارة أجدادهم في شيكان. فأرتعب النظام الإسلاموي وتخبط وحدثت فيه التشققات بفعل هذه الجسارة وهذه نقلة كبيرة في صراع قوى الثورة ضد هذا النظام الفاشي. بل أحدثت نقلة على مستوى الخطاب السياسي الديموقراطي المعارض وتشرخات حقيقيةلا في النظام فحسب,
بل في جسد الحزب الحاكم أيضا, وهذا بمثابة قفزة الفهد الديالكتيكية.
ولا تزال ثورة سبتمبر تثمر نتائجها, فالصراع لا يزال مستمرا بطرق مختلفة, فهذه ثورة حقيقية لا محالة ستتمكن من إنجاز الأهداف التي فشلت فيها ثورات السودان السابقة, والتي قد تعيد السودان لوضعه الرائد في المنطقة العربية والأفريقية, ولذلك الإقليم العربي والأفريقي مهتم بما يجري في السودان, فقيام ثورة حقيقية قد يؤدي لقلب الموازين في هذه المنطقة الحيوية التي تتقاطع فيها مصالح الشرق والغرب والشمال والجنوب؟
ولأن قوى السودان القديم تعلم أن تغييرات ثورية جذرية من هذا النوع, ليست لصالح مصالحها التاريخية - فهم السادة والشعب هو العبيد - لذلك هي أحرص من النظام الإسلاموي في تقويض الثورة, خصوصا بعد إفلاس خطابها السياسي, الذي يعتمد على التهاويم والأشواق الدينية, ولذلك تحاول طرح مفاهيم مضللة كالكوديسا والدولة المدنية والتغيير والإصلاح وحكومة ذات قاعدة عريضة,
وأحتمالات أن يفضي سقوط النظام لحرب أهلية تفتت ما تبقى من السودان بعد إنفصال جنوبه, وربما حملات إنتقامية وإغتيالات لرموز الحركة الإسلاموية,إلخ.. إلخ مما كنا قد أشرنا إليه سابقا, لكن في الواقع سواء كان الثوار السلميون أو المسلحون أحد أسباب قيام ثوراتهم غياب القانون, ولذلك يعون ويدركون أهمية إعلاء القانون فوق الغبائن والإحن والعداوات, إذ لا يمكنك أن تنهي عن شيء وتأتي بمثله؟ لكن القوى الطائفية غرضها من مثل هذه المبادرات إشاعة الفوضى والبلبلة في الخطاب السياسي الديموقراطي الموحد, للحفاظ على جمل الطين القديم! وفي الوقت نفسه إرسال رسائل خاطئة لمصر والإقليم والعالم, بمعنى نحن أو الطوفان!
ولذلك أشرنا في بداية ها المقال, أن هناك نوع جاد من الحوارات في أوساط السودانيين في الداخل والخارج هو في أحد جوانبه صراع أفكار ورؤى أو بمعنى أكثر دقة تداول للرؤى حول سودان المستقبل. يدور على هامشه صراع آخر بأنماط مختلفة, يتجسد في عنف النظام الحاكم والقوى الطائفية المتحالفة معه والإصلاحيين المزعومين داخل الحزب الحاكم. وصراع هذه القوى ضد القوى الثورية الديموقراطية يشكل عبئا إضافيا لقوى الثورة لأنه يبطيء من إيقاع الثورة وسرعتها في الوصول لتتويجاتها النهائية بالنجاح في إسقاط النظام. وبطبيعة الحال لقوى الثورة ردود فعلها لضمان تحقيق أهدافها!عبر مختلف أنماط ردود الفعل وصور الصراع المستمر لكنه غير مسموح لهذا الصراع أن يتطور إلى حرب أهلية كالتي طالت العراق أو سوريا فهذا محل إيمان وقناعات الجميع!
وبما أن الثورة لازالت في بدايتها فإن صراعها وما يدور على هامشه أيضا مستمر لذا لا يمكننا الزعم أو الإدعاء أن هناك ما يثير القلق حتى الآن فالقوى الثورية المسلحة ليست طرفا في مشهد الخيار السلمي الذي تبناه الشعب حتى الآن! ومع ذلك إنحازت له ولم تتدخل, وما نراه من تعضيدها لسلمية الإحتجاجات من خلال بياناتها وتصريحاتها يؤكد أن الأمور لا تزال تمضي في الإتجاه الصحيح! ما لم تحاول القيادات الطائفية وحلفائها في النظام قطع الطريق على الثورة فلكل فعل رد فعل!
