بمناسبة يوم المرأة العالمي تلقيت دعوة مع أخريات لحضور احتفال السفارة الهولندية بهذه المناسبة. وقد خرج الحفل مراعيا جدّا للمشاركة والابداع النسائي حيث غنت وعزفت على العود سيدتين مقتدرتين. اغنيات من الزمن الجميل والكثير من شعر الحقيبة . تعرفت في تلك الامسية على مخرجة شابة اخبرتني ان لها فيلم سيعرض في هذا الحفل تم انتاجه بالكامل من خبرات نسائية سودانية مما جعلني أرهن مغادرتي للحفل بانتهاء الفيلم. فيلم قرنفل هو قصّة انتظار يومية للرجل الذي لا يأتي او لا يهتم .والفيلم صامت الا من الفراغ العريض الذي يتحدث على هامش حياة السيدة التي اعدت زينتها ومائدتها تطلعا لليلة خاصّة قتل ألق شموعها دوران عقارب الساعة التي كانت ترسم على عصب السيدة ملامح مختلفة من اللهفة والانتظار والقلق والملل والخوف والغضب والاحباط ،حين اتت رسالة معتذرة في جوال السيدة من الزوج الذي لم يتمكن من الحضور. تطور غضب السيدة الى فعل محسوس وطاقة تدميرية حطمت الاشياء وانهالت بالطعنات على تورتة الحلم الجميل قبل ان تضع رأسها الساهم على تربيزة الحفل وتأكل ما نثرته من أشلاء التورتة التعيسة. صحيح انني اعجبت تماما بقدرة الشابة الممثلة وكل تفاصيل الفيلم الاخراجية للاستاذة سلمى النورالا ان الكثير من الاسئلة وجدت طريقها الى بهجتي.. فالفيلم هو اجترار لتجارب النساء المليئة بالعدمية واللاجدوى ..حيث الرجل قضيّة مركزية في الفيلم رغم غيابه كممثل ومخرج وكل شيء. فهو الذي يمنح المعنى لكل الجهد الذي بذلته السيدة في انتظار حضوره ومباركته لهذا كان شعورها بالاحباط والغضب عاصفا. لأنها كانت اكثر من ليلة واحتفال يمكن استبداله هي حالة من انتظار تأكيد الذات والمعنى..رغبة محمومة في الشعور بالجدوى من خلال فعل يباركه الرجل. قلت لنفسي انّني احب قصيدة لمصطفى سند عبر فيها عن ذات المشاعر والاحاسيس المملوءة بالخيبة والانتظار فمالفرق؟! يقول مصطفى:( بلور ضلعك ياعصير الريح سال على/النوافذ والزجاج/مطرا كدمع الشمع يغسل مدخل/الكوخ/العتيق من السياج إلى السياج/قلبي تعلق بالرتاج/أتدق لحظة قربها حانت شراييني/ارتوت/قلقا وكدت من الهياج/أهوي أمزق زركشات ستائري الجزلى/وأعصف بالسراج/الساخر المجنون يرمقني ويضحك في/إرتعاش/هذا الرشاش/ ما صد جنح يراعة تلهو وماحبس/الفراش؟/أيعوق مقدمها النسيم وهذه السحب/العطاش؟/ وألملم الحاكي وأرفع زورق التحف/الأنيقة والرياش/ليخر صرح مباهجي الواهي , ليحترق/ الفراش) تلك المشاعر بعدم الارتياح التي تسبب فيها فيلم قرنفل ذكرتني اجمل القصائد التي احببتها لسند..تذكرت تلك الاحاسيس التي انتابتني اثر مساجلة فكرية بيني وبين حمور عن المرأة في شعر الدوبيت . كنت ارى التعبير عن جسد الانثى فجّا وكان حمور يرى انها طريقة مناسبة لشعراء الدوبيت. رأيت ان وجهة نظره قد تكون بها جانب من الصواب لكن تلك الغصة لم تغادرني حتى رأيت قرنفل واستعدت مصطفى سند وفهمت شيئا عن معاناتي. فحين يكتب الرجل عن جسد المرأة ويتغزل في مفاتنها يكون يكتب عن نفسه واحتياجاته. فهو وان كان سادرا في خلائه او صيده او ايا كان فإن ذكرى المحبوبة لا تعدو ان تكون بمفاتنها الجسدية اكثر من تعبير عن احدى رغباته واحتياجه اللحظي. وهي حالة تختلف عن قصيدة سند – الرجل الذي يفهم- أنّ الانثى كائن حي ومساوي في استحقاقه العاطفي للرجل وحضوره يعني الحياة وغيابه او تأخره يورث القلق والاحباط. حالة من الشوق واللهفة المهتاجة في تعبير رقراق عن العاطفة والحب . وحين تصدر من رجل ربته الثقافة الذكورية على ان المرأة نافلة فإن خروجه الميمون من ذاته ليلاقي ذات أخرى ويتأملها يعبر عن سعي روحي جميل. وبالتالي لهفته وشوقه حالة وجد صوفية حيث افلت من اسار ذاته وتمحوره حول نفسه . واصبح مستعدا لهذه التجربة الجديدة وهو الذي تربى على عبادة ذاته. بالنسبة للسيدة في قرنفل فإن حالة انتظارها ووجدها قديمة واجترار لتجاربها العدمية المتمحورة على الدوام حول آخر ..يمنح المعنى لكيانها حيث تبادل السلطة بالعاطفة والامان. انّ اللحظة التي بدأت فيها السيدة تطلق شعرها الذي كان مصففا بعناية على حريته كانت تعبر عن حالة عالية من اليأس والرغبة التدريجية في الاحتجاج الذي لم يفقد الأمل. وهذه الاحتجاجات البسيطة والتدريجية التي انتهت بتدمير كامل لكل ما عكفت على اعداده بعناية كاملة من اجل رجلها كانت تهمس لي انّ هذه المرأة عاجزة عن ايجاد موضوعة ومعنى لحياتها بعيدا عن الرجل ..تذكرت ادريان ريتش وقصيدتها (المنابع الطبيعية) حيث رأت كارول بي كريست انها كانت تصف فيها( طاقة النساء التي تبددت في البحث عن وهم الرجل- الذي- ربما- يفهم/ الاخ المفقود- التوأم. تستنتج ريتش أن الرجل يطلب دماء النساء من اجل الحياة/ صدر امرأة ليريح كابوسه من فوقه) ان الرجال باستخدام النساء كملجأ، قد خلقوا عالما ديدنه العنف والحرب. فالرجال يظهرون(سلبية نخطئها نحن في غمرة اليأس من سعينا/ فنحسبها رقة ودماثة)... فيلم قرنفل كان تعبيرا قويا عن حالة العدمية التي تعيشها المرأة في السودان.. والتي اتمنى أن نجد جميعنا طريقا الى خارجها عبر سعينا الروحي والاجتماعي.. محطة أخيرة: (انني متعبة من الجبن/لاضطرارهم ان يكونوا استثناءا/لان يفعلوا مثل امرأة عادية/تفعل في مجرى الاشياء) ادريان ريتش.