فالجميع كما قلنا بما في ذلك قوى الأطراف المسلحة, تؤكد حتى الآن أن الصراع سيستمر سلمياً من خلال الأفكار والرؤى انطلاقاً من قاعدة حوار مفتوح وغير مقيد ولا توجد أي قوى من شأنها أن تفرض موقفا من نوع معين ما لم يكن هو موقفا مضادا للثورة ومنطقها في إسقاط نظام فاسد كنظام الحركة الإسلاموية! عدا ذلك الجميع متساوون في إنتاج الفكرة التي تحمل الحل لهذا البلد.
هذا هو ما نستقرأه من الحوار الدائر والذي بالضرورة يأخذ أشكالاً متعددة فهناك قوى كثيرة وهي الأغلبية تسعى بكل جهدها إلى إنجاح الحوار الوطني الديموقراطي من خلال التوافق بين القوى السلمية والحركات المسلحة لمرحلة ما بعد نجاح الثورة السلمية التي بالضرورة يجب أن تؤول لإسقاط النظام! للوصول إلى صياغة عقد اجتماعي جديد, يحدد شكل الدولة السودانية (مدنية, علمانية,ديموقراطية حديثة) ويبحث دستوريا إمكانية تلاقي السودان الشمالي مع السودان الجنوبي مرة أخرى, فالجنوبيون أنفسهم صرحوا في أكثر من مناسبة أن إمكانية الوحدة واردة في حال سقوط هذا النظام, وبصرف النظر إن كانوا صادقين فيما قالوا أو لا لكن هذا النوع من الكلام هو حسن نوايا يؤسس لتعاون أخوي يرغب كل السودانيون فيه..
ولذلك على العقد الإجتماعي أن تكون آفاقه قادرة فعلا على حل كل المشاكل والأزمات المتراكمة في مقدمتها طبيعة العلاقة بالجنوب, وأزمة السودان في هوامشه! والتدابير العملية لقطع الطريق أمام قوى الإسلام السياسي التي إستبدت بحكم البلاد لربع قرن من الزمان. خصوصا أنها تملك المال والسلاح. والتي ستحاول بكل ما تملك من قوة إعادة نفسها للمشهد السياسي للإنقضاض على الشرعية مرة أخرى مثلما فعلت في 1989 وفي 1966 "حادثة حل الحزب الشيوعي في ظل نظام برلماني منتخب وطرد نوابه من البرلمان" .. فهذه القوى بما زرعته من قنابل موقوتة وخلايا نائمة -إذ فتحت أبواب البلاد لكل إرهابيين العالم وأعطت بعضهم لا جوازات سفر سودانية فحسب بل دبلوماسية- ستحاول بكل السبل أن تعرقل مسيرة الحوار الوطني, وإستقرار نظام الحكم الديموقراطي! كونها ترى أن نتائجه لا تخدم مصالحها. فولائها لمشروعها الإسلاموي بالدرجة الأولى وليس لسودان التنوع.
فقوى الإسلام السياسي لا تعتقد بأنها مسئولة عن بناء دولة تسع كل السودانيين ولذلك فصلت جنوب السودان عن شماله ولذلك إفتعلت الحرب في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق, ولذلك ليس لقوى الثورة أن تتسامح معها دستوريا وقانونيا, فذلك ببساطة قد يعني للقوى الديموقراطية والقوى الحاملة للسلاح التفريط مرة أخرى في مكتسبات الشعب وحقوقه وبالتالي عليهم واجب أن يضعوا في الحسبان منذ الآن قطع الطريق أمام قوى الظلام والإرهاب وحراس النوايا وملاك الحقيقة المطلقة وممثلي الله في الأرض الذين أصطفاهم ربهم دون غيرهم من خلقه ومخلوقاته!
مخرجات الحوار هدفها الرئيسي الوصول إلى توافق بين قوى الثورة السلمية الديموقراطية والقوى المسلحة في هوامش السودان! للخروج بالبلاد من هذا المأزق التأريخي الذي أوقعتها فيه الأنظمة المتعاقبة وتوجه نظام الحركة الإسلاموية بإنفصال الجنوب وحروب أهلية مفتعلة! للوصول إلى بناء دولة وطنية ديموقراطية حديثة ظل السودان يتطلع لبنائها منذ إستقلاله في 1956.. دولة تضع السودان والسودانيين في المكانة الرفيعة والرائدة التي يستحقونها دون شك!
ميريلاند 10-08-2013
احمد ضحية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